ذرعه القيء ، فاستجمع ما بقي من قوته الخائرة، وقصد الحمام. مشى على رؤوس أصابع رجليه وهو يضع جماع يده على فمه حتى لا يُسمع، ولا ينسكب شيء من عصارة أمعائه على الارض ، كم استطال المسافة بين غرفة نومه والحمام ! رغم، أن بيته في غاية الصغر: صالة وغرفتان و ...
لا ريب أن مرضه استغول و بلغ مرحلة متقدمة عما كان عليه فالتعب تضاعف والالم استفحل. انكفأ على المغسل ، و أفرغ ما جاد به جوفه ذاك الصباح ، ثم غسل فمه بماء دافق غسلا حتى لا يعود شيء مما أفرغ إلى بطنه ، فيظل يتمطق مرورته، وصب على وجهه قدرا سخيا منه ، عل برودته تنعشه ، وإن لم تفعل فقد تلطف شيئا من الحرارة التي تتأجج بين حناياه .
استوى ونظر في المرآة فعكست له عينين متعبتين بالسهر والمرض، ووجها تلفه صفرة فاقعة ، تلمسه بيد مرتعشة فهاله نتوء عظمتي وجنتيه وغور محجريه.
أحس بسخونة تدب في جسمه، تتسلقه صعودا ثم تستحيل عرقا باردا ينزل سقوطا وسط ظهره وعلى أطراف فخديه آن جلجلة همس الطبيب الذي ما انفك يتردد بين دهاليز اذنيه : « أصدق القول يا سدي : إن وضعك جد حرج ، فالكبد تشمع كليا ووظيفته توقفت تماما، ولا علاج، ! ولا أمل ! إلا عناية الرحمن ... فصبر جميل»
كاد أن يصيح لكنه تمالك نفسه ونبس :« حمدا لك يارب على كل حال » .
عاد إلى غرفة النوم ،بعدما عرج على المطبخ وأخذ قطعة سكر يبدد بها مرورة فمه .
استلقى بهدوء مفرط على فراشه خوفا أن تستيقظ زوجته، فيدخل في متاهات الأسئلة ، فيضعف ثم، يخبرها الحقيقة التي جاهد أن لا يعرفها أحد...
كان البيت يعوم في ضوء خافت تكرمت به مصابيح الزقاق ، وساكنا يمزق سكينته نبض دقات الساعة. تنبه له، فالتفت إليها.
ففاجأه حلول الخامسة ، لقد ظن أن الليل لازال في هزيعه الثاني، تأفف حسرة ، ثم قام من فراش بالكاد لامسه
خلع ملابس نومه، ولبس كسوته الرسمية : السروال الأزرق البحري اللون وقميصه الموشى بنيشان الشرطة ، ثم، أدخل يده بهدوء تحت المخدة، فتحركت زوجته ودارت إلى الجهة الأخرى، وقالت له : ـ دون أن تفتح عينيها ـ « استيقظت يا أحمد ،هل أصبح ؟ ما بال هذا الوقت اضحى متعجلا ؟.»
لم ينبس بكلمة ولم يرد كأنه ما سمع بل مضى في استعداده ، فأخرج من تحت المخدة مفتاحا، فتح به درجا بالسرير، وأخرج حزاما جلديا تمنطقه، وسده وهو يعد الثقب: واحد ،اثنان ، ثلاثة ، إنه لا يهزل بل يتحلل ، فك عروة الغمد ،وسحب منه المسدس بخفة المتمرس ، تفحصه بعناية وهو يقلبه، نزع زر الآمان ورفعه حتى لامس نحره ، وشرد هنيه .أي خاطر يكون قد ساوره تلك اللحظة؟ ! الله وحده أعلم . رد المسدس إلى غمده من غير أن يعيد زر الآمان ولا العقدة إلى العروة ، لا عجب ! فالروح مهدودة ، والخاطر مكسور، والجسم متعب .
شم رائحة القهوة آتية من المطبخ معلنة إنهاء أمه لصلاتها ومباشرتها إعداد الفطور، إنها امرأة مشغال، لا تكف عن الحركة ،ولا تنام إلا لماما رغم إتمامها ثمانين حولا !. دلف وسط المطبخ دون أن تشعر به، فحاسة سمعها أضحت خائنة لها منذ شهور خلت، قبّل رأسها ثم هوى ومرغ وجهه في راحتها، فامتزجت دموعه ببقايا بلل وضوئها. مررت يدها على رأسه وهي تقول له :« أحمد ! الله يرضى عليك يا بني وينقي طريقك من الشوك » ثم استطردت : « عليك بزيارة طبيب، فحالك لم يعد يروق لي ،حتما أنت مريض وتكابر، زر طبيبا يا ولدي ... في أقرب وقت ، إن كنت في حاجة إلى مال فخذ من معاشي...بل خذه كله» .
لم يرد عليها سوى أنه مد يده وأخذ كأس القهوة الممدودة إليه بيمناه ، وشريط كيك باليسرى، دلق الكأس في فمه مفرغا إياه في دفعتين ـ لا غير ـ وخرج يقضم الحلوى.
فتح الباب ـ الخروج ـ فاستقبلته نسائم صيف باردة قادمة من رؤس الجبال المكللة ببقايا ثلوج ، واحتضته نواصي الصباح بنورها البهي .
****
طلت شمس الصباح ، وجللت بنورها زقاق ( أم خدوج ) الطويل كاشفة عن عالم رث يعوم في العفن والأزبال : أوراق وأتربة وأكياس مطاطية هنا وهناك ، وحاويات قمامة ملأى حتى التخمة فاتحة فاها كأفراس نهر مستنفرة على جانبي الزقاق الطويل، وكلاب وقطط تحوم حولها في سلام تلتقط ما فضل من طعام .
نائمة زنقة أم خدوج، مازالت تعانق كسلها ، ربما بائعو السمك الوافدون من الجهتين سيسرعون من فياقها بصياحهم المنغم والرتيب : « سردين سردين ، تن تن ... باجوووو » أو أصحاب النعناع : حين يرددون : « زياني ، زياني ... العبدي ي ي ي.»
فجأة، جلبة وصراخ يمزقان رتابة الزقاق، فتُشرّع النوافذ، وتشرئب الرؤوس بقدر، وتفتح الأبواب إلا بما يسمح بالتلصص، ويضحى الأثير بساط همهمات ووشوشات . مصطفى الدكتور في الرياضيات التطبيقية لم يكترث ولم يحفل بم يجري أسفله إنه منشغل في إطعام حمامه على السطح ، فمنذ أن سدت في وجهه جميع سبل العمل وهو يمارس تربية الحمام عله يقتل في طقوسها حسرته المترامية الأطراف وكلب فاطمة لم يعبأ بالهرج والمرج ، ظل متكورا على نفسه يتابع بعينيه النصف المغمضتين أجواء مسرحية طالما تكررت أمامه...
إنه مرة أخرى عبد القادر الهواري قد أفرط في شرب الخمر فخرج ليعبر كالعادة عن حيوانيته السافلة ،صراخا وسبابا . عمد إلى حاويات القمامة فدلقها على الأرض دفعا ، وانهال على كل مار قربه ضربا ومن كان بعيدا عنه سبه بكل بذيء وفاحش . حتى فقيه المسجد لم يسلم منه، قصده يحاول ضربه ـ ربما ـ غير أن أمه صرخت وهرعت نحو الفقيه لتجنبه الأذى ثم فقبلت يده وقالت له ادع له بالهداية يا سيدي ، لعله يؤوب ، استجاب الفقيه لها قائلا :« ليهده الله ويأخذ بيده » . و لما صد تمتم والحنق يأكل من روحه «ليجرفه الطوفان ، وامثاله » .
مر بائع نعناع بجانب ع القادر وهو يجاهد أن لا يثير غضبه أكثر، بعدم الالتفات إليه، لكنه لمحه، وهجم عليه فأسقط دراجته ,وأمسك بخناقه يحاوله إذلاله، لم يقاوم الرجل ،بل طفق يتوسل إليه، لكنه لم يستجب وأمعن ،فتعالى صراخ النسوة واستنكار المارة والجيران . وقتها أطل المعلم إدريس من الشرفة ومسح بعينية الشبه مفتوحتين الزقاق وتأفف تأففا عميقا ودمدم :
أيها الشعب ليتني كنت حطابا فأهوي عل الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سالت تهد القبور رمسا برمس (*)
***
داهمت أحمد آلام مبرحة في بطنه، تزداد حدة مع الوقت ، وتقيؤا يعصر أمعاءه ، ورجفة تهز جسده، وبات عاجزا عن متابعة عمله إذ لم يبق عارفا حتى لمن يعطي أسبقية المرور، مما جعل من المدارة كثلا من السيارات والشاحنات و حتى من الخيول والحمير تنوء بالزعيق والنهيق وفطن أنه إذا لم يعد إلى البيت سيسقط لا محالة في الشارع، فك دراجته النارية المربوطة إلى عمود نور قربه ، حاول تشغيلها لكن بدون جدوى، فقوته خائرة ورجلاه بالكاد تحملانه . نادى على شاب مار بقربه وطلب منه أن يشغل له دراجته، امتطاها حال عملها ويمم وجهه قبل المنزل .
دخل الزقاق بعد لحظات فوجده عائما في فوضى ، ولمح عبد القادر الهواري عاريا نصفه، يرغد ويزبد، والناس من متفرج ومستنكر، لم يأبه له ، فما به أكبر من أن يهتم لأحد ولا سيما رجل يكره أيما كره ، ويزدريه ازدراء ما كنه لأحد من قبله قط .
وصل باب البيت وترجل ، ثم دفع الدراجة النارية إلى المدخل وأرخاها لتصطدم مع الحائط وهم بصعود الأدراج ، لكن رجله خانته فانثنت ، وخر ساقطا ، أحس كأن جسما باردا يطوقه يضمه إليه، قاومه حاول الانفلات منه لكنه، كان أعتى وأقوى، استسلم له، مستند درْجة المدخل وترك الأمر ليد امتد من العدم تسحبته لردهة مظلمة، عرف أنه لا مغادرا لها أبدا .
في الأعلى كان قد سمع ابنه، ـ ابن الأربع سنوات ـ دراجة الأب النارية تقتحم ناصية الزقاق القريب من المنزل ، وسمعها ـ أيضا ـ وهي ترتطم مع الحائط ، فنزل ليستقبله كالعادة، ويحظى بم يجود عليه الجيب من سكاكير ومكسرات .لكنه وجد أباه ممدا ، اقترب منه، قبله ومرر يده على رأسه، ومسح بأطراف قميصه قطرات عرق على جبهته، مد يده صوب الجيب لينال ما كان يُمَدّ له عند كل قدوم. غير أن اليد الصغيرة توقفت عند المنتصف فوق الغمد .
ضحك الصغير وسحب المسدس الذي، طالما ود أن يكون بين يده، قلبه في كل الاتجاهات ، كأنه يسبر أغواره ويكتشف مكوناته الغريبة على عالمه الصغير.فجأة، دوي عظيم يهز المكان . طار حمام مصطفى سربا متفرقا في السماء وطفق يحوم على السطح كأنه يستطلع المكان من علا ، وخرج المعلم إلى شرفته وانحنى يمسح ما تحته ـ بعدما مسح السماء والأفق ـ بعينيه المتورمتين، خرج الفقيه من المسجد حافي القدمين والتفت ذات اليمين والشمال، لعله يستجلي الخطب ، استيقظ كلب فاطمة وأ خذ ينبح. .تلاشى الدوي في المدى وحط صمت مميت طوق المكان جرحته صيحة ، وولولة مبحوحة لأم عبد القادر : ياولدي... قم ياولدي... مابك.؟
على الأرض المتربة، العفنة كان عبد القادر الهواري ممدا بلا حراك وثقب نازف يلمع وسط رأسه الحليق. وناس زقاق أم خدوج حيارى يتسآلون ، يتهامسون.
* مطلع من قصيدة أ بو القاسم الشاب