فى حادث غامض مات البطل، لم ينتبه المؤلف فى البداية إلى حالة الوفاة، فقط أمام بطء الأحداث وتوقف زمن القص والسكون التام الذى سيطر على القصة،  راجع المؤلف ما كتبه، فاصطدم أثناء المراجعة فجأة بجثة ملقاة على الأرض، لم تكن مغطاة أو مدفونة مما يؤكد أن الجانى لا يريد إخفاء جريمته، ولم يكن سلاح الجريمة ظاهرا أو موجودا مما ينفى فرضية الانتحار من البداية.. الدماء التى تركت الجثة كانت تغطى مساحة ليست بالصغيرة من القصة، حتى أن يد المؤلف كانت تقطر دما حين رفعها عن الورقة.

وقف المؤلف مذهولا فى بداية الأمر، لكنه وكمؤلف ملتزم بكل خصائص السرد الواقعى وقواعده، اضطر إلى استعمال التليفون والاتصال بالشرطة للإبلاغ عن الجريمة والجثة، سارعت الشرطة بالحضور، وأيضا كشرطة تعرف دورها وتعمل على حفظ الأمن ومنع الجريمة حتى داخل قصة قصيرة، بدأت فحص القصة من بدايتها.. كان العنوان مريبا لكن الأحداث تبدو عادية من الوهلة الأولى.. موظف صغير متزوج من سيدة لا تعمل، لم يهتم المؤلف بها فلم يرسم لها صورة أو يظهرها فى قصته حتى ولو ككمبارس صامت، يسكن شقة من حجرتين وصالة، ترك الزمن بصماته القاتمة على كل ما بها.. جدران، سقف، أثاث.. حتى بلاط الأرضية لم يسلم من ضربات الزمن التى حطمت بعضه وتركت على ما بقى منه علامات سوداء..

ليالي الشتاء جافة وقاسية، وهذه المدينة البائسة القابعة تحت جناح الضباب الكثيف تحولت فجأة إلى مدينة للأشباح. ما إن يحل الليل وتتدحرج الشمس وراء الجبال حتى تصبح صحراء ممتدة من السكون والفراغ. يهجم الظلام بعنف على الشوارع والأنهج والأزقة. تُوصد الأبواب وتُسدل الستائر على النوافذ بعد إحكام غلقها. تختفي كل مظاهر الحياة إلا من بعض الأضواء التي تنوس من الفتحات الصغيرة عبر ثقوب الأبواب والنوافذ أو من بقايا الفوانيس التي لم تقتنصها حجارة الصبية العابثين أثناء النهار.
ليل هذه المدينة موحش لا يخترقه سوى صوت ناقوس الكنيسة العتيقة التي تتوسط الشارع الرئيسي الطويل الممتد في استقامة كطريق يعبر الصحراء بلا تعرجات أو التواءات. لا أحد من السكان ينبئك متى أُنشئت تلك الكنيسة أو من أنشأها. ألفها الناس وألفتهم. ألفوا دقات ناقوسها الرتيبة المكرورة. ألفوا ألوانها البسيطة الجذابة. ألفوا أنوارها الساطعة. ألفوا أناشيد الآحاد يرددها المصلون في خشوع وانسجام. يشعرون بالفقد كلما صمت الناقوس أو أُطفِئت الأضواء.
يحاذي الكنيسة من الجهة الشرقية مسجد قديم بصومعته السامقة. يرتفع من أعلاه صوت المؤذّن عند كل صلاة، فترى الناس يهرعون إليه يلجون عبر أبوابه الكثيرة وقد غُلّفت أرواحهم بهالات قدسية سرعان ما ينزعونها بعد الفراغ من الصلاة، يُعلّقونها على المشاجب ثم يخرجون لاستقبال الحياة بما فيها من خبث وعنف وقسوة.

 يتهافت على الاستجابة، يتلهف على تلبية الطلب وأصبعه يعانق عنان السماء في إلحاح عنيد، لا يكتفي بتمديد أصبعه، بل يدعمه بالوقوف منتصبا تحت اندفاع الرغبة في الظفر برحلة. المسافة قصيرة، لكنها تعني الكثير له، فهي ليست مجرد خطوات خارج الحدود، لكن الوقوف بجانب السبورة فرصة مواتية للتخلص ولو مؤقتا من زمن القيد.
يغدو الفضاء أمامه رحبا، أو قل مترامي الأطراف مثل سماء زرقاء يوم عطلة، هكذا يستشعر اللحظة، غنيمة ثمينة تساوي سعادة هائجة كموج، لا تضاهيها سعادة غير تلك التي يحلق في رحابها نبضه خارج الأسوار.
- أستاذ، أستاذ... أوزّع الأوراق؟؟
سؤال يحمل على شفتيه الرجاء، وقد ينزاح إلى توسّل أو إلحاح مؤثر من أجل الفوز بهذه العملية، عملية يتوق من خلالها إلى الحركة، وإذا كان الفضاء مغلقا، فهو مفتوح مقارنة بالحيز الذي من المفروض أن يلتصق به لفترة يحس بها دهرا لولا اقتناص مثل هذه اللحظة، تكسرُ ضيق الحجز وتحقق حلم التخلص من قبضته. يعي جيدا أنها مثمرة، لكن تحقيقها متعب مثل تسلق جبل نحو القمة.
- أستاذ، أستاذ، مبيّض...
تنبلج من شفتيه ابتسامة معلنة ولادة حظ جميل. تنقله خطى تتفنن في التباطؤ صوب زميل يتخيّره بإحكام؛ هناك. يتمصّص زمنا لذيذا ظفر به ويطمح إلى الاحتفاظ به طويلا، لذلك يسلك الطريق الطويل، فيتحسس اللحظة باللحظة، ويترشّف الحركة بالحركة، وفي مساره ينثر الكلام، يعقد الصفقات، يبوح بأسرار، يبرر مواقف، يسطر برامج، يمرّر أشياء يصعب تبيّنها... كل هذا في لمح البرق وبمهارة فيها الكثير من السحر الخارق، لا يتقنه إلا وهو في دبيب حركة أو على بساط حلم زهيّ الألوان.

كان يمشي بخطى سريعة كأنه على موعد مع أحد. يجر وراءه، كيسا كبيرا يلامس الأرض ويحدث ضجيجا خفيفا والكثير من الغبار. اقترب من حاوية كبيرة بها نفايات كثيرة، دفع جسده النحيل بداخلها كمن وجد كنزا ثمينا ويخاف أن يشاركه أحد. تطاير الذباب من حوله وانزعجت القطط والكلاب التي كانت تستوطن المكان قبله، من حضوره كثور هائج، يبعد بكلتا يديه كل العناصر الخارجية التي ستقاسمه وليمته.
سعيد، شاب وسيم وصاحب أخلاق عالية، يرعى والدته ويعاملها معاملة جيدة ولا يتحمل أن يراها تتألم. لم يكمل تعليمه نظرا للفقر الذي لازمه منذ أن أصبح يافعا. توفي والده إثر حادثة شغل، وضاعت معه كل سبل العيش الكريم. بحيث تنكر صاحب المعمل لوالدته ولم تستطع الحصول على أي تعويض. وكانت تكرر جملة دائما لابنها سعيد لما يلومها على سكوتها على حقهما، " العين بصيرة واليد قصيرة يا بني". اشتغل في عدة حرف، كان عزيز النفس، يرفض التحكم ولا يقبل أية إهانة ولو كان الثمن عمله.
تحول بعدها الى بائع متجول، سيد نفسه، يستيقظ في الصباح الباكر، قبل أن تنهض المدينة من نومها وتفتح النوافذ على مصراعيها، يتجول بين أحياء الميسورين ويفتش في أزبالهم، ولا يرفع رأسه ولا يلتفت يمينا أو يسارا. يدفن رأسه وسط حاوية النفايات، ويعلن عن ثورة بداخلها كأنه يبحث عن نافذة تبدل حاله وتعيد عقارب الزمن للوراء، ويعيش أحلامه التي بترها واقع غير عادل. يضع ما يراه مناسبا له في كيسه. ويستمر هكذا حتى تصير الشمس في كبد السماء، ويكثر الضجيج وتختلط الأصوات. ينسحب بهدوء كما أتى، يجر كيسه وراءه منحني الراس.
حدث هذا في يوم من الأيام الصيفية، كان سعيد كعادته يتجول بين أزبال الميسورين، لا يبتسم ولا يرفع عينيه. تراه مهموما كأنه يحمل بؤس المهمشين على أكتافه. هدفه أمامه وربما كانت عزة نفسه تدفعه لوضع حاجز بينه وبين المارين والقاطنين. كانت خطواته بطيئة والكيس تارة على ظهره وتارة أخرى على الأرض. اذ بصوت قوي ينطلق من الخلف ويزلزل المكان، ويطرد ذلك الصمت الثقيل، ويطلب من سعيد التوقف. التفت وعينيه كلها تساءل وخوف وحيرة. وهو الذي لا يحدث ضجيجا ولا بلبلة. توقف وانتظر في مكانه. سأله الرجل الذي كان يلهث ويجري كأن مصيبة وقعت.

ٱلأَنَا وظِلُّها:
-1-
قُبَيل الفجر دَاهَمَتْني مَنَامَة.
فقد رَأيتُ في ما يرى النَّائِم أضْغَاثَ أَحْلام ٍ لم أعْهَدْ مثلها من قَبْلُ..
على إِثْرِها ٱسْتفقتُ مَذعُورا والظَّمَأُ ينالُ منِّي إذ أَحْسَسْت ُ بِتَجَفُّفِ حَلْقِي. أَطْفَأتُ غُّلَّتِي بماء معدني فَٱبْتلَّتْ أَحْشَائِي.
ٱجْتَاحَنِي عَرَقٌ غزيرٌ وأنا أَتَفَكَّرُ في صُورِ رُؤْيَايَ وَأُقَلِّبُ رُمُوزَها الَّتِي تُقْت ُ قَدْرَ مُكْنَتِي إلى ٱلتِقاطِ بعض معانيها وَتَفَهُّمِ قَدْرٍ مِن ْ دَلاَلاتِها.
-2-
في كل صباح، ألْبَثُ مُسْتلْقِيًّا، لِوقْتٍ قد يطول أويقصر، كَدَيْدَنِ "روني ديكارت" وهو تلميذ وهو تلميذ في مدرسة "لاَفْلِيشْ" ٱلْيَسُوعِيَّة. على سريري أَظَلُّ أتأرْجحُ بين خَدَرِ الكَرَى وٱستيهاماتِ يَقَظَتِي. وفي مَضْجَعِي أيضًا أسْعَى جَاهِدا إلى ضَبْطِ بَوْصَلتي المُرْتَجَّة ٱلَّتِي تَجْعَلُنِي على النَّقِيضِ من "يُوهَان غُوتُه" أرى الشَّرقَ غربا، والغَربَ شرقا..

أصبحت لا تطيق رؤيته مشغول البال صامتا مطأطئ الرأس على طول. تساءلت والحيرة تأكل أحشاءها: " فيم يفكر الرجل؟ ترى ما يشغل باله؟ "
رغم إلحاحها الشديد لم تلق جوابا، فمزاج الرجل كان مضطربا إلى حد أنه لم تعد لديه رغبة في الحديث والإفصاح عما به، وكان سؤالها الوحيد المتعدد الصيغ:
- " ما بك قد تغير طبعك منذ مدة؟"
وكان رده الذي لا يشفي غليلا:
- " لا شيء..."
تكدر الجو بين الزوجين ولجـﳲت هي في الصدود الذي لم ينتبه له الرجل إذ قد تمكن منه الانشغال حتى بات يهمل شكله، صارت لحيته كثة وصار هندامه متواضعا إلى حد القول أنه أصبح كهندام مجذوب.
تصدع تماسك الرفيقين الذين لم يسبق لهما أن عرفا توترا مثل هذا من قبل، فقد استمرت علاقتهما أكثر من سبع سنوات ذاقا فيها معا حلاوة السعادة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. مضى على هذا الحال قرابة شهر، واضطراب الزوجة كان يزيد. فكرت في الانفصال تهورا لكن سرعان ما تراجعت. فهو زوجها على كل حال لا يمكن أن تنسى بين عشية وضحاها ما كان بينهما من مودة وسكينة. لكن المرأة بطبعها ضيقة النفس قد تفقد صبرها في أية لحظة وقد يكون تصرفها غير لائق. وهذا ما حصل، فقد تمكن منها الوسواس وظنت بزوجها ظنا خبيثا:

تناولت العشاءَ مما تيسر من الطعام، فلعِبَ الدسم بالدماغ، وتدلّت جفناي وتراختْ عضلاتي ، ولم أطق الجلوسَ ولو لمدة قصيرة أمام التلفاز؛ فهبَبْت إلى سريري، لأخلد للنوم.. مرت دقائق وأنا أحلق بين كهوف الظلام المطنب، كانت عيناي تقتحمان بوابةَ الذكريات، تستدعي الكئيبَ منها والسارَ، تارة أبتسم وأخرى أقطب، أستعطف الكرى، ليرحل بي بين مفازات الكون في نومة هادئة وغير مزعجة... رأيت ما رأيت وأنا أغط في نومي والعهدة عليّ، أرتدي لباسا أبيض، قاصدة بيت الرسول في طريق طويل عريض، يتوسط حقلا زراعيا أخضرَ شاهقَ السنابل ، والنسيمُ العليل يراقص خصلاتي.. اقتربت من بنايات قديمة أغلبَ ببوتِها هشٌّ وغيرُ مطليِّ، فسألت شخصا عن الطريق الذي يفضي إلى قبر الرسول، فرد قائلا ارفعي عينيك وانظري هناك ، فتراءت لي قبة خضراء دائرية السطح، متجاوزةُ البنايات علُوّا، ابتسمت وشكرت الرجل بعظيم الامتنان، وتابعت السير والفرحة لا تسعني، نزلت مِرقاتيْن من بين البنايات المتراصة حولي، ودخلت قبر الرسول، فقابلتني امرأة وقورةٌ واقفة تُسنِد ظهرها إلى الحائط، تبادلنا التحية بتقدير واحترام، دون أي حوار أو استفسار، فأشارت بسبابتها قائلة:

-1-
أدخل المقبرة مهيض الجناح، أسلم مردداً: أنتم "السابقون، ونحن اللاحقون"، رموس كثيرة أمر بها، قبل أن أصل لقبر أمي، في طريقي أصادف شابّاً، تائهاً، بين القبور، ينظر يمنة، ويسرة، بعصبية لافتة، كنتُ على وشك الوصول حين سمعته يتكلم بصوت مرتفع في هاتفه: " عذراً على الإزعاج، في هذا الوقت، ولكني تائه وسط المقبرة، تائه فعلاً، ولم أهتدِ لقبر المرحومة".
بعد المكالمة، يتخطاني، ويتجاوزني بسرعة، قبل أن يستقر، غير بعيد، من قبر أمي، يمسح بعينيه رموساً كثيرة، متراصة.. كنتُ أنتظر منه أن يسألني، أو يكلمني، لم يكن في المكان غيرُنا، بيْد أنه لم يفعل.. لو سأل ما دريت بما كنتُ سأرد، لكنه حسناً لم يفعل، (مجيئي إلى هنا لم يكن من أجل الحديث مع أحد سوى أمي).
يصلني صوتُه، رغماً عني، المكان هادئ، فضلا عن أنه أصر، من انفعال، أن أسمعه أنا، ومعي كل الموتى...
حين انتهيتُ من قراءة الفاتحة على قبر أمي، والدعاء لها، كان لا يزال حائراً.. يرفع صوته، يزيد من زوادته، بشكل غريب حين أدرك أنه فشل في العثور على القبر المنشود، يبدو مُحبطاً تماماً.. أدور قافلا، أراه يبتعد، يرجع من حيث أتى، وهو يصيح بتشنج:
" ضالة، وضائعة، مذ كنتِ، عشتِ في الدنيا تائهة، وها أنتِ تخلصين لتيهك حتى في المقبرة، لا أحد عرف كيف يصل إليك حية، وميْتة".

مفضلات الشهر من القصص القصيرة