تنحى جانبا مفسحا المجال لمرور كلماتها الحارقة، هي لا تجيد إلا هذا النوع من الحديث، حتى وهي تعبر عن مودتها-نادرا- له. انتظر ريثما تتوقف شفتاها عن الحركة، كإشارة على انتهائها من الزعيق، ثم ابتسم وانطلق موليا دون أن يكون قد سمع شيئا مما كانت تتلفظ به. لعن في قرارة نفسه ذلك القرار المشؤوم الذي أسفر عن زواجهما، ليته لم يسمع نصيحة أصدقائه الذين سبقوه، فبعد أن كانوا يصرون على لقائه مشجعين له على الزواج، اختفوا كلهم اليوم، كأن هدفهم أن يجعلوه يعيش ما يعيشون، ويسقط في الشرك نفسه، ثم بعد ذلك لازم كل منهم الصمت حيال التجربة!! حتى أنا (استدرك)...
المشي طاحونة لا تبقي على شيء، لطالما فضل المشي على استقلال وسيلة ما، المشي فرصة للوعي بما حواليه، وإنتاج لنوع من الفعل الذي يخصه ويختص به كإنسان، إنه لقاء فينومينولوجي مع الأشياء، وقبل كل شيء مع الذات... استطاب صوت وقع حذائه على الأرض، بدا الأمر كأنه أول مرة يسمعه، تساءل بدافع من الحالة التي تركها؛ كيف إن علاقة رجليه -من وراء حذائه الوحيد- بالأرض قد أفرزت صوتا ذا إيقاع يعج بالمودة، ويبعث على الإنصات، على الاِستمرارية في فعل المشي، ويزداد الأمر حماسة حين يقف على رجل واحدة ويدور كبلبل، آآه من ذلك الصوت، إنه أشبه بالعناق، بل بالقبلة... عجيب كيف إن رجليه وإن من وراء حذاء، قد أفلحتا في نسج هكذا علاقة- يراها حميمية- في حين عجز هو عنها، حتى في غياب أي حجاب...
توقف فجأة ودنا يتحسس بباطن يده حبات الثرى، لم يستشعر شيئا، قرب حفنة التراب لأنفه وشمها؛ لاشيء!! أيعقل أن يكون أبعد عضو مني، أكثر حساسية واستشعارا!!؟ أيعقل أن الثلاثة وسبعون كيلوغراما لم تفلح في طمس مجساته؟ وَارد، فنحن البشر خطاؤون، تافهون, مجانبون للصواب(قال مع نفسه).

مترددا أمام الصراف الآلي سحب بطاقته قبل معرفة الرصيد. خفقة قلب تؤذن بأن ما تبقى من راتبه لا يكفي لتجهيز وليمة لأخيه العائد من غربة في ربوع كندا الساحرة.
غربة ! وابتسم بسخرية حين نطت إلى ذاكرته عشرات الصور التي يغص بها حساب الأخ الأصغر في انستغرام: مسكن بالعاصمة تسيجه حديقة ومسبح ومرآب للسيارة. وزوجة من بغداد هرّبت ملامحها الأشورية إلى أوروبا قبيل الزحف الأمريكي على كبرياء صدام حسين وآبار نفطه. ومقاولة تحلب وزارات العالم الثالث مقابل استشارات ودراسات تذهب أدراج النسيان.
- أنا الغريب المغترب في وطني. ثلاثون عاما أحمل فوق رأسي خبزا تأكل منه طيور الوزارة وغربانها. يرحل وزير وحاشيته، ويأتي وزير آخر وحاشيته. وبين هذا وذاك تتدلى كروش، وتتضخم أرصدة، ويتخرج أبناء مترفون من جامعات أوروبا ليستكملوا الرضاعة من ثدي الوطن الأم، بينما راتبي كنقش صخري، لا يتبدل ولا يتغير.
هبت ريح خفيفة كنست وريقات الخريف المتعبة. دس يديه في جيوب معطفه ثم انطلق كسهم إلى بيت الوالدة. تلك عادتنا حين تبعثر الدنيا ما في القلب من طمأنينة. قبّل جبهتها ويدها ثم اضطجع في فناء الدار. رن الهاتف بعد لحظات ليستعجل الرئيس حضوره لاجتماع طارئ:
- زميلكم الذي كان راقدا بالمستشفى وافته المنية. والإدارة كما تعلمون لم تحظ بعد بمخصصات لإظهار التكافل مع موظفيها، لذا أقترح التبرع بمبلغ محترم لتأدية واجب العزاء.

دخل يجتر خطواته بخجل، نظرات مترددة وتائهة. كعزيز قوم ذل. يحمل بيده كيسا صغيرا من البلاستيك يحتوي على بعض الأوراق. يظهر على ملامحه التعب والخوف. نظر الي، ثم حول نظراته المضطربة اتجاه الموظف القابع وراء مكتبه. فعاد وجلس الى جانبي. وسألني بصوت خافت:
-هل هذا الرجل هو المسؤول هنا؟ سألني بكل عفوية وهو يتأمله.
-انه المسؤول عن مكتب المدير.
رفع رأسه بالإيجاب، وظلت نظراته تراقبه كأنه يبحث بين ثنايا مكتبه عن شيء ضائع منه. ثم قال لي:
- هل أنت أيضا تبحثين عن عمل؟ فنظر الى الكيس الذي بين يديه واختضنه كطفل عزيز وغالي.
أجبته دون أن أفهم مغزى سؤاله. وقلت له:
- أنا هنا لغرض آخر.
ابتسم بكل صدق. فجأة، قام واقترب من باب سكرتير المدير وطلب الاستئذان بالدخول، كان مؤدبا وخائفا. يقدم رجلا ويؤخر أخرى كمن سينفذ فيه حكم بالإعدام.
سأله سكرتير مكتب المدير:
- ماذا تريد؟

نهضنا معا وغادرنا المقهي وتركنا وراءنا الجدران الصماء والزبائن وخيوط الدخان وقرقعة النراجيل وأصوات ارتطام الفناجين بالطاولات. تقدمنا يتبع أحدنا الآخر حتى عبرنا الباب وقهقهات النادل تعلو على كل الأصوات.
احتوانا الشارع الطويل الممتد الذي لا ينتهي ومشينا صامتين موقِّعين بأقدامنا مثل جنديين أتقنا تدريبهما. وراح كل منا يغازل أهداب ذكرى ويلج أنفاق روحه التي لم يتسن للآخر الدنو منها.
سرنا. لست أدري أطال بنا المسير أم قصر. تحيط بنا من الجانبين أشجار باسقة متشبثة بالتراب تعاند الأعمدة والجدران المحاذية وترتفع هاماتها لتلامس أسلاك الهاتف. احتمينا بظلها من لفح الهاجرة واتقينا بأغصانها الوارفة أشعة الشمس المنهالة فوق رأسينا بلا رحمة مثل حديد مُذاب.
أصوات متداخلة تكاد تثقب آذاننا، منبهات سيارات، أزيز فرامل، نداءات باعة جوالين، تغاريد بلابل، عربدة أطفال طائشين يعاكسون فتاة، هدير طائرة تعبر الجو، صفير قطار منهك يعلن انتهاء رحلة شاقة ومضنية...تمر من أمامي قطة بفروها البني اللامع تحمل بين فكيها صغيرها باحثة له عن مكان آمن.
الشارع الطويل الممتد لا ينتهي وهذه الأصوات المتداخلة تنسج أنغاما يعجز عن وضع نوتاتها أمهر العازفين. كنا نسير معا جنبا إلى جنب، لكن روح كل منا تخوض عباب يم بعيد عن الآخر. يمتطي كل منا صهوة جواد محمحم فُكَّ لجامه وأُطلِق له العنان فانطلق يعدو لا تكاد حوافر تلامس الأرض، كلما بلله العرق ازدادت سرعته حتى كاد يحلق في الفضاء، يجوب فيافي موحلة ويجوس خلال آفاق بلا حدود، يطأ أرضا ملغومة حينا وقفرا حينا لا شجر ولا ماء، وحدها الرياح تتناوح فيها يعلو فحيحها وينخفض، يتسربل بين الفجاج والشعاب المقفرة المميتة.

رأيت في المنام أني أذبحه. كان جارا طيبا وصغاره ودودون للغاية، أما الزوجة فلا تظهر إلا صبيحة الأحد لنشر الغسيل. في المرات القليلة التي تقابلنا على الدرج أظهر تواضعا وأدبا جما. يسأل عن الصحة والأولاد ثم يلج شقته بسرعة كأنما يخشى مزيدا من الكلام.

تعودت على هذا الصنف من الجيران الذي يُنشئ حدودا وهمية للإبقاء على الود في نطاق ضيق، فقصص الأسر التي خرّبها تطفل الجيران ودخولهم بين الظفر واللحم عديدة. قدّرت حرصه وأبقيت على تحية خفيفة، وتهنئة بحلول العيد؛ لكن شيئا ما بداخلي كان يهمس بأن خلف جاري ذي الملامح الجنوبية قصة ستنكشف خيوطها يوما ما.

يومها مالت الشمس إلى المغيب بينما كان اللغط في شقة الجار يرتفع. تظاهرنا باللامبالاة لولا أن صراخ زوجته بأن يُعتق أحد روحها دفعنا لطرق الباب. كانت اللحظة اختبارا لأدبه الجم، غير أنه بدا هادئا كأن شيئا لم يكن. شكرنا على حرصنا واهتمامنا، ثم قال بأن الأمر شأن داخلي ولا داعي للتدخل.

  -هل نتصل بالشرطة؟ سألَت زوجتي. أجبت بأن حضور الشرطة قد ينزع فتيل الحرب مؤقتا، لكنه سيكهرب علاقتنا مع الجار لأمد طويل.

- لنتريث قليلا إذن، فإن عادت إلى الصراخ مجددا فلا مناص من إحضارهم.

-1-
Je creuserai la terre/ Jusqu'après ma mort/ Pour couvrir ton corps/ D'or et de lumière/ Je ferai un domaine/ où l'amour sera roi/ où l'amour sera loi/ où tu seras reine/

جاك بْرالْ، يرقرق صوته الفضيّ ما بين الأرض والسّماء. سماء تضيء كلّ أصابعها شموعا احتفالا بليلة الميلاد السّبعين لميسيو رينيه رجل الأعمال التونسيّ الفرنسيّ ومالك سلسلة محلاّت الأحذية وحقائب اليد النسائيّة الحاملة للماركة العالميّة: RenéBOO
ليل مصاب بأرق صيفيّ مزمن، كلّما راود غفوة عن نفسها باغته العشاق. سرير من رمل نديّ يغمّس أصابعه في بحر متهيّج على خلاف الهدوء الوقْر الذي يلبس قامة السّاعة، متضرّمٍ كحقل أحوى تركض فيه الأمواج قطيعا من الجياد البّريّة ترجّع الجوانب الصخريّة صهيلها المحموم، وتغتسل في رغوة أنفاسها الرّمال. قطعة من ساحل مسوّر بمقاطع صخريّة متفاوتة الأحجام رُصّفت بذائقة طبيعيّة ساحرة حتى الرّهبة وانشداه الحواسّ، حدّ الرّغبة في اختلاق سبب ما للبكاء الجنائزيّ علنا يفضي بنا رأسا إلى ضحك عبثيّ يغسل جراحاتنا بمحلول ملحيّ لطيف، حدّ افتعال فجيعة استثنائيّة تليق بذلك الحزن العتيق الغامض المتلألئ فينا كطبقة جوفيّة من الكوارتز تقع على حدود المدّ البحريّ للخيبة..

في يوم من أيام الصيف الحارة، أيام الفراغ التي تراودني بين الفينة و الأخرى، رن جرس الهاتف، وكالعادة بقي لحظة صمت؛ قبل أن ينطق كلماته، قال صباح الخير، هل يمكننا أن نشرب فنجان القهوة معا هذا المساء؟ قبل أن أجيب أغلق الخط؛ من دون حتى كلمة وداع.
انفتحت جروح الذكريات من جديد، وبدأت الأفكار الإيجابية و السلبية في الصراع على سلطة الفكر، فما كان مني إلا أن قطعت هذا الحبل، حتى لا يتدلى بعيدا، بدأت في الاستعداد قبل الموعد بساعات؛ كأنني سأقابل قيصر روما، ارتديت فستاني المخملي المطرز من الذيل، وتعطرت بأفضل العطور عندي، وانتعلت كعبي العالي، ووضعت قبعة رأسي، وتركت شعري منسدلا بين ضفاف كتفي، ولم أضع لمسة الكحل فضلت أن أترك عيوني تظهر بريقها تحت أشعة الشمس؛ عيون تحمل حضارات الحزن القديمة من بغداد إلى آخر العصور.
خرجت مسرعة لا أدري هل من لهفة شوقي أم من لهفة فضولي، أخذت سيارة أجرة، وصلت إلى الموعد المحدد قبله بساعة، دخلت المقهى وأخذت طاولتي، وبدأ توقيت هذه اللحظة في العد التنازلي، وصل في الموعد المحدد، وكان قد مر بون من الزمن على آخر موعد لنا؛ ومع ذلك اكتفى بكلمة مرحبا من دون حتى النظر في وجهي.

احترقت أفكاره هذا الصباح وصارت رمادا ،حاول أن يعيد لها الحياة ،تخيّلها طائر فينيق ينبعث من رماده ،لكن خَياله لم يسعفه ..لم يحدث شيء ،ظلت أفكاره رمادا وظل هو حائرا، مترددا خائفا ،اقترب من كوم الرماد، أقعى ثم حفّن مدّاً ،قربه من أنفه كانت رائحة الرماد زكية ذكرته بعطور فرنسية كانت تضعها زوجته، مثل ايف سان لوران ،أو لولو كاشريل، وربما أيضا " رِيف دور " عِطر أمه وجدته المفضل، أيّ صاعقة لئيمة هذه التي استأثرت بأفكاره فأحالتها على هذا الحال؟
أهو تفريط منه أم هي صدفة لعينة؟ تساؤلات رهيبة تَشج رأسه ولا يجد لها جوابا.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة