يجثو شطر وجهها المنصرف عنه إلى الأفق الجهم.
تنغرز نتوء الحصى في ركبتيه. يزدرد الألم المتلبّد على عتبة المريء ويجْلد. يخجل من صبرها على شظف الأرض فيما تجلس على مفرش رثّ فلا تكِلّ أو تتذمّر. تتمتم، تنكتم، تشرد، تعبس، تنبسط، تتجهّم، تقوّس خطّ الشّفتين في هيئة البكاء ثمّ تنفلق في ضحكة خرقاء مختصرة.. تتوه عنه حتى يحسب أنها لن تعود إلى وعيها ثانية، وفي لحظة ما خاطفة مفجوعة تنتبه لوجهه المنتحب خاشعا إلى وجهها فترتسم ابتسامة بلهاء نصف جذلى على كمد الشّفتين. يشرق فيها الذّبول حينذاك، والعتُم عن تقاسيمها ينقشع..
يأخذه فرح مرتبك. ليس على يقين أنّها تبتسم له هو بعينه، أنّها إذ تُوليه جانب وجهها فهي تراه فعلا، غير أنّه يحبّها أشدّ حين تبتسم..
كالأمل يضرب بعصاه المقدّسة يمّ الغسق فينشقّ عن درب النّور يعبر عليه الخائفون إلى النّجاة بسمتها، كضمّتها، كحنانها يُغالب الوجع فيغلبه.. هي لا تدوم غير نهزات مِزَق بسمتُها، بيد أنّها تكفي ليتمدّد الفرح في العمر أيّاما طويلة قادمة، تكفي ليجدّد قلبه القانط عهد الصّبر فيما يتسمّر أمامها على مقعد التّرجّي..

حاصرها الزمن وقوض حياتها، واستحالت الى جسد بلا روح. تحولت "فاطمة" الزوجة الشابة، الى سجينة من نوع آخر. رمتها سهام الزمن بين أحضان الملل والنسيان. بعدما أشاح عنها زوجها وجهه وتركها تواجه مصيرها لوحدها. سلقتها الناس بألسنتها القاسية. احتمت بحيطان بيتها الاسمنتية وتركت روحها وجسدها في مهب الريح، لا تقوى على الصراع. صارت وسادتها الخالية، كاتمة أسرارها. ففي كل ليلة تزحف عندها وتحضنها بكل شوق وحب وتحكي حتى يستوطن النوم جفونها دون أن تدري. سألت وسادتها "كم مر من الوقت حتى الآن؟" أرادت ترتيب أوراقها. أعادت السؤال كأنها تتحدث الى أحد: "كم مر من الوقت على طلاقي؟" كانت عاجزة عن محاصرة سنوات عمرها الفائتة التي تسللت من بين أيديها دون أن تشعر. بكت كثيرا حتى ارتوت جفونها الشاحبة من ملوحة دموعها الحارة. ارتمت كجثة هامدة على سريرها، محاولة البحث في ذاكرتها عن ملجأ يحميها من الماضي.
كسرت كل المرايا بالبيت، كرهت أن ترى صورتها في المرآة وما فعله بها الناس والزمن. مر من الوقت الكثير، اشتعل الرأس شيبا واحتلت التجاعيد كل ركن من ملامحها الجميلة، كلما حاولت أن تتذكر ماضيها وتعد الأيام، تخطئ وتعيد العد من جديد. صرخت بألم شديد: هل يمكنني ان أنسى أيام عمري؟". فتحت نافذة غرفتها ونظراتها مشتتة تبحث عن شيء ضائع في الأفق، قالت بصوت حاد وحزين:" من يعيد الي أيام عمري، لقد سرقوها مني؟"
استقبلت فاطمة الحياة في بيت صغير من أحياء المدينة القديمة. من أسرة متوسطة تتكون من ستة أبناء وبنات. تعمل الأم أحيانا في البيوت لمساعدة الأب الاسكافي. غالبا ما يقضي يومه كله دون أن يتجاوز بعض الدريهمات. كبرت العائلة وكبرت الطلبات. كانت فاطمة، البنت الكبرى، تطمح أن تكمل دراستها وتحصل على عمل وتقضي على الفقر الذي لازم أسرتها.
استيقظت في ذلك الصباح، لا تستطيع أن تغادر السرير. هالات سوداء احتلت عينيها الباهتتين، اتجهت صوب الحمام وعادت منكسرة الظهر والحركة، تحتمي بغطائها ووسادتها. دفنت رأسها وأحكمت اغلاق كل الشقوق التي تمر من بين فتحاتها أنوار صباحية. رغم ذلك، تدفقت داخل الغرفة أصوات بشرية، وضجيج السيارات. كانت تعشق الحركة، تعتبرها هي الحياة الشيء الذي جعلها تختار السكن في هذا الحي رغم ازدحامه الشديد. أخذتها ذاكرتها الى يوم كانت تستيقظ باكرا، وتفتح النوافذ وتمطر كل الغرف بأشعة الشمس وهواء الصباح المنعش. وتعد وجبة الفطور وتنتظره. كانت خفيفة كنسمة هواء تعيد الحياة للبيت، لا تمل ولا تضجر.

كدتُ أصدقه، لولا أنني آخُذُ، في كل المواقف، بالرأي المأثور: "من الحزم سوء الظن". شابٌّ في العشرينيات من عمره، أسمر اللون، قصير القامة، ذو بنية قوية، لا تتناسب مع حالة الخوف والفزع التي تنطق بها عيناه المشوبتان بحمرة تكاد تخفي بياضهما. سروال "الجينز" الجديد، والقميص الأبيض الناصع، والحذاء الرياضي الفاخر، كل ذلك يمنح شكله نوعا من القبول لدى الآخر. حين دخلتُ، أنا وصديقي، إلى المقهى، لمحتُه منزويا في ركن قَصِيّ... تَطلَّع نحونا بعيْنيْ فهد، ثم تظاهر بالنظر في هاتفه الخلوي. المقهى في هذا الوقت من الظهيرة، لا يَؤُمُّه إلا المتقاعدون أمثالي، والباحثون عن فرص للربح السريع، والمتعقِّبون للضحايا المغفّلين...
ما إن استوينا في طاولتنا المعتادة، وقدّمنا للنادل طلبنا اليومي المألوف، حتى جاء الشاب الأسمر، واستأذنَنا في الجلوس معنا لبعض الوقت... اكتشفتُ من فرنسيته الرديئة، ولَكنته الإفريقية المميّزة أنه قد يكون أحد المهاجرين غير الشرعيين... لم يَسَعني إلا أن آذَنَ له بالجلوس... سحَب كرسيا من الطاولة القريبة، وألقى نظرة خاطفة نحو الباب قبل أن يجلس.
ـــــ اسمي إبراهيما، وأنا من مملكة ليسوتو.

الحمام حول نافورة المدينة الكبرى بين طائر بجناحيه أو ماش على رجلين، أن واقف على كف طفل، ينقر بعض حبات القمح... إلا واحدة رأيتها لا تتحرك. تنقرها حمامة متحركة، في محاولة يائسة لإشراكها في هذا العرس المتواصل، حيث يمرح الكبار والصغار من الناس والحمام...يتجرأ عليها ذكر الحمام، فينقر هامتها نقرا مؤذيا، فتحني رأسها المسكينة، غير قادرة على الرد.. اقتربت منها، ظلت في مكانها، كان جفناها منغلقين تماما؛ ربما أصابها مرض جعلها عمياء لا تبصر... بدا عليها الهزال، فربما لم تأكل شيئا ولم تشرب الماء منذ فترة. حملتها بباطن كفي، أجلستها أمامي، فتحت منقارها، وصببت في جوفها قطرات من الماء، ابتلعت القطرات رغم أن قلبها كان يخفق بسرعة من شدة الخوف. أتبعت الماء قطعا صغيرة من فتات الخبز، كانت المسكينة تبتلعها بصعوبة، وختمت الإسعاف بقطرات ماء إضافية، أحست الحمامة ببعض الانتعاش، لكنها كانت بحاجة إلى عينيها كي تعيش...فكرت أن آخذها إلى طبيب بيطري، لكن الأمر قد يحتاج إلى رخصة من مجلس المدينة، فالحمام حمامه، والنافورة نافورته، والساحة ساحته... تذكرت أن أمي رحمة الله عليها كانت قد عالجت إحدى دجاجاتها التي أصيبت بالعمى إثر انغلاق جفنيها، ففعلت مثلها: فتحت جفنيها بإبهاميّ الإثنين، ورششت عينها الأولى بالماء، وكذلك فعلت بالعين الثانية، بدت عينا الحمامة سليمتين من الداخل، فالمشكلة كانت في الداء الذي أصاب جفنيها. كانت إحدى الزائرات ترقب ما فعلت، طلبت منها أن تناولني مرطبا إن كان لديها في محفظتها، غسلت جفني الحمامة بالمرطب، وأضفت إليه مرهما أصفر كان بمحفظة الزائرة، فبدأ جفنا الحمامة يرفان، وشيئا فشيئا، أحسست كأنها تراني، وضعتها على كفي، لكنها لم تحاول الطيران، فقد أخذ منها الوهن مأخذه... بعد لحظات، وضعتها على الأرض، فتحركت قليلا. فرحت كثيرا حين نقرت بعض الحبيبات، ثم طارت باتجاه السرب المشاكس...هممت بمغادرة المكان، فإذا برجل ادعى أنه من الأمن، طلب مني بطاقة تعريفي، ثم قال لي وهو يهرول: اتبعني إلى المخفر!

حافلة بيضاء متوسطة الحجم، تتجاوز سور المدرسة وتتوقف، فتيات تترجلن، وبعدهن رجل، وواصلت طريقها.
الساعة تقترب من الثامنة صباحا.
إحداهن ينتظرها طفل في العاشرة تقريبا، يحمل حقيبة مدرسية. علامات الفرح بادية عليه.
الثانية، تتقدم شمالا في نفس اتجاه الحافلة، رفقة الرجل، يختفيان في زقاق داخلي.
* * *
الثالثة تتجه يمينا، نحو ساحة الحي.
البقال يسرع للجلوس أمام متجره، يفتحه باكرا لبيع خبز الصباح للموظفين وذوي المهن والعمال والعاملات الذين يغادرون بكثافة إلى وجهاتهم، والمتسكعين أيضا.
تطل من زاوية الزقاق.. أنفاسه مضطربة من جلوسه العاجل. تمر أمامه عابسة ومستعجلة، يتردد في إلقاء التحية عليها:
- صباح الخير.
(-... لا مجيب....)

Villa Ayech – السّوايسيّة
الخامسة مساء بتوقيت غرينيتش
في زاوية مضادّة للحياة، حيث تنتشر محاضن تربية البيرانا البشريّة تحت قبّة اللّيل وعلى سطح النهار المتواطئ، كان كومبا الفولانيّ منفيّا إلى ظلمته الغطشاء في قبو فيلّا عيّاش منذ سنة عاتية، محاصرا بالغابة والعزلة والحقن، منزوع الهويّة، سُخرة لألين وأتباعها من القتلة المولعين بالأعمال الخيريّة، بعد أن وشى به أحد التّجار الأفارقة الذي استعان به في محاولته الهرب من تونس عائدا إلى بلده مالي عبر الجزائر.
تهدّم كومبا على الأرضيّة اليابسة كشجرةَ باوْباب ملقاة جانب جذورها، وقد فرغ جوفها من كلّ سكّان ذاكرتها الطّيّبين وحكاياهم وغزتها قوافل النّمل الأحمر..
كان يشعر بهياج الدّبيب في رأسه، بإيقاع القرض المستمرّ ينخر عجُزه، بحوافّ المُدى تقشّر لحاءه الباطنيّ وتلقيه شرائح لحم للدّود..
كان ينتهي بسرعة مقعدة وبهجة ممسوسة. أتمّ توضيبَ رحيله. لم يبق غير أن تأتي السّاعة في موعدها من اكتمال دورة اليأس.
يلاعب في حنوّ أوتار قيتارته، يعدّلها، يقرّبها إلى قلبه، يدسّ سمعه في تجاويف خشبها المفعم بأسرار الأدغال الإفريقيّة العميقة، يمرّر أصابعه خشنة مسودّة الأظفار على الأوتار، يدندن لحنا جريحا يؤرّخ لكلّ الفرار الذي اشتعل في بطانة قدميه هاربا من الدّقع، والجفاف، والمجاعة، والحروب الأهلية، وذباب تْسِي تْسِي.. من مالي إلى الجزائر فالحدود الغربيّة للبلاد التونسيّة أين أطبقت عليه جمعيّة "ألينا الخيريّة" القبضة النّاعمة، فأعدّت له وثائق هويّة بصفة طالب إفريقيّ، وصار من أعضائها النّشطين..
عقدان وهم يستثمرون في فقره العريق، ولونه القاتم، ووجوده غير القانونيّ بتونس، ويستغلّونه في ترويج شتّى الممنوعات ممنوعا من الحياة خارج ما يسمحون به..
ثمّ لم يغفروا له نيّة الفرار إلى بلاده.

جلست، نظراتها تائهة، وابتسامتها غائبة. تتمايل يمينا ويسارا، لا تشعر بالراحة. أصابعها متوترة تعبث بركبتيها عن قصد أو غير قصد. تهرب من نظراته المتوجهة اليها كأنها صاروخ سينطلق في أي وقت.
حاولت أن تدفع من فمها كلاما، ترددت، وخافت من عينيه اللتين تحملان انتظارا. همست دون أن تحدث ضجيجا" ما هذه الورطة. لم أدرك أن الأمر بهذه الصعوبة".
وضع يده على خده في انتظار حكايتها التي وعدته بأنها ستحيكها له. نظراته ممزوجة بالحزن والقلق والسؤال. تعود أن يسمع حكاياتها لكن هذه المرة هناك شيء غامض يستوطن سلوكها وتعابير وجهها.
حمزة، صديق قديم لليلى، تفتح له مغاليق قلبها. كان دائما يحضر ويختفي. لم تسأله يوما عن حياته الخاصة. تفرح لما تلتقي به، كلقاء طفلة بأبيها الغائب. تحكي له عن يومها أو أيامها، ان طال الغياب بينهما. وهو دائما ينتظر وينظر اليها ويسمع حتى الآخر. ترتاح اليه كثيرا.
استيقظت هذا الصباح وهي تشعر بصداع شديد برأسها. فتذكرت بكاءها بالأمس بعدما أنهت مكالمة ليلية. لم تنم ولم تحلم. تاهت وسط ضجيج المدينة محاولة نسيان تلك المكالمة التي جعلت فؤادها يتألم.
تشجعت وطردت السجان الذي كبل لسانها وقالت له دون أن تنظر اليه:
-لست أدري هل يجب عليك أن تسمع هذا الكلام أم لا.
حاولت أن ترفع نظرها اليه وتلتهم تلك النظرات التي كانت تجيبها قبل أن تحكي. تابعت:
-أرجو أن تسمع الى الآخر وبعدها قل ما شئت.

كان أول لقاء في باحة نضرة مزهرة، متأبطة كتاب "اللامنتمي" كولن ويلسون...
انتظرتُها هناك لغرض يَهُمها ويهمني...لا فرق.
أثرنا انشغالات كثيرة: هواجس العمل، الدين، السياسة، العلاقات الإنسانية...
أثارَني صوتُها الرخيم: نظراتها التائهة، حزنها الدفين المهيمن على عينيها النائمتين السوداوين الجميلتين...
امتد الوصال والتواصل؛ كشفنا واكتشفنا كثيرا من طباعنا وخبايانا...سافرنا إلى العاصمة، قضينا فترة ممتعة بمذاق المراهقة، في المكتبة العامة، على شاطئ المحيط، في سينما الفن السابع...تبادلنا الاعترافات وحب شعر السياب، والموسيقى الأندلسية...
قرأت لها "ضجة العاصمة"، وبعض قصصي/همومي، اندمجت بشكل لافت يَنْضَح حرارة ونضجا وعشقا للفن الجميل...وقرأتْ لي بعض إبداعاتها ومذكراتها؛ رسخت في ذهني: مذكرة " أواني الطبخ"...
تلونت الدنيا، احمر الشفق، ورقص المحيط...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة