في بادئ الأمر كان الأمر عسيراً جداً. أن تمضي الليل مستيقظاً، ليس أفضل الخيارات. لكنني لم أكن سيد القرار. وكان عليّ تقبل وردية العمل المسائية.
لم تكن لدي مهام وافرة، بحيث أكسب وقتاً كافياً لأختلي بكنزي، وأطالع بعضاً من فصول كتابي، فطالما عشقت مجالسة المؤلفات والدواوين في الليالي الحالكة، أستدفئ بدفئها وأستنير بنورها.
لا أحد يزعجني. وحدها أصوات الأجهزة كانت تلاطف مسمعي وتؤنسني.
أحياناً كان زميلي أسد يأتيني بكأس القهوة، ونتجاذب أطراف الحديث، ثم يعود إلى مكتبه الذي يبعد عن مكتبي بثلاثة أَقسام.
مضت سبعة أشهر على هذا الحال الذي لم أرتح له، لكن قبِلت به إلى أن حانت ليلتي الأخيرة هناك.
كنت أستمتع بكوب قهوتي في المنزل حين هاتفني حسين مساءً. توسّلني أن أعمل مكانه تلك الليلة بسبب مرض ابنته صوفيا التي كنت أحب ملاعبتها دائماً. قبِلت طلبه لعطفي على الصغيرة، ولحظي التعيس كانت ليلة ماطرة.
هاتفت سائق سيارة الأجرة، الذي كان رقمه المحمول بحوزتي، وأقنعته بإيصالي إلى مكان عملي في أجواء عاصفة.
لدى بلوغي المقر، وجدت أسد في انتظاري عند المدخل، لكن مزاجي السيئ منعني من أن أبادله التحية بأحسن منها فدخلت مسرعاً.
مضت من وقتي ساعة في تعديل الملفات، التي عرفت كثرة الأخطاء، وبعد تعبي قصدت آلة القهوة، لأعدل مزاجي الذي تعكر بسبب غباء الموظفين في التعامل مع المعلومات، فأحسست أن مقر عملي مكتظ بالبلهاء.
بعد أن ضغطت على زر تشغيل الآلة، ووضعي الحليب والبن في مكانيهما، سمعت رنين الهاتف.
هرولت إلى المكتب، ورفعت السماعة. لم يرد أحد على تحيتي، فكررتها مرات متتالية دون جدوى. وضعت السماعة، وعدت لأحضر قهوتي، فصعقت لأنني وجدت مشروباً أسود عوضاً عن ذلك الذي اخترته، ظننته قهوة سوداء وقد نسيت إضافة الحليب.
حملت الكوب إلى أسد، لأن موعد قهوتي السوداء في الصباح وليس في المساء. لم أجده منهمكاً في مكتبه كالمعتاد. استغربت انصرافه في تلك الساعة المتأخرة، وفي ذلك الجو الماطر، فتركت الكوب على منضدة زجاجية قرب باب المكتب، وعدت أدراجي.
تكررت حكاية الاتصال الصامت برنين الهاتف مجدداً، بعد أن رفعت السماعة لم يجبني عاشق الصمت ذاك. ألقيت بها بعصبية، ثم انحنيت لحملها، أعدتها إلى مكانها، إذا بي أرتعب لرؤية كوب القهوة السوداء قرب الهاتف.
قفزت من مكاني هلعا، وهرعت إلى أسد، وأنا أمنّي النفس بعودته مرتجفاً من شدة الفزع.
وجدت شخصاً آخراً لم أره قبلاً. تسارعت نبضات قلبي وأنا أرتجف، لم أتبين ملامح وجهه تماماً، لأن رأسه كان مطأطأً.
هممت بالعودة إلى مكتبي، فتكلّم بصوت غريب جداً، شلّ أطرافي إلى حد انتابني دوار غريب.
استجمعت رحال قواي، وعدوت كما كان المخطط إلى مكتبي عبر الممر المظلم، وأوصدت الباب الزجاجي الشفاف من ورائي، وألقيت ببدني الثقيل فوق الكرسي الجلدي البارد، فصار ساخناً جداً كما لو كان موقداً.
حدقت أمامي، فصدمت أكثر لرؤية كوب القهوة السوداء اللعين، وكأننا في معركة، حيثما يحطّ طرفك تبصر جنوداً. لم أخش دخان الكوب حينها، لأن تفكيري كان منصباً حول ذلك الكائن.
رن الهاتف المشؤوم من جديد ولم أقو على الإجابة.
واصل الرنين دون ملل، فحملت الُسماعة ببطء شديد.
كان المتصل يتحدث لغة لم أستوعبها تماماً، فسألته مرتجفاً إن كان يتكلم لغة مفهومة.
لم أتوقف عن نقل نظري بين الباب الشفاف والكوب.
وإذ كنت على وشك فقدان وعيي، جدد محدثي طاقة وقوفي، حين نطق أخيراً كلاماً بلهجتي. شعرت ببعض الاطمئنان، لكن للأسف كان سراباً، أملاً كاذباً...
أمرني بعنف أن أرتشف القهوة السوداء التي أعدّها لأجلي. لم أتذكر شيئاً بعد ذلك.
أيقظني رئيسي. لم أعرف شكله المألوف. كان قلقاً لحالي، وركض ليحضر لي كوباً من الماء، وشرع يطرح الأسئلة التي عقدت لساني.
بينما كنت أهم بالمغادرة دخل أسد، وبدت ملامح الغضب على محياه. سألني عن السبب الذي دفعني لأوصد عليه الباب الخارجي لمقر العمل بعد أن كلفته بإحضار علبة السجائر لي من أقرب محل.
لم أقو على شرح أي شيء له، فأزحت بصري عنه، وغادرت دون عودة.
*كاتب مغربي