تسلقت جدار قصر (القادر)، ووثبت إلى الحديقة. اختبأت بين سيقان أشجار الليمون وأغصان الزهور الشوكية؛ من أجل أن أشاهد (حواء). كانت الساعة قد تخطت العاشرة ليلاً والظلام قد نشر ذراته السوداء في فضاء بغداد. رغم إنها ليلة اكتمال القمر إلاّ أن سحب الخريف قد دثرته وحجبت ضياءه. من بين كتل الظلام قدحت عيناي تتلصلصان كعيني ذئب متحفز للانقضاض على فريسة. ترقبان نوافذ القصر بحثاً عن نافذة مضاءة. كنت أبذل الجهد من أجل السيطرة على وجيب قلبي وارتجافات تركزت بين ساقيّ وأسناني. بدأت تجتاحني مشاعر بركانية تمتزج فيها حمم رعب من فضيحة ورغبة مستعرة لمشاهدة (حواء).
قبل تلك الليلة ببضعة أشهر، بعد أن بلغتُ عمر الرابعة عشرة، دأبت على ممارسة هذه العادة الليلية الخطيرة. وكم كنت أعاني من مشاعر الاثم؛ لأني بسبب حاجتي الجنونية لرؤية معبودتي، اضطررت إلى التعود على مراقبتها مساءً عبر النافذة. الحقيقة أن الأمرَ حدث صدفة، عندما شاهدتُ ذات مساء عبر النافذة تلك الشابة الغاوية المغناجة وهي تخلع ثيابها. منذ وعيت حبي لـ (حواء)، انتبهت أيضاً لانجذابي الشبقي لخادمتهم (خانزاد). كم أحسست بالخزي كلما أدركت الشهوات التي تستثار في جسدي على مرآها أو حتى خيالي. كنت في كل مرة أناجي طيف (حواء) وأعتذر لها؛ لأن خيال (خانزاد) قد لوث حبي وشغلته لذّة الجسد عن مشاعر الروح.
إن شغفي برؤية (حواء) يعود إلى زمن الطفولة. منذ أن بدأ عملي في حانوت أبي. قبل بلوغ عمر السابعة قالت لي أمي أني أصبحت رجلاً وجلبتني كي أساعد أبي.
كان الحانوت يجاور دائرة الأمن العامة في محلة السعدون وسط (بغداد)، التي تتميز بسكانها الأغنياء من تجار وموظفين كبار ودبلوماسيين. أما دائرة الأمن فإنها كانت تزدحم برجال شرطة مدنيين وعسكريين، بالإضافة إلى معتقلين بمختلف أصنافهم، كادحين ومثقفين ووزراء وقادة أحزاب وحكومات متساقطة. مع الأعوام وتنامي العنف والاستبداد راحت تتوسع هذه الدائرة بلا كلل كالسرطان في داخل المحلة، تزحف نحو البيوت المجاورة وتهدد بابتلاع قصر التاجر الموصلي المعروف (القادر).
* * *
رغم الحاجز الأمني المحيط بالقصر إلاّ أنه لم يكن سبباً كافياً لكبت رغبتي بالقفز ليلاً إلى الحديقة والتلصلص عبر النافذة بحثاً عن (حواء). كنت أدرك جيداً خطورة مغامراتي الليلية وهول الفضيحة والعار الذي قد تجلبه. في كل مرة كنت ألوم نفسي بحرقة وقسوة وأحلف أغلظ الأيمان أني لن أعود لتكرارها أبداً. لكن المساء عندما يشرع ويعّم السكون الموحش دروب المحلة وتتسرب من المآذن البعيدة نداءات (الله أكبر) حزينة جارحة كأنها كلمات وداع للدنيا، تتفاقم عتمة الوجود في صدري وأحس بعزلة كونية كأنها الموت. حينها تستحيل روحي إلى وقود أسود يشتعل برغبة نارية لرؤية (حوائي).
في تلك الليلة الخريفية بدا القصر شاحباً يثقل عليه سكون تتخلله همهمات تتناهى من بعيد مع نقيق ضفادع وهفيف ريح تداعب الأغصان وتذوب في أنفاسي المكتومة وهمهماتي الخائفة. كانت نوافذ الطابق الأرضي كلها منطفئة عدا واحدة، كنت أعرف أنها نافذة غرفة التلفزيون. سَرَتْ في بدني قشعريرة أشبه بلذة وأنا أفكر بأن هنالك أملاً كبيراً برؤية معبودتي وهي تشاهد فيلم السهرة كعادتها في معظم الأماسي. من دون تردد اتجهت نحو النافذة متخبطاً بين شجيرات الزهور الشوكية غير مبال بالخدوش العميقة التي أحدثتها في وجهي وذراعي. فجأة تجمدت في مكاني وتكورت بسرعة بين الشجيرات بعد أن اجتاح المكان ضجيج جامح وخطفت أنوار كالبرق. تبين أنها قادمة من إحدى سيارات الأمن التي توقفت محاذاة السياج. تناهى إلى سمعي من خلف السياج، خليط من ضجة أبواب تنغلق وقعقعة أسلحة وصفعات وأوامر وشتائم:
ـ شيوعي كلب حقير...
ثم أجابتها كلمات متأوهة:
ـ أرجوك يا أخي، مو كسرت ضلوعي.. إنگطع نفسي ياجماعة.. الله يخليكم، صدگوني آني بريء، والله بريء...
ـ اسمع الكلب يحلف بالله، الكافر ابن الكافر يحلف بالله..
راحت الأصوات تتلاشى بالتدريج، وعمّ السكون من جديد. حينها أحسست بقواي تنهار فارتميت فوق الزهور والأطيان متفجراً ببكاء حارق ونحيب مخنوق بينما كفاي تغوران في التربة وتنهشان لحم الأرض. شرعت الكلمات تخرج مني كهذيان:
ـ بريء والله بريء.. صدگوني بريء.
كان نحيبي مفعماً بعتاب وغضب. لم أكن أخاطب (حواء) بل الله وأبي ورجال الأمن. قبل أشهر اندلع في روحي حريق الشك، عندما أعادت لي (حواء) رسالتي التي أمضيت أياماً ولياليَ لأكتبها على ورقة زرقاء مزينة بفراشة ووردة ومضمخة بعطر اختلسته من أختي. لن أنسى أبداً تلك الساعة الرمضاء من أوائل الصيف الماضي عندما نادتني (حواء) وكان وجهها شاحباً بحمرة نارية كشمس بغداد وقد غطتها عواصف الصحراء الرملية. امتدت كفها من خلف قضبان الحديقة، تعيد لي رسالتي وهي تخاطبني بصوت طفولي بريء رغم الغضب والارتعاش:
ـ خذ هذه رسالتك، قرأتها أمي وراح تحكي لأبوك....
* * *
في تلك الليلة الليلاء كنت في قصر (حواء)، أنهض من أطياني وأحبو كذئب نحو النافذة التي ما زالت مضاءة. لا أشتهي شيئاً في الدنيا غير مشاهدة (حواء). يا إلهي، شهور الصيف كلها لم ألمحها حتى لمرة واحدة. اللعنة على السفر وعلى من اخترع السفر. لماذا هكذا يا أوربا، تتعاضدين مع أعدائي وتخطفين مني معبودتي؟ لتذهب إلى الجحيم باريسك ولندنك وجنيفك، وليعّم الخراب مدنك ومطاراتك وشواطئك التي تحرمني كل صيف من إيماني وآلهتي.
وقفت تحت النافذة المرتفعة عن الأرض بثلاثة أمتار. أتنصت إلى الأصوات القادمة من التلفزيون. كان فيلماً مصرياً (الخطايا) أحد أفلام عبد الحليم. صوت صفعة وتوبيخ الأب (عماد حمدي) لابنه على مروقه. بعد قليل انطلق (عبد الحليم) بصوت دافىء حزين:
"لست أدري أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير... لست أدري أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير... لست أدري أين أحلامي وكانت كيفما سرت تسير... كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت لست أدري".
أصابني الخدر وسرت نشوة في بدني وعمَّ السلام روحي. اتكأت على جذع السنديانة، وعلى أضواء المصابيح المتسللة من دائرة الأمن عبر الأغصان رحت أنظر إلى نفسي وقد غطاني الطين وتيبس الدم على خدوشي. فكرت بإخوتي وأصحابي ماذا سيقولون عنّي لو عرفوا بمغامراتي هذه، فكرت بالفضيحة والعار، وكيف انحدر بي الحب إلى هذا الحال.
رحت ألعن الليل ووحشة الليل التي جعلتني هكذا بوحدتي وعزلتي ألجأ لمثل هذه المغامرات المقرفة لكي أشاهد حبيبتي، بسببها اكتشفت هذه العادة الخطيرة. منذ أن تعودت النوم في حانوت أبي معظم أيام الأسبوع، والعودة من مدرستي المسائية لأن دارنا كانت بعيدة شمال بغداد ـ الكاظمية. كنت أنام وحيداً على قنفة عتيقة تحت سقف حانوتنا المتداعي، يحيطني ظلام وحفيف حشرات لم تأو بعد إلى جحورها المنتشرة في أنحاء الجدران والسقف. كنت أفكربـ (حواء).. أريد أن أراها.. أكلّمها وأبكي على صدرها.. أتكَّور بين أحضانها.
* * *
عشقي لـ (حواء) علمني عشق أوربا والاغتراب. عندما كانت تعود من غيابها في الصيف، كانت تتحدث عن مدن بعيدة، بعيدة جداً وكأنها في عوالم أخرى: باريس ولندن وجنيف وأمستردام. في كل مرة كنت أشاهد هذه المدن في عيونها الخضراء حتى استحالت أوربا مع الزمن إلى جنان خضراء تقيم في عيون (حواء).. كل شي في أوربا كان أخضر: مدنها ومزارعها ومصانعها، حتى بحارها وسماءها كانت خضراء.. حتى شموسها كانت خضراء، لا تحرق مثل شمس العراق الرمضاء.
هذا الصباح علمت بعودة العائلة من أوربا. بذلت جهدي طيلة اليوم متقرباً من الخادمات والسائق لأسترق الأخبار عن (حواء): كيف أمضت أيامها ومن رافقت في أمسياتها؟ سمعت أنهم جلبوا حاجيات وهدايا لا تقدر بثمن. الطباخة العجوز (جوليت) همست في أذني وهي تقسم بالصليب أنها شاهدت حيواناً عجيباً جلبته (حواء) معها من أوربا. لم أفقه لماذا شعرتُ بالقلق من هذا الخبر، وتوجست النحس منه؟ رغم أني ألححت بالسؤال على العجوز إلاّ أني فشلت في معرفة هوية ذلك الحيوان العجيب.
تشبثت بتعرجات الحائط ورحت أتسلقه حتى أمسكت بماكينة التبريد المرتفعة أكثر من ثلاثة أمتار. ألصقت وجهي بمشبك النافذة، وحدقت عبر فتحات الستارة: كانت هي نفسها.. (حواء) بعيونها الخضر تشاهد التلفزيون. (حواء) وشعرها الذهبي ينير المكان ويضفي عليه وهجاً شمسياً.. مستلقية على الأريكة وثوبها مرفوع متكور بين فخذيها الورديين.. وحيدة تشاهد فلم (الخطايا) وتدمدم بأغنية (عبد الحليم حافظ)، محركة أصابعها مع النغمات. تمنيتُ لو أمضي عمري هكذا أنظر إليها.. تمنيتُ لو تحدث معجزة وأتحول أنا إلى تلفزيون تجلس أمامي لتشاهدني وأشاهدها.. تمنيت لو أني كنت واحداً من إخوتها، خادمها، حارسها، ملاكها، إلهها الذي ليس له من المخلوقات إلاّ هي.
تمنيت وتمنيت.. لكن فجأة قطعتُ سلسلة تمنياتي ضجة قادمة من الأسفل. اقشعرَّ بدني وتيبست دمائي وأنا أسمع صوتاً قادماً أشبه بزئير. التفتُّ بسرعة نحو الأسفل فرأيت تحتي على الأرض كائناً غامضاً. للحظات ظننته وهماً أو بشراً متنكراً. حدّقت وحدّقت وأنا أتمنى في أعماقي أن أكتشف تفاهة الأمر. لكني كنت أراه بوضوح أكثر.. أسمع زمجرته، وأتيقن من وجوده: كائناً وحشياً متحفزاً للوثوب وعيناه جمرتان تقدحان بحقد وشهوة افتراس.
في حياتي كلها لم أشاهد مثل هذا الكلب. فأنا عشت سنوات طفولتي وصباي أصارع كلاباً سائبة في أزقة بغداد. كم من المرات في الليالي وعند ساعات الفجر وحيداً في دروب محلة السعدون، خضت حروباً حقيقية من الكر والفر ضد مجاميع كلاب سائبة تسّد عليَّ الطريق. لم يكن سلاحي غير الحجارة والصراخ. لشدَّ ما مقتّ أيام الخصب في الربيع؛ إذ تتفاقم وحشية الكلاب. تستحيل دروب المحلة وخرائبها إلى سوح مضاجعات جماعية وفجور كلبي. الكلبة عندما تنجب تصبح أماً متوحشة؛ لأنها تعتبر كل من يمر في الدرب عدواً قادماً لاختطاف جرائها. من تلك التجارب المريرة تعلمت درساً واحداً لا أشك أبداً بصحته: أن لا أنهزم أمام الكلب.. مهما كان الكلب جباناً فإنه سيستحيل إلى ذئب يلاحقك حتى ينهش لحمك. مهما كان عدد الكلاب وشراستها، فإن الخلاص الوحيد أن لا تدير لها ظهرك.. واجهها بصراخ وتهديد.. وارم عليها حجارة.. إن لم يكن في الأرض حجارة لترمِ عليها تراباً أو حتى هواءً. تمَّسك بالكرِّ والفرِّ، وعندما تضطر للتراجع ابق بمواجهتها وعيناك في عيونها.. المهم إياك والهزيمة.
لكن يا إلهي ما هذا الحيوان بكلب مثل بقية الكلاب، أهو هذا الحيوان العجيب الذي جلبته (حواء)؟ في حياتي كلها لم أشاهد مثله: ضخم كأنه ذئب يحوم فاتحاً شدقيه مزمجراً ورافعاً قامته مستعداً للوثوب. اللعنة على أوربا، حتى كلابها أعظم من كلابنا.. أشبه بذئاب ليس من أمل بمواجهتها.. سياسة الكر والفر لا تنفع معها.
مكثت عيناي تنطّان بين النافذة والأرض: هنا (حواء) والفضيحة.. هناك الكلب والموت! ياله من مصير ما له مثيل. إن هبطت فليس بانتظاري سوى تلك الأشداق الذئبية ومخالب الموت. إن بقيت، فإن (حواء) وأهل القصر ورجال الأمن قادمون لا محال على نباح الكلب وعوائه. يا للفضيحة.. ماذا ستقول عني إيمان وأهل إيمان.. ماذا سيقول عني أهلي وأصحابي وسكنة السعدون.. ثم رجال الأمن، يا إلهي رجال الأمن ماذا سيفعلون بي، هل سيعذبونني ويرمونني مع المعتقلين؟
زمجرة الكلب تشتد وتتصاعد، يقيناً أن النباح سيوقظ الجميع، في كل الأحوال الموت بانتظاري، إما بين أشداق الكلب أو بين أشداق المجتمع. الفضيحة أمام (حواء) والناس تعني لي أكثر من الموت، ولو انتحرت فإن عار الفضيحة سيطاردني حتى في الآخرة. أحس بكياني مدينة تحاصرها جيوش مدججة بموت وعار. أفكار مرتعبة تمتزج بمشاعر هائجة صانعة دوامات نارية تعصف بدماء تجري فوّارة كحمم في العروق، عيناي لا تشاهدان من الوجود غير عينيّ الكلب. أنفاسي تضج بهمهمات وحمحمات تفور في أعماق صدري. كل شهقة وزفرة تنتظم مع ترددات زمجرة الكلب وتتصاعد منمسخة إلى أصوات وحشية.. أشهق وأزفر.. أشهق وأزفر.. أششـ.. أزز...…
أزأر وأزمجر ويبزغ من بدني شعر شوكي..
فمي يتضخم وتنبثق أنياب في فكي ولعاب ينزف كثيفاً وأظافري تستحيل مخالباً و..و..
وإذا بي أنفجر فجأة بصرخة معتوهة تشق الظلام وعصف صداها في الفضاء مخترقاً جدران القصور والسجون؛ لينفذ إلى مسامع الناس والحراس والسجناء. في نفس اللحظة وجدتُ نفسي مرتمياً فوق الكلب ممتطياً إياه وخامطاً رأسه بين مخالبي وغارزاً أنيابي في لحمه. حشرجات وجع مختنق كانت تصعد من صدري بعويل شاك معذب وأنا أتهاوى على الأرض صريعاً.
حينها لم أكن مرتعباً أو غاضباً، بل كنت أحس بطوفانات من اللذة تسري بكياني. حشرجات الكلب بدت تشبه تأوهات شهوة، وطعم السائل الحار في فمي كان حلواً كلعاب قبلات. في لحظات النزع الأخير جحظت عينا الكلب وصار لونهما أخضر أخضر أخضر.. يشع بشبق وحنان.
مع تصاعد الشعور باللذة كانت صرخاتي تستحيل إلى عواء ذئب يتفجر من أشداق ملوثة بشعر ودم. لذتي تتصاعد إلى الذروة، بينما الكلب يستحيل كله إلى أخضر.. كل الوجود يصير أخضرَ: الجدران والنوافذ وذرات الظلام والأنوار.. أما عوائي فإنه ظل يتصاعد ويعلو في فضاء محلة السعدون ويشق جدار البيوت والمكاتب والسجون ويصبغها كلها بلون أخضر مثل عيون حواء.
هذه القصة جزء من الرواية القصصية ( تاريـــــخ روحـــــي )الصادرة هذا الشهر من بيروت.