اكتشفتها في سطرين أو ثلاثة. تلك البلاغة العميقة عن الموت ورحيل الآخرين بلا استئذان. كان أبي أحدهم، وربما لم أفقد غيره بمثل تلك الدعابة الفجة التي صاغها حكيم عن الفراق المبكر للحياة.
نمشي إلى الموت غير مصدقين. حيارى يأكلنا الحنين إلى انبثاقات الرحم، حيث تبدأ الحياة صراخا كأنها لا تطاق منذ البداية. ثم يصير الأمر عادة قبل أن ندمن وهم الخلود. وفي هدأة العمر حين ترتخي العضلات، يبرز صدأ الحقيقة المتدثر بالأمنيات: فلان مات!
وفلان هذا يقطن غرفة في سطح البناية. متران على ثلاثة أمتار هي كل ما جادت به الدنيا على "عمي حدو". كهل قارب الخمسين بلا ولد أو وتد. زعموا أنه كان يخنق النصراني بيديه زمن الاحتلال الفرنسي، ويلقي الجثة في مزبلة خارج البلدة. بحثوا عن الفاعل شهورا طويلة قبل أن تشي به أرملة في الأربعين لعشيقها الذي يعمل كلب حراسة في فيلا الكولونيل.
سوق النسا سوق مطيار يقول عبد الرحمن المجذوب. وبعد أن سطعت شمس الحرية و الاستقلال كثر المجاذيب في حينا. منهم من قضى نحبه تحت وطأة الجحود، أما عمي حدو فكان يشير بسبابته إلى السماء راضيا. تحملوا وطأة التعذيب ورطوبة الزنازين ليفترشوا عتبة الوطن حتى حين. وطال ال" حين" سنوات قبل أن تشرع الحكومة في جرد اللوائح وتخصيص المعاشات.
في فيلا يملكها تاجر قماش بفاس وجد حدو ضالّته. ها هو يقضي يومه في سقي أحواض النعناع والثوم والفلفل الحار، مترقبا عشية السبت ليتجاذب أطراف حديث مقتضب مع الحاج الصقلي. شيء غامض يجمع بين الاثنين، ويرفع الكلفة في حضرة براد شاي منعنع، وعلبة حلوى فاسية يبللها حدو بريقه ثم يبلعها بشغف.
كان يجب أن يمضي عام قبل أن يقرر حدو كراء غرفة في سطح البناية. على سريره المهترئ تولدت رغبتي في القراءة. يسحب حدو كُتيبا كل أسبوع من مكتبة الحاج ثم يلقي به إلي: " اقرأ باسم ربك" فاقرأ بالكاد صفحة أو صفحتين. يعاتبني على تهجئتي الخاطئة لبعض الكلمات. كيف يرصدها وهو الأمي الذي لا يكتب غير اسمه؟
- بالتكرار الذي يٌعلم حتى الحمار! نعم، شاركني الزنزانة شاب متعلم قضى أشهره الستة في ترديد ما يحفظ من سور القرآن وأشعار الوطنية. وبعد ترحيله إلى سجن آخر، كان علي أن أردد ما علق بذهني حتى لا أصاب بهلوسة في ليالي الشتاء الطويلة.
مالت بي العربة مرتين قبل أن نصل إلى السوق. لا أدري من أقنع حدو بأن يجرب حظه في التجارة. هي ليست سوى حزم من النعناع والميرمية وحبات الفلفل الحار، لكنها في أحلام الظهيرة رأسمال قد يفتح دكانا يريحه من تعب السهر. الحاج الصقلي رجل طيب، لكنه على أعتاب الثمانين ولا يبدو على أبنائه أي تقدير للموقف. ذهبت الجارات بنصف المعروض لأن حدو رجل طيب، والدراهم تروح وتجيء. مللت من تنبيهه إلى الغمز واللمز الذي يدور في الحي، وحزم التجار الآخرين في استيفاء ديونهم، لكنه لا يبالي.
يومها اغرورقت عيناه بالدموع على رحيل الحاج. بكيت لأنه بكى بصدق على خيط المودة. بعض الأولاد نبتً شيطاني يحرض نُذُر السماء. جفت أحواض النعناع والثوم لأنهم دفنوا مع الحاج أشياء قلبه الحميمة. جيل قيمش..تفو!
هدأت نفسه بعد أن دلّه أحدهم على فوائد السمسرة. صفقة ثم اثنتان فظهر حدو بجلباب نظيف وساعة يد. لا خير في أولاد الكلب إن لم تنتف من لحاهم ما تضمن به لقمة عيشك! وسرعان ما ابتهجت غرفة السطح بأثاث جديد. هل سيتزوج حدو؟ من يدري! لكنه حدثني يومها عن التعذيب ورطوبة الزنازين، ثم تنهد بحرقة قبل أن يشد أرنبة أنفي مازحا: لا أريد قردا مثلك!
على السور الغريب للمقبرة تتمدد شجرة تين عجوز. هناك استرحت للحظات متأملا حركة المشيعين. كل ما أعرفه أنهم أخرجوا جثة نصف متفحمة من قبو البناية. زعموا أن شمعة حولت أثاث القبو إلى فرن مشتعل. مسكين!
ولأن لكل ميت حكاية تروي أحلامه وخيباته، وقد لا يسعفه الموت بكشف خيوطها لصبي مثلي، فقد أسعفتني شجرة التين العجوز، وتلك القبور المنتصبة كشواهد للحقيقة بأن أقص ما قرأته.
كذبت؟.. ربما !