- 1 -
على نغماتِ كلامه تفّتحتْ أنوثتي ، صرت أقف أمام المرآة كثيراً ، أتأمل جسدي ، أتحسس طياته ، أستكشف مفازاته ، أسير في صحرائه ، فتلهبني حرارته و سرابه ، أبحث عن واحةٍ أو نخلة ، أستلقي تحت ظلها ، وأغفو بانتظار أن توقظني لمساته ، لمساتٌ بحرارة جسد يحترق ، لمساتُ أصابعَ كالصواعق لجسدٍ كله قنابل موقوتة .
هاهو يطلّ من نافذته ، تخترق أنفاسه الزجاج ، تلسع وجهي بحرارتها و جرأتها ، تجتاحني نظراته , مثل خيول برية تستبيح سهولي ، وقع حوافرها يوقد في صدري ألف بركان وبركان ، يبتسم ، فتنسكب أنهارٌ من الزيت ، تزيد نيراني اشتعالاً ، فأحترق بلذةٍ وخدر .
ابتسامته تحاصرني ، تتسلق أسواري ، تدكّ أبواب الرهبة ، و تحطم الصفيح الصدئ ، تتسلقني ابتسامته ، فتنطفئ مقاومتي ، و تستسلم شفتاي ، وترسمان ابتسامة وردية . يلوح بيده ، فينتفض قلبي ، وتلوح يدي ، يغلق نافذته . أبقى وحيدةً ، أغمض عيني ، تكتسي السماء بلونٍ وردي ، أحلق عالياً ، هل هو الحب ؟ .
سؤال يكبر ، يتضخّم ، يمتد بين الروح و الجسد ، بين القلب و العقل ، هذا الذي يكسو الأشياء ثوب البهجة و الحضور الناصع ، الذي يجعل لوناً و مذاقاً لكل شيء ، و يجعل كل مذاق ألذّ و أشهى ، وكل لون أزهى و أجمل ، هذا الذي يبعث الحياة في الدنيا ، ينمّي البرعم ، و يفتّح الزهر ، و يدني الثمر ، و يُكبّر الحلم ، هل هو الحب ؟.
عندما ولدت ، فرح أهلي كثيراً ، الناس يفرحون لولادة الصبي ، أما أهلي ففرحوا لأني البنت الوحيدة بعد ثلّةٍ من الشباب .
و مثل برعم صغير نشأت محاطة بالكثير من الرعاية و الاهتمام و الحراسة بين جدران أربعة ، نشأت ، و كبرت ، أهلي يخافون عليّ ، جمالي قاتل كما يقولون ، ولا يريدون أن يفسده أحد ، رافقتني الجدران منذ طفولتي حتى أخي المغترب أرسل لي هدية في عيد ميلادي الخامس ، مكعبات ملونة لأبني منها جدراناً ، حتى في نومي تحاصرني الجدران ، و أحلامي لا تتعدى حدود البيت .
مضت سنوات كثيرة ، و أنا أصارع الساعات و الأيام ، أتأمل نفسي في المرآة ، و أغمض عيني ، فأرى فارساً وسيماً على جوادٍ أبيض ، يدكّ الجدران بسيفه ، ويأخذني بعيداً ، لم أشعر بطعم الحياة حتى رأيته ، كان ينظر إلي بغفلةٍ مني ، ينظر إلي بدهشة بريئة ، ارتبكتُ بسعادة ، أحسست بنظراته تخترق جسدي ، شعور غريب سيطر عليّ ، عرفت لأول مرة في حياتي كيف تكون نظرة الرجل للمرأة .
نظراته تخدّر عقلي ، و تلهب جسدي بالسياط ، تصل مكامن الألم ، و تكشف ما يجول في خاطري .
نظراته تعريني ، وتفضح أفكاري ، تكشف عن الظمأ الحار للآخر ، هذا الظمأ يتحول إلى نارٍ تحرقني بسعادة ، فأتمسك بها ، وأقاوم كل محاولة لإطفائها .
هذا الظمأ منحني الشجاعة ، فبادرته الكلام ، وتكررت اللقاءات مراتٍ في اليوم الواحد .
- 3 -
اتكأت على طرف النافذة ، وأحلامي ترفرف حولي ، أطلّ بابتسامته الهادئة ، و أنا أرتعش فرحاً : سأسافر .
نطقها بكل حروفها دفعةً واحدة ، لم يخش عليّ من وقعها ...
يسافر ؟! .
ويتركني وحيدة ، ماذا أفعل ؟ .
يسافر ، و يترك الأحلام و الأماني و القنابل الموقوتة ، فماذا أفعل بها ؟ .
هل أخنق أحلامي لتصبح أكبر و أشد مرارة ، و القنابل الموقوتة هل أفجرها ليزداد انشطاري انشطاراً ؟ !.
- تسافر ؟ و أنا ماذا أفعل ؟.
- سأعود في أقرب فرصة لأخطبك ، سأتصل بك كل يوم ، أعدك بذلك ، لقد أنهيت دراستي ، ويجب أن أعود للقرية.
ثم رحل ، رحل هكذا بكل بساطة ، وكأنّ شيئاً لم يكن ، كأنّ الليل لم يأت يوماً ، و كأنّ النجوم لم تسهر.
في بدايات غيابه يتصل بي كلّ يوم عندما يكون السجن خالياً إلا منّي .
و بمرور الزمن صار يتصل مرة في الأسبوع ، ثم مرة يتيمة في كل شهر .
و قال في المرة الأخيرة :
أتمنى أن تجدي إنساناً يستحقك ، سأتزوج فتاة من قريتي .
محال ؟ ! .
يتزوج ، و يتمنى أن أجد حبيباً غيره ، وكأنّ الحبيب رداء نشتري أو نخيط غيره إذا فقدناه ، وكأنّ القلب مضخة آلية تعمل إذا أدارتها اليد.
- 4 -
فقدت شهيتي للطعام ، وفقدت حيويتي و مرحي ، أجلس بين أهلي صامتة شاردة ، وفي النهاية اعتزلت في غرفتي ، ذبل عودي ، وأنا أقف أمام النافذة معظم أوقاتي ، بل معظم أوقاته .
ساءت حالتي ، صرت كالممسوسة .
جاؤوا بطبيبٍ أول ، وبطبيبٍ ثان وثالث ، كلهم قالوا : ليست مريضة .
آخر طبيب فحصني ، وضع السماعة عند القلب أولاً ، أرهف السمع ، ثم أعلن : القلب سليم .
تعجبت كيف يكون القلب سليماً ، و هو ليس معي ! .
شربت الأدوية ، علّقت الحجب والتمائم دون فائدة ، أحلامي تكبر ، و يزداد انكساري ، و بما تبقى في جسدي من ضعف ، كنت أقف أمام النافذة التي نقلتني إلى عالم آخر ، و تركتني عاجزة عن العودة إلى عالمي الذي جئت منه .
لماذا أتعذب ؟ .
هل ذنبي أني فتحت نوافذي و أبوابي ليدخلها الحب ، و استفاق جسدي بكل مساماته ليتشربه نظرة نظرة و همسة همسة .
فقدت قوتي ، صرت عاجزة في السرير ، لا طعام و لا نوم .
جسدي ينكمش ، و يتضاءل , أحلامي تكبر ، و تتورد ، وما بين الوهم والحقيقة ، أتيه مرة و مرتين ومرات ، تهيم روحي مشبعة بحبٍ ميت وفضاءٍ كاذب .
عندما تحولت إلى جسد بلا حركة ، و قبل أن أفقد القدرة على الكلام ، طلبت طلبي الأخير ، أن يضعوا الهاتف بجانبي .
و أنا شاردة في فراشي أراه يمرّ من أمامي مع فتاة أخرى , أثور ، أقف لأناديه ، فيصطدم رأسي بالسقف ، أمدّ يدي ، فتصطدم بجدار ، أرفع بصري ، فيرتد عن الجدران خائباً ، أصرخ ، أناديه ، تصطدم صرخاتي بالجدران ، تتضخم ، تمزق غشاء الطبل و تنهك الروح ، و رنين الهاتف يأتي قوياً ، تضخمه الجدران ، ويضج رأسي بالرنين ، أستجمع ما بقي من عزيمتي ، تمتد يدي ، وعندما أضع السماعة على أذني ، يتوقف الضجيج و الرنين الصاخب ، ومرة أخرى يضجّ رأسي ، يتضخم بسبب هذا الصمت ، صمت قاتل ، يتضخم بين جدران الغرفة ، ويهاجمني بقوة .a