قيل فى الآثر : " يظل الرجل الرجل حتى يقابل المرآة المرآة ويحبها .. "
ويحكى أن عنترة اصطدم يوما بحائط اليأس من وصل عبلة، فأخذ سيفه وفرسه وحزنه وأسرع فى الصحراء، لم يُعدّ النُهُر التى ظهر فى نهايتها القمر، ولا الليالى التى غابت فى بدايتها الشمس.. لكنه فجأة استشعر الجوع والعطش لجسد عبلة وقلبها، فنزل عن فرسه وألقى بسيفه على الأرض وبكى كما لم يبكِ يوما رجل، أو كما لم يبكِ يوما فارس، حتى توقف مطر قلبه وجفت عيونه، فصحب حزنه وعاد إلى خيام القبيلة فارسا من جديد.
لكن التاريخ يحفظ لنا – فى قلب الصحراء ورمالها- ذكرى ذاك اليوم البعيد.. عين ماء صافية رائقة كأنها عين من عيون الجنة.. كلما نزل عليها مسافر - أو مر بالقرب منها - اشتاق وحن حتى يتشقق قلبه ولو لم يكن محبا أو صاحب طريق.

طقس
ساعة العصر تزحف بطيئة، وآلة الحصاد تواصل دورانها بنفس الصخب تحت شمس حارقة. أما نوار الشمس المشرئبُّ من الحقل، ذاك، خلف الوادي، فقد كَلَّ من ليِّ عُنقه متابعا دورة الشمس، ولو علِمَ أنها ثابتة لاستراح ورفع رأسه أو ترَكَه يتدلّى.
لم ييأس الجُعل (بوجعران) من دفع كُرته التي اعتادَ تكويرها من روث البغل، ودسّ بيوضه فيها. يُبدع في دفعها بستة أرجل تتناوب فوق أرض غير مستوية نحو بيته الذي يُخفيه كما يُخفي جناحيه، ولا يشهرهما إلا للضرورة والبحث عن قوت إضافي.
عاد الْحَيْمر الراعي يروي على مسامعي أن ساعة هجرته قريبة، حتى وإنْ مات في البحر فليس له ما يخسره، عاش راعيا وقد تجاوز الثلاثين من عمره، وأقسم إنْ عَبَرَ حيّا سيعود بعد خمس سنوات في سيارة أوتوماتيك وزوجة نصرانية شقراء. يكره نساء البلد لأنه يعلم ما يجري في الدوار من أسرار عصية على الحكي. ثم يلتفتُ إلى هاتفه المذياع وقد حوّل الموجة إلى قناة شدى إف إم في برنامج " برلمان الشعب" مع مقدمه الإعلامي الحسين شهب الذي ينفحه حماسة وهو شارد.

لا يجرؤ الحبر أحيانا على الانطلاق، تتشتت الأفكار وتصطدم مع بعضها، تبحث لها عن منفذ تنسل منه هاربة من جحيم سجنها؛ فتعود لتسقط في دائرة اليأس. أنفض غبار التشاؤم عني، أحاول التكيف مع الانكسارات، أراوغ طموحاتي وآمالي، أكبت كل توجهاتي المتمردة؛ فلا يبرح القلم غمده. أخط حروفا مغتصبة، أرغمها على الوجود، أحاول لملمة شتاتها لعلها تسمو إلى كلمات تلامس ما يخالجني؛ فإذا بها مجرد أشباح تتراقص فوق ورقتي البيضاء.
أعود إلى صرة ذاتي، أبحث، وأكتشف، وأقلب ركام ذلك المخزون المنسي من ذاكرتي، لعلني ألتقي فرحة تائهة تنير حيرتي وتلجم هواجسي، أو حتى دمعة تزلزل كياني وتعيد نظم حبل تطلعاتي.

لم تكن حبيبة، بل حلما لم يرغب بهجرانه، حلَّق وعلا به، فارتطم بسقوف الوحدة.
ذاك الصمت الجليل، الكلام يدنسه، والتصريح يقتله، نوع من تعاطي العذاب، والإدمان على الفناء المقنِّع بألوان صاخبة.
عيناها لوز وسكر، رموشها حراس ليليون، مستعصية على الحب، مسلسة لفرح مزيف عادي، خالٍ من عصف الدهشة، وفارغٍ من أي شغف.
امرأة سكنت ظل البدرعلى وجه الزرقة الحائرة، رثت عيون الغسق في محاريب العزاء، وتنشقت قُبلَ الموت الساكن.
رانيا كانت شلالا من فتنة، وكان هو ناجيا من هاجرة خانقة، فلا هي توقفت عن التدفق العاصف، ولا هو قدر على مجاراتها، فاستكان مع حمرة الشفق الأخير.
عاندتِ الحياة، كمن قتلت ابنها، وبكته عمرا كاملا، عاقبت روحها باحتراق ذاتها، وتطهرت بالندم من جريمة شبه مكتملة الأركان.

بعض الصدف كالشرارة، لا تخلف إلا الحرائق التي لا يقدر أحد على إخمادها. وتلك المكالمة التائهة ألهبت في هشيمه نارا لا قدرة له على إيقاف تقدمها. كانت أرضه هشيما مصفرا. وكانت كلماتها زيتا سُكب على ذلك الهشيم. عجز عن كبح لجام نفسه، وأطلق لها العنان تَصَحَّر به من بيداء إلى بيداء. لم يتوقف عن مهاتفتها يوما. ما إن يبلغ باب المؤسسة التي يشتغل فيه حتى يسارع إلى وضع الشريحة الثانية في هاتفه ويتصل بها، ويعطر صباحها بعذب كلامه وينثر حولها عبيره ويتركها بين حلم ويقظة. كثيرة هي المرات التي أيقظها من نومها باتصاله. داما على تلك الحال حينا من الدهر. أدمن كل منهما صوت الآخر. تحولت المكالمات إلى لقاءات افتراضية عبر الفايسبوك. أعجبتهما اللعبة واتفقا دون تصريح على مواصلتها. تبادلا أعذب الكلمات. روى لها النكت المتنوعة. اخترع قصة لحياته وحكاها لها. صدقته في كل ما قال. شهران متواصلان ظل يحدثها وتحدثه. وظل يصدقها وتصدقه إلى أن أدمن كل منهما الآخر.
كتب لها يوما وهو يعانق صفحتها على الفايسبوك حين عثر عليها متصلة:
"نورتني يا خير زائرة أما خشيتِ من الحراس في الطرق"

الجنيريك:
الشخصيات الرئيسة:سوسو، طائر الكُرَزّيط،الحنش صائد الفئران،البغل، الظهيرة الملتهبة، آلة الحصاد الجون دير، طبق الكسكس،القيلولة.
الشخصيات الثانوية: عيسى السْمايْري، الراعي الْحَيْمَر، افَّيْطنة الحمّادية،الرّحالية، سي الحاج بلْمدَني، الراوي.
بعض الكلمات المفاتيح: طايْح، يُفَركِل، المنام، الصمت، ، الحقيقة، أرجوووووووك.

الراعي والحنش
مثل موسيقى من نوتة واحدة تتكرر، كان صوت محرك آلة الحصاد، الجوندير الصفراء، لا يكلُّ رغم الحرارة التي تجاوزت الأربع والثلاثين درجة. فتحتُ كل أزرار القميص والشمس لا تتعب من التحديق، أمّا الأرض فتُواصل طوْفَتها، وهي من ثوابت الكون الكبرى.
قادَ الراعي الْحَيْمَر أغنامه قافلا بها نحو الزريبة لتقيلَ كما تعوّدت، وكان سعيدا بعدما اصطادَ حنشا مخططا بالأصفر والأسود متوسط الطول، وهو غير سام ومشهور باصطياد الفئران والقوارض، وصاح من بعيد يقول لي :
- سأستريحُ الآن من تلك الفئران الخبيثة التي تحيا معي في عشتي. هذا دواؤها.

موسيقى تمهيدية
الصمتُ معجزة العالم الحديث. لحظة واحدة تُغني عن كل الصخب الذي يملأ الدنيا ويُفسد تذوّق الحياة.
كنّا معا في ذاك الخلاء المُمَدّد، ذات يوم حصادٍ ابتدأناهُ باكرا خلف صمت مُطلق تخدشه جلجلة صوت آلة الْجوندير الصفراء المتهالكة، والحريصة، رغم ذلك وبلا رحمة، على التهام رؤوس سنابل الشعير الخائفة.
أتصببُ عرقا مع الساعة الأولى من صباح اليوم الثاني والأخير من الحصاد، درجاتُ الحرارة تعلو سريعا، في أرضٍ أهلها جرّبوا نعيمَ الجنة ليلا، ويكتوُون بسعير جهنم نهارا.. وفي الأفق البعيد، كانت أشجار الغابة تبدو مثل جنودٍ من المُشاة ينتظرون عودة قائدهم الغريب، أمّا سوسو، بذكائها الفطري، فقد اختارت الابتعاد عني لمّا رأت إهمالي لها وتمدّدتْ تختلسُ النظر منتظرة صفيري، لكنني مُنشغل بشيء أكبر، أكبر من عقلها الصغير.
كنا معا فقط، أو هكذا رأيتُ. رفعتُ بصري إلى السماء أحاورُ الشمس التي أوهمتنا، وما تزال، بطلوعها اليومي وغروبها، وهي مستقرة في مكانها.. مُثقلة بغَضبها الذي تعتقده هواءً أو نورا، بينما الطواف الأبدي للأرض التي نحيا ونموت فوقها، تدور حول الشمس بحساب، كأنها في قيْدٍ يمنحها حقّ الاستدارة المشدودة إلى وتد نُحاسي متين، فتشتهي دوما الوصول إلى الشمس، وكلما التهبَ شوقها ولجت دورة القمر، وكلاهما ينظران وينتظران، لا الشوقُ احترقَ ولا الضجرَ عمّ.

شيئا فشيئا أصبح القسم غرفته السحرية. ما إن يصرف التلاميذ إلى بيوتهم المعزولة في شعاب الجبل الصخري، حتى يبادر إلى تهوية الحجرة، وإخراج ما تبقى من غازات الصغار، وبقايا التهامهم المفرط للبسكويت وأكياس البطاطا المقرمشة.
قبيل الغروب يستأذن عفاريت المكان بإضاءة شمعة. هنا تدرج خياله في ابتكار شخوص وأحداث لقصصه، ولايزال قلبه حتى الآن مفعما بالمسرة، حين لقيت قصته الأولى ثناء على صفحات المجلة.
يدير مؤشر المذياع بحثا عن جديد الثقافة والأدب. هكذا تحلق همومه في سماء غير التي تظله كل يوم تحت هذه القرية المنسية. يشعر بحنين لأصوات غرست فيه توقا للكتابة، فحتى أواخر التسعينات لم يفقد أثير الإذاعة الوطنية حسه الأدبي، واستمرت بعض أصواته الدافئة تحيي الأقلام الخجولة، وتعدها بفسحة من الأمل. وجيه فهمي صلاح. مسلك ميمون. محمد عمارة. فاطمة أقروط. أصوات تخيلها دوما تلتقط ما في الملكوت من رذاذ الشعر، لتبرد به عطش الباحثين عن جميل القول وجليله.