استيقظت اليوم باكرًا.
ربما كانت الساعة السابعة، أو قبل السابعة بقليل، لم يكن أمر الوقت مهمًا؛ فقد كنت في حلٍّ من أي ارتباط، كنت حرَّة: صنعت شاي الصباح على مهل، تأمَّلت بخار الماء المغلي وهو يلتصق بمربَّعات البورسلان التي تغطي جدار المطبخ، ورسمت فوقها أشياء كثيرة: رسمت قلوبًا، وورودًا، وابتسامات، ورسمت إمضاءاتي الكثيرة، كان الإبريق يقذف البخار بشدة، فتختفي الخطوط الأولى سريعًا، وأعود إلى الرسم من جديد، لا أعرف كم استغرق الأمر مني لكنـَّني رسمت أشياء كثيرة مبهجة. كان مزاجي رائقـًا إلى هذا الحدِّ، إلى حدٍّ جعلني أعيد اكتشاف بخار الماء العالق بالأشياء: طواعيته، عمره القصير، جماله الذي لا يحصل على قدرٍ كافٍ من الإطراء.
كنت مملوءة برضا فيَّاض، ولوهلة تملَّكني هذا الشعور: أنَّ السعادة لا يمكن أن تكون شيئـًا غير هذا الهدوء، وغير هذه السكينة، هذا الصفاء النادر الذي يجعلني أكتشف جمال الأشياء الخفي، وتلك التفاصيل التي ينضب العمر دون أن يتدفـَّق فيها، قبل أن أنهض من السرير – مثلاً – صرفت بعض الوقت في مراقبة ستارة الغرفة؛ كنت قد تركت قسمًا من النافذة مفتوحًا قبل النوم، ظلَّ هذا القسم المفتوح يبعث هواء معتدلاً طوال الليل، ولم يكفَّ الهواء عن مداعبة الستارة، كانت الستارة تمتلئ بالهواء فترتفع، ثمَّ تهبط، وهكذا مع كلِّ هبَّة هواء تأتي من الخارج، أتصوَّر أنَّ هذا كان يحدث كلَّ يوم، وكنت – لسبب ما – لا أراه، هكذا فيما يبدو كانت الستارة تبدأ يومها: لا قهوة، ولا جرائد، ولا إنترنت، لا شيء إلاَّ أن يغدو هذا الموسلين الحليبي اللون كرةً لوهلة، ثمَّ ينسدل، هكذا حتى تصمت النافذة!
لم أفكِّر في النافذة من قبل.
لو فكَّرت فيها بشكلٍ مناسب لوجدتها حالة لذيذة من الشعور البين بين: بين الداخل والخارج، الانعزال والمشاركة، الإحجام والتقدُّم، الاحتجاب والكشف، النافذة هي الحبل السرِّي الذي يصلنا بالخارج، أو يصل الخارج بنا، هي فوهة الفضول، أداة التلصُّص، والمراقبة لعالمٍ متشابك، متحرِّك في الأسفل، أو ربما في الجهة المقابلة: العالم الذي يفصله الجدار وتقرِّبه النافذة!
لم يخطر لي أنَّ النافذة خريطة، كلُّ نافذة هي خريطة محتملة: خريطة تدلُّنا على حركة الآخرين وهم يحسبون أنـَّهم آمنون خلف الجدران السميكة، الضوء الذي تبثــُّه النافذة في المساء هو الذي يقول لنا: إنَّ الساكن في البناية المجاورة قد دخل الحمام، وإنـَّه قد أطال المكث فيه على غير العادة! هو الذي يخبرنا عن دخوله غرفة النوم، وعن إبقائه النور مضاءً لوقت قد يكون كافيًا لقراءة صفحتين من كتاب، أو تقليب جريدة اليوم، أو ربما هو وقت لم يفعل فيه الساكن شيئـًا غير التحديق في السقف، في رشح الماء الذي أفسد الطلاء، يطفئ الساكن ضوء غرفته، يذهب إلى النوم وهو لا يعرف أيًّا من الأفكار التي تدور في خيالنا عنه بسبب هذا التدفُّق الواشي الذي نسمِّيه: ضوء النافذة.
كيف سهوت عن فكرة النافذة؟ الآن وأنا في صفائي النادر أقول: إنَّ النافذة فكرة لا يمكن الانتهاء منها، ليس على سبيل العجز، بل على سبيل الجمال!
كان كوب الشاي يبعث بخاره الضئيل وأنا أسير نحو غرفة الجلوس، أنا أنتمي – بالمناسبة – إلى حزب الشاي، أنا (شايـيـَّة) إن جاز التعبير، تمثــِّلني هذه الأوراق الهشَّة المنكمشة التي أبدأ بها صباحي، يحتاج الأمر كثيرًا من الصبر والتأمُّل كي يرتع المرء في حكمة الشاي، كي تأسره حركة تمدُّد الأوراق بفعل دفء الماء، هكذا بكلِّ هذه المهادنة، والهدوء يبثُّ الشاي أمثولته الخاصَّة، يُحدث انقلابًا في هيئة الماء، يحمرُّ الماء ويغدو شايًا. يمنح الماءُ الورقةَ الرخاوةَ التي تصنع مجدها، وتمنحه الورقة دم حياته الجديدة، يحدث هذا في كلِّ الصباحات، يحدث ملايين المرَّات هناك في مسارح الأباريق المغلقة، والأكواب، عاصفة هادئة من التغيُّرات تهدِّئ – لحسن الحظِّ – مزاجنا!
فتحت التلفاز كانت قناة الأفلام القديمة. تذكرت أنـَّني غفوت في الليلة السابقة على فيلم لفاتن حمامة، كانت ترتدي فستانـًا أبيض، وكان خصرها يبدو دقيقًا جدًّا، خسارة أنـَّني لم أكمل الفيلم، يقول لي زوجي: إنـَّني أحبُّ قناة الأفلام القديمة. قالها بطريقة من يتساءل، أو أنـَّه لم يكن يتساءل وأنَّ تلك كانت ملاحظة وحسب! وحتى لو كان الأمر ينطوي على تساؤل فإنـَّني لم أكن أملك إجابته على أيِّ حال. أنا نفسي لا أعرف السبب، مؤكَّد أنَّ هناك العشرات من الأفعال التي نحبُّ أن نقوم بها دون سبب محدَّد، وربما يكون ذلك هو سرُّ تعلُّقنا بها: أنــَّها لا تتعلَّق بشيء على الإطلاق. ينبغي أن تحتوي حياتنا على مشاعر حرَّة، دون عبء التفسير، لا أظنُّ أنـَّني أملك تفسيرًا لكلِّ ما أفعله؛ فأنا – مثلاً – أفضِّل الفلَّ على الجوري لكنني لا أستطيع أن أكتب كلمة واحدة في فضل الفلِّ على الجوري، يمكنني أن أؤلِّف عشرات الأسباب المقنعة التي لا تخصُّني، ولكن ألن تكون ذائقتنا عبئــًا إن حاولنا أن نفسِّرها؟!
قلَّبت قنوات التلفاز، رأيت مذيعين يضحكان وهما يعلِّقان على خبرٍ صحفيٍّ طريف، أنا أيضًا ضحكت لكن بدرجة أخف، أظنُّ أنـَّني ابتسمت فقط، من المفيد أن نبتسم بين وقت وآخر؛ قلت في نفسي: إنَّ العالم لن يخرب إذا ابتسمت ابتسامة عابرة، العالم لا يخرب حين أبكي، فحريٌّ به ألاَّ يخرب حين أبتسم!
اقترب موعد إعداد الغداء: أخرجت السمكة، وتركتها كي تلين وتغادر تجمُّدها، أفكِّر لو أنَّ السمكة تملك ذاكرة: ستكون ذاكرة مختلفة، وفريدة، آلاف الصور من عالم البحار البعيدة هنا على الصحن الأبيض في مطبخي أنا التي تفصلني عن البحر مئات الكيلومترات، أفكِّر في آخر ما رأته السمكة قبل أن يطفئها الموت، كيف يبدو عالمها وهي تنظر إليه من الأعلى، وهي محشورة في شبكة، هي بذاتها دون آلاف الأسماك التي تملأ البحر، بم تفكِّر الأسماك الناجية؟ ما فكرتها عن هذه الأسماك التي تذهب بعيدًا وهي تطلُّ من مربعات الشباك اللَّينة؟ هل تتساءل عن وجهتها؟ هل يخطر لها أنـَّها تصبح طعامًا، وأنَّ كتب الطهي تحتوي فصولاً بكاملها عن كيفيَّة تحويل السمكة إلى طعام مثالي، وأنَّ المنافسة في ذلك على أشدِّها، وأنـَّه ربما تقام مسابقات لهذا السبب؟ الأرجح أنَّ السمك الناجي لا يعرف هذا المصير المعقَّد؛ (ما من سمكة عادت إلى الماء كي تخبر الحقيقة)!
أجلس إلى طاولة الغداء، السمكة مشويَّة، وحولها احتفالٌ من الخضروات الملوَّنة الطازجة، جنازة مثاليَّة لكنـَّها لا تعني شيئـًا للسمكة التي تتحلَّل الآن في جوفي!
النهار يبعث أنفاسه الأخيرة، شمسٌ خفيفة تتعلَّق بنا عبر ظلِّ وفيرٍ تمنحه للأشياء، محاولة أخيرة للتشبُّث، لا شيء يقف في وجه الوقت، لا شيء حتى هيبة الظلِّ، الظلِّ الموبوء – أبدًا – بخفَّته، بتبعيَّته الكاملة لمصدر الضوء، ولحركة الأشياء، لا أحد يقول: إنـَّه يضيء الغرفة كي يحصل على الظلِّ؛ الظلُّ يحدث ضمن شيء، ويبدو على هيئة شيء آخر.
سينتهي يومي، وربما يمرُّ وقت طويل قبل أن أحظى بفسحة من هدوء أفكِّر فيها في الأشياء أكثر ممَّا أفكِّر في نفسي، يمكن للأشياء الماديَّة أن تحرِّرنا، يمكن أن نراجع فكرة أنَّ المادة نقيض للروح، المادة موجودة لمعنى، الكون كلُّه قائم على معنى، وحين يـُداخلنا المعنى نأخذ الشيء إلى أقصاه، نرى الورد: فنفسِّر المعنى، ولا نقيس حجم الباقة، نمرِّر طعم الشاي: فنقدِّر فكرة اختلاط الشيء بالشيء: أن يسمح الشيءُ للشيء الآخر أن يحوَّله كي يُخرج أجمل ما فيه!
لم تكن تلك مجرَّد أفكار عابرة!
كانت انفجارات صغيرة تضيء عتمتي الداخليَّة، عتمة الاعتياد، هذه التي يشحب في ظلِّها الجمال، وتغيب في كثافتها دهشة التفاصيل، إنــَّنا لا نلتفت إلى التفاصيل الصغيرة التي تقوم عليها حياتنا، إنـَّها متواضعةٌ جدًّا على أن تـُظهر نفسها، تمامًا كما هي أساسات المنزل الغائبة: تكتفي بإقامة حياتنا كما يجب دون ضوضاء تـُذكر!