كلوديـا ...بائعة التّفّاحْ، دَّكْنَاء كحبة بُن، كانت كالرابعة والعشرين شَّتاءًا...أيُّهذا الجمال؟ حُزْن في عينّاها البّلّيلة، كأنكسار الغروب بخموره المُعَتقة. حُزْنها جحيم سحيق، صفيق،...حُزْن يسير بمَسّاء خَلفَ أطراف عميقة السَّماءُ، كُلّ شيء في يديها يُسكب في طيوب. يَطالَه رفات السفر، في حليّكَة، وَالسير الذهول، يتمادى بنان شّحذ في الجسّد الرَّاقص تيهه.
كلوديـا ...كانت كالفراشة تطير بأنبهار، تتلظَّى وتنشُّ الفرح المَّيتُ والتليفُ، تثريّ مسخ عملاق منْ الزوال وَالطَّويَّهْ، تُسرج وَتًسرح فرْط الدلّال، تًطلَّ عَلينا من قلادات البلايـا، تمسُّ، تًلوي، تًفتح المزاليج الحزْينة بالعَيْن بلكزة قويّة، تًذَرْذَرْ مُخْمَل اللَّحْن.أيُّتها العطرُالمُرَفَّه، وَرَخاءَ الوهجُ، وَأُغْنيَّةَ الحُسّن العَفّيفّ، كلوديـا مَليكَة مُثْقَلة النشّيد المُدلَّل...، بَابَ الْمَدينّة كَقصيدة تنشّي رَخاوة الْتميّع بالْمَيل وَالْشَّهوة وَالْهوى، الخَمْرَةُ تتحلَّب منْها العاطفة، تعلَّم ذاك الْقَلْبَ يَشيل الْبَحْرَ إلَى القادمون، الخوافيّ، وَبَخَرُ الْخمرة أشْيعُ من لَّمْس الْقُبلّة، قَطْفاً، في شرهة متحفزة أبدًا للوثوب....،كلوديـا مُنسرحة كَصفحة النّهْرَ تتقفى أحُزْانها الَّتي لا تُمهي، كأنَّما إنسراح يَمطلَ فيها منَ الرموز خليقة منْ الأستعارات وَالتشّابيه لحُزْنها الأَيْهَم.
كلوديـا غَريبة في هذه الْمَدينّة المُؤجلة، غريبة خَلْفَ هذه الحانة الْحَجَريَّة تجئ، بعيدة تراها للحياة، تحفر مَنْ قابلها خطاها، لها ذاكرة شاسعة وأبخرة، منْ خلاّل الْنَوافذَ المُتَمَوّجَة والْصَّفائح الوَحلة تَراها، تَرنو إلَى أشّراقة السكون، تكتمل في شُبَّاك كَالخُطى، كأزهّارُ الشبَّابيك تَنتظر، وعيناها كَحقول ترزح تَحْتَ الخريف...، كلوديـا صَّمْتها مُتسع كَالأَعماق، كَضَّؤ الْهمزة في آخَرَ الْكلمة، كاَلّأزقَّة الْحَجَريّة المُتكسَّرة، وَتتأمل بهدؤ كَالْطيور في الْبَرَاريَّ الواسعة، تَرقبُ في الدُّرُوب كَالّمقابر، تتجه إلَى دَمْها ... ولاّ أَحدَّ يلتقاها بالعزاء.!
كلوديـا فيها الغابة وَضّياء الْمَطَر، تَلتقيني قليلاً كَالناس، بالصّبْح كَالتّفّاحْ، تزارعني صَّمْتي بأتسّاع اللَّيل وضيق الدُّرُوب، تزارعني أبْتسَامَتي الخريفية، تَنهمر عَليَّ كألعاب الطّيْورُ شفافة وَمْيضة، وَبَعْدَ كُلّ لقاء تلقيني التحية بصَّمْت، وَلاّ تبدل من الضَّياء، تبادلني أنتزاعاتي، وَتسّالكني الظَّلال كَالضَّؤ وَالسكون، تتقاسّمُني في حجرتها تلك، فسحتها الْظَّلمَاء من الْوَهم وَالْوحشة....
كلوديـا لَّيَل من الْصَّفاء، تتمتمني في تتابع رتيب للْعشّق، لَمْ تقبض علَيها الْظّلمَة والبرودة بَعْد، تنهض بأبْتسَامَة كعيدَ تّفّاحْ القرية، تعبر بعيدة من لون الثلج الباهت، إنَّها كَسَّراج ... تَحْب الصَّمْت وَلَمْس اللَّوْز والتّفّاحْ...كلوديـا تَجلسُ كَعادتها قبلَّ وَداعي، خَلْفَ الحانة الْحَجَريَّة، ليس كالنوافذ الفارغة، تودعني وَفيها مَلْمَس الشَّمس وَالمشّمش، تتلوى دَمْعَتها بتلويحة كَمدار يَتلوى، وَبعَيْنيها أقوام في أنفاسها يُهرولون، وَبعدَ كُلّ وَداع تقلع قبلتها الصَّباحية في سلال الغابة..تعبر كُلّ الصَّباحات بصَّمْت داَفئ كَالّْحضن، تعبر وَفي داخلها الْشَّوارع وَالْبيوتْ، ممنْ يجعل اللَّيَل وَالقَمْرَ والصَّمْت كَالتّفّاحْ في السلال، إلَيهّا يتدافعون...،آواه....كلوديـا، فأفريقيا التّفاح أرخى مالحًا دونك.!