تعرفت إليها في مبتدى شبابي، نشأت بيننا ألفةٌ فصداقةٌ فحبٌّ. رافقتني طيلة هذه السنوات الممتدة من عمري، كنت أهرع إليها في الصباح كما في المساء، ألتمس لديها هدوءا طالما افتقدته وحيوية كثيرا ما أعوزتني.
لم أستطع في يوم من الأيام مفارقتها، أصبحت قريبة إليّ أكثر من أي أحد. في لحظات الفرح كما في لحظات التعاسة أجد فيها سندا لا مثيل له.
هي خدرٌ جميل يتسرّب الى أوردتي ، مفاصلي، مجساتي وكل حواسي، يُفعمنِي بطاقة غير مرئية وبنشاط لا يوصف. لا يضيرها أنها سوداء فيكفي أن الأحزان لا تنزل بساحتها.
عطرُها الفوّاح يجعلني أحلّق بألف جناح ومذاقها الاستثنائي يعلو على كل مذاق.
حينما كانت تستعصي علي القوافي ويهرب مني ألق الكلمات، كنتُ أجدها بجانبي تسعفني كي أُخرِجَ جنِّيّ الكتابة من قمقمه فيندلق كملاك جميل يقول لي: أنا طوع بنانك، أنا عبدك المطيع ! فتورق الخواطرُ وتزهر الأخيلة وينضبط الإيقاع، وقتها تحتفي الذات بذاتها فتندمج في نسغ العالم كحورية تغسل في محيط البحار رموش وحشتها، تتحلل من سجف أحزانها فترتقي إلى عوالم شفيفة لها الجمال والجلال، لها الألق والبهاء.

غصت القاعة بالحاضرين.. طلبة وأساتذة..رجال الصحافة.. موظفون ..مسؤولون إداريون..كلهم جاؤوا لحضور الأمسية الثقافية ..في القاعة وقف الرجل الأنيق يتأمل مشهد الجالسين في انتظار ان تبدأ المحاضرة..تقدم خطوات وجلس قريبا من المنصة..ثم عاد يجول ببصره في أنحاء القاعة..لا يرى غير هذه الوجوه التي أعياها الانتظار..وهذه الملصقات التي تملأ الجدران.. وتعلن عن البرنامج الثقافي للأمسية .. وتذكر الدعوة..الدعوة التي توصل بها من النادي الثقافي قبل أسابيع .. لمتابعة المحاضرة التي سيلقيها الدكتور محسن الدوالبي، أستاذ علم الإجتماع، في موضوع: دور الثقافة في المجتمع.
وإنتشله من خواطره صوت مقدم الأمسية ، وهو يتلو كلماته الأولى مرحبا بالأستاذ المحاضر..وراح يذكر بإهتماماته العلمية ..ويشرح أنه صاحب نظرية في علم الإجتماع.. بدأت تشد أنظار الباحثين.. بل أصبحت تدرس في بعض الجامعات..
سكت مقدم الأمسية..وشرع الأستاذ المحاضر يتأهب للكلام..عدل نظارته..وأخذ يتكلم ويشرح بصوت هادئ.. يطوف حول الموضوع .. يناقش العناصر الأساسية.. يرتفع صوته تارة.. وينخفض تارة اخرى.. يتحدث بإسهاب عن عوائق انتشار الثقافة في المجتمع..عن توحش الجهل..عن الأمية ..تحضر كلمات عن التخلف..عن الوعي..وتطفو على السطح مفردات جديدة..تقدم.. نظام عالمي جديد..عولمة...

جالس خلف نظارتي أتأمل الحديقة. كل شيء متناسق وبديع. الأزهار تغري بالشم والقطف، والشجيرات تنتصب على حياء. في الكشك المحاذي للبوابة يضطجع بستاني عركته السنون والتجارب. يعتذر وهو يبيعك قارورة ماء أو مشروبا غازيا بأن العين بصيرة واليد قصيرة.
في الجهة المحاذية للبوابة خص البستاني ليالي الشتاء بحوض زعتر وشجيرة ميرمية، لذا صرت كل سبت من أيام الخريف أشق طريقي إلى الحديقة ليقاسمني كوب شاي، ونتجاذب أطراف حديث تتخلله الكلمات. كان يؤثر الصمت، أما أنا فضجري من الحياة يغريني بالبقاء إلى جواره.
تشكو العجوز جروها المشاكس. قابلتها مرتين أو ثلاث وهي تكسر رتابة يومها بالتنزه في الحديقة:
- أسكن في تلك البناية المحاذية لقسم الشرطة. وعدني ضابط بمسكن يحتضن ما تبقى من أنفاسي مقابل أن أتخلى له عن شقتي القريبة من مكتبه. بدا عليه التبرم حين سألته عن سنواتي الخمسين التي صرفتها هنا، كيف أنقلها إلى مكان آخر؟ صرخات أبنائي وهم يتدلون من بطني ليذوقوا طعم الحياة. وزيجاتهم التي أقيمت أفراحها هنا، والشرفة التي قضى زوجي نصف حياته وهو يحتسي شايه، ويلاعبني النرد على طاولتها الحديدية.

 أمّي الحبيبة
لا أذكر من أمسي سوى صورتك وأنت توقدين النار كي تطهي لنا طعامنا. لم تغادر البسمة شفتيك ولا زايلتك روحك المرحة. كنتِ أحرص ما تكونين على أن أراجع وإخوتي دروسنا. وقبل أن نأوي الى فراشنا طبعت على خدودنا قبلتك الحبيبة، وكان ذلك آخر عهد لنا بك.
ما كنت أدري أنه آخر عشاء سيجمعنا. اتفقت مع أبي في غفلة منا على الرحيل سويا. تركتمونا لوحدتنا ، لغربتنا. تغشى الأحزان قلوبنا ويسكن الوجع أرواحنا. حتى كلبك العزيز يا أمّي أبى إلا أن يمعن في سمت الوفاء، فلم يتخلف عن ركب الراحلين.
الكرمة التي كنت تتفيئين تحت ظلالها، اجتُثت جذورها في رمشة عين. أمّا دجاجتك البيضاء فقضت كما قضيت مخلفة بيضها الذي لم يقو الزلزال بكل عنفه وجبروته على فقصه.
الديك صاحب الصوت الرنان صاح صيحته الأخيرة في الليلة التي سبقت الزلزال موذنا بانتهاء فجر صلاتك.
البيت الذي احتضن طيفك الحبيب صار مجرد أكوام من التراب المهيل الذي طمر جسدك الطاهر.
صويحباتك اللائي كن يسامرنك ذات صفاء ، آثرن أن يسافرن سفرك البعيد.
قريتك الوادعة أمّي أصبحت أطلالا خربة...

يجثو شطر وجهها المنصرف عنه إلى الأفق الجهم.
تنغرز نتوء الحصى في ركبتيه. يزدرد الألم المتلبّد على عتبة المريء ويجْلد. يخجل من صبرها على شظف الأرض فيما تجلس على مفرش رثّ فلا تكِلّ أو تتذمّر. تتمتم، تنكتم، تشرد، تعبس، تنبسط، تتجهّم، تقوّس خطّ الشّفتين في هيئة البكاء ثمّ تنفلق في ضحكة خرقاء مختصرة.. تتوه عنه حتى يحسب أنها لن تعود إلى وعيها ثانية، وفي لحظة ما خاطفة مفجوعة تنتبه لوجهه المنتحب خاشعا إلى وجهها فترتسم ابتسامة بلهاء نصف جذلى على كمد الشّفتين. يشرق فيها الذّبول حينذاك، والعتُم عن تقاسيمها ينقشع..
يأخذه فرح مرتبك. ليس على يقين أنّها تبتسم له هو بعينه، أنّها إذ تُوليه جانب وجهها فهي تراه فعلا، غير أنّه يحبّها أشدّ حين تبتسم..
كالأمل يضرب بعصاه المقدّسة يمّ الغسق فينشقّ عن درب النّور يعبر عليه الخائفون إلى النّجاة بسمتها، كضمّتها، كحنانها يُغالب الوجع فيغلبه.. هي لا تدوم غير نهزات مِزَق بسمتُها، بيد أنّها تكفي ليتمدّد الفرح في العمر أيّاما طويلة قادمة، تكفي ليجدّد قلبه القانط عهد الصّبر فيما يتسمّر أمامها على مقعد التّرجّي..

حاصرها الزمن وقوض حياتها، واستحالت الى جسد بلا روح. تحولت "فاطمة" الزوجة الشابة، الى سجينة من نوع آخر. رمتها سهام الزمن بين أحضان الملل والنسيان. بعدما أشاح عنها زوجها وجهه وتركها تواجه مصيرها لوحدها. سلقتها الناس بألسنتها القاسية. احتمت بحيطان بيتها الاسمنتية وتركت روحها وجسدها في مهب الريح، لا تقوى على الصراع. صارت وسادتها الخالية، كاتمة أسرارها. ففي كل ليلة تزحف عندها وتحضنها بكل شوق وحب وتحكي حتى يستوطن النوم جفونها دون أن تدري. سألت وسادتها "كم مر من الوقت حتى الآن؟" أرادت ترتيب أوراقها. أعادت السؤال كأنها تتحدث الى أحد: "كم مر من الوقت على طلاقي؟" كانت عاجزة عن محاصرة سنوات عمرها الفائتة التي تسللت من بين أيديها دون أن تشعر. بكت كثيرا حتى ارتوت جفونها الشاحبة من ملوحة دموعها الحارة. ارتمت كجثة هامدة على سريرها، محاولة البحث في ذاكرتها عن ملجأ يحميها من الماضي.
كسرت كل المرايا بالبيت، كرهت أن ترى صورتها في المرآة وما فعله بها الناس والزمن. مر من الوقت الكثير، اشتعل الرأس شيبا واحتلت التجاعيد كل ركن من ملامحها الجميلة، كلما حاولت أن تتذكر ماضيها وتعد الأيام، تخطئ وتعيد العد من جديد. صرخت بألم شديد: هل يمكنني ان أنسى أيام عمري؟". فتحت نافذة غرفتها ونظراتها مشتتة تبحث عن شيء ضائع في الأفق، قالت بصوت حاد وحزين:" من يعيد الي أيام عمري، لقد سرقوها مني؟"
استقبلت فاطمة الحياة في بيت صغير من أحياء المدينة القديمة. من أسرة متوسطة تتكون من ستة أبناء وبنات. تعمل الأم أحيانا في البيوت لمساعدة الأب الاسكافي. غالبا ما يقضي يومه كله دون أن يتجاوز بعض الدريهمات. كبرت العائلة وكبرت الطلبات. كانت فاطمة، البنت الكبرى، تطمح أن تكمل دراستها وتحصل على عمل وتقضي على الفقر الذي لازم أسرتها.
استيقظت في ذلك الصباح، لا تستطيع أن تغادر السرير. هالات سوداء احتلت عينيها الباهتتين، اتجهت صوب الحمام وعادت منكسرة الظهر والحركة، تحتمي بغطائها ووسادتها. دفنت رأسها وأحكمت اغلاق كل الشقوق التي تمر من بين فتحاتها أنوار صباحية. رغم ذلك، تدفقت داخل الغرفة أصوات بشرية، وضجيج السيارات. كانت تعشق الحركة، تعتبرها هي الحياة الشيء الذي جعلها تختار السكن في هذا الحي رغم ازدحامه الشديد. أخذتها ذاكرتها الى يوم كانت تستيقظ باكرا، وتفتح النوافذ وتمطر كل الغرف بأشعة الشمس وهواء الصباح المنعش. وتعد وجبة الفطور وتنتظره. كانت خفيفة كنسمة هواء تعيد الحياة للبيت، لا تمل ولا تضجر.

كدتُ أصدقه، لولا أنني آخُذُ، في كل المواقف، بالرأي المأثور: "من الحزم سوء الظن". شابٌّ في العشرينيات من عمره، أسمر اللون، قصير القامة، ذو بنية قوية، لا تتناسب مع حالة الخوف والفزع التي تنطق بها عيناه المشوبتان بحمرة تكاد تخفي بياضهما. سروال "الجينز" الجديد، والقميص الأبيض الناصع، والحذاء الرياضي الفاخر، كل ذلك يمنح شكله نوعا من القبول لدى الآخر. حين دخلتُ، أنا وصديقي، إلى المقهى، لمحتُه منزويا في ركن قَصِيّ... تَطلَّع نحونا بعيْنيْ فهد، ثم تظاهر بالنظر في هاتفه الخلوي. المقهى في هذا الوقت من الظهيرة، لا يَؤُمُّه إلا المتقاعدون أمثالي، والباحثون عن فرص للربح السريع، والمتعقِّبون للضحايا المغفّلين...
ما إن استوينا في طاولتنا المعتادة، وقدّمنا للنادل طلبنا اليومي المألوف، حتى جاء الشاب الأسمر، واستأذنَنا في الجلوس معنا لبعض الوقت... اكتشفتُ من فرنسيته الرديئة، ولَكنته الإفريقية المميّزة أنه قد يكون أحد المهاجرين غير الشرعيين... لم يَسَعني إلا أن آذَنَ له بالجلوس... سحَب كرسيا من الطاولة القريبة، وألقى نظرة خاطفة نحو الباب قبل أن يجلس.
ـــــ اسمي إبراهيما، وأنا من مملكة ليسوتو.

الحمام حول نافورة المدينة الكبرى بين طائر بجناحيه أو ماش على رجلين، أن واقف على كف طفل، ينقر بعض حبات القمح... إلا واحدة رأيتها لا تتحرك. تنقرها حمامة متحركة، في محاولة يائسة لإشراكها في هذا العرس المتواصل، حيث يمرح الكبار والصغار من الناس والحمام...يتجرأ عليها ذكر الحمام، فينقر هامتها نقرا مؤذيا، فتحني رأسها المسكينة، غير قادرة على الرد.. اقتربت منها، ظلت في مكانها، كان جفناها منغلقين تماما؛ ربما أصابها مرض جعلها عمياء لا تبصر... بدا عليها الهزال، فربما لم تأكل شيئا ولم تشرب الماء منذ فترة. حملتها بباطن كفي، أجلستها أمامي، فتحت منقارها، وصببت في جوفها قطرات من الماء، ابتلعت القطرات رغم أن قلبها كان يخفق بسرعة من شدة الخوف. أتبعت الماء قطعا صغيرة من فتات الخبز، كانت المسكينة تبتلعها بصعوبة، وختمت الإسعاف بقطرات ماء إضافية، أحست الحمامة ببعض الانتعاش، لكنها كانت بحاجة إلى عينيها كي تعيش...فكرت أن آخذها إلى طبيب بيطري، لكن الأمر قد يحتاج إلى رخصة من مجلس المدينة، فالحمام حمامه، والنافورة نافورته، والساحة ساحته... تذكرت أن أمي رحمة الله عليها كانت قد عالجت إحدى دجاجاتها التي أصيبت بالعمى إثر انغلاق جفنيها، ففعلت مثلها: فتحت جفنيها بإبهاميّ الإثنين، ورششت عينها الأولى بالماء، وكذلك فعلت بالعين الثانية، بدت عينا الحمامة سليمتين من الداخل، فالمشكلة كانت في الداء الذي أصاب جفنيها. كانت إحدى الزائرات ترقب ما فعلت، طلبت منها أن تناولني مرطبا إن كان لديها في محفظتها، غسلت جفني الحمامة بالمرطب، وأضفت إليه مرهما أصفر كان بمحفظة الزائرة، فبدأ جفنا الحمامة يرفان، وشيئا فشيئا، أحسست كأنها تراني، وضعتها على كفي، لكنها لم تحاول الطيران، فقد أخذ منها الوهن مأخذه... بعد لحظات، وضعتها على الأرض، فتحركت قليلا. فرحت كثيرا حين نقرت بعض الحبيبات، ثم طارت باتجاه السرب المشاكس...هممت بمغادرة المكان، فإذا برجل ادعى أنه من الأمن، طلب مني بطاقة تعريفي، ثم قال لي وهو يهرول: اتبعني إلى المخفر!