محمد زفزاف كاتب عظيم، مثقف مثير للقلق والفضول، أديب مجدد ومفعم بالتحدي، رائد من رواد الرواية والقصة القصيرة المغربية، فارس من فرسان المقالة الأدبية بمختلف أنواعها. أطلق عليه البعض لقب الروائي الروسي "فيودور دوستويفسكي" بدعوى أنه اقتدى به في استرسال اللحية، وفي التشبث بأهداب الواقعية لتمثيل القضايا المعيشة. عُرف محمد زفزاف باتشاح "الكوفية الفلسطينية" في معظم الأوقات دفاعاً عن القضية الفلسطينية ونُصرةً لمساعيها التحررية. تُعتبر كتاباته من أبرز التجارب الروائية في المغرب التي هتكت حجاب "التابوهات"، مُستمدةً نسغها من التفاصيل الواقعية اليومية.
وفي هذا السياق، صدر حديثاً كتاب هام "من أرشيف محمد زفزاف" لجميلة حمداوي، وسعيد الزياني، بإشراف ومراجعة وتقديم الأكاديمي والناقد المغربي الدكتور محمد الداهي الذي سبق له أن أحرز السنة الماضية على جائزة الشيخ زايد العالمية للآداب ( فرع الفنون والدراسات النقدية)، وخصص جزءا من مساعيه و مبادرات العلمية للتعريف برموز الأدب المغرب، ورد الاعتبار إلى الذاكرة المغربية الحية ( نذكر أساسا مؤلفاته الجماعية عن محمد برادة، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد مفتاح، ومحمد بنطلحة).
صدر كتاب "من أرشيف محمد زفزاف" عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في حلة قشيبة من 358 صفحة، ويتألف من خمسة أقسام (المقالات، والمسرحية، والترجمة، والقصة القصيرة، والرسائل).

رسالة رقم 1
عزيزتى أحلام
اليوم، صحوت من نومى على رنة التليفون، كنت على يقين أنك من يتصل.. لذلك رسمت بسمة كبيرة على وجهى، وأدخلت كمَّ من الحب إلى صوتى، ورفعت السماعة..
لم أسمع صوتا فى الجهة المقابلة، فقط صمت طويل ثم أغلق الخط.. لم أحاول معاودة الاتصال بالرقم، فقط ذهبت سعيدا إلى الثلاجة.. أخرجت زجاجة مياه باردة وحاولت بها إطفاء شوقى إليكِ.. لولا أن قلبى –الذى تسكنينه- لا تصل إليه المياه لرأيتِ بعينيك كيف تصاعد البخار من داخلى مع كل دفقة ماء من الزجاجة كانت تعبر إلى فمى.. أعرف أنكِ تحلمين مثلى بهذا اللقاء، وأنكِ تصنعين مثلي البخار كلما تذكرتِ أيامنا معا.. انتظر اتصالك القادم بشوق لا تطفئه مياه العالم.
محبتى والسلام

غابة كثيفة ومظلمة لا تضيئها شمس ولا قمر، يسير تيّم وسطها دون هدف، هكذا كان حلمه كلما أخذته سنة أو خلد إلى نوم بالليل أو بالنهار. وكلما استيقظ، كان يحاول تذكر تفاصيل أو جزئيات هذا الحلم، ولا يتذكر سوى أنه يمشي وسط غابة كثيفة الأشجار ومظلمة. فيتناول قبل أن يغادر فراشه قلما ويرتمي في بحر الخيال ليجد تصورا عن بداية ونهاية لهذا الحلم الغريب المتكرر، وكلما أسعفته الكلمات وجادت عليه بقصة، بعد مراجعتها تجده لا يحس بالرضا ومن تم يمزق الورقة ويلقي بها في سلة المهملات.
كان تيّم يبحث عن تتمة حلمه في قصة كاملة لها بداية ونهاية وترقى لمستوى تطلعه، كانت رحلته شاقة، فما أصعب أن تدمن على الكتابة وتستجدي الإلهام بمختلف الطرق حتى وإن كان الأمر يستدعي تغيير نمط حياتك. بالنسبة له، فقد أصبح شبه مدمن لحبوب النوم، غايته أن ينام وأثناء نومه يجد تتمة لحلمه الذي حيره. ولقد عزا تكرار هذا الحلم المبهم إلى الاحتياجات النفسية التي لم تحقق بعد. عندما استشار طبيبا نفسيا لم يقنعه بشيء ذي جدوى، فلم يزد عن قوله بأن هذا قد يكون نتيجة لشعوره بالتوتر والقلق تجاه شيء ما لا يستطيع الحصول عليه، أو مشاكل من الماضي لم يستطع حلها، ونصحه بعلاج توتره أو محاولة حل مشاكله بطرق أو بأخرى. بحث في كتب تفسير الأحلام واتصل بالمفسرين أيضا، ولم يعثر على رأي ثابت مقنع، مما جعله يصمم على المواظبة على الكتابة واحتراف الغطس في بحار الكلمة.

قبل سنة الباكالوريا التحقتْ بصفّنا تلميذة جديدة ، غريبة الأطوار و مختلفة عن رفيقاتنا في الصفّ ، لقد كان مظهرها غريبا جدا ، فقد قصّت شعرها مثل الأولاد و دهنته بكريمة لمّاعة رافعة إياه إلى فوق بشكل مميّز ، أما لباسها فلم نرَ له مثيلا في السابق ، فقد كانت تلبس حذاء رياضيّا أسود وجوارب بيضاء على تنّورة تصل حتى ركبتيها ، غير أن ما يميّز وجهها الحنطي الجميل هو الفلج في سنَّيْها الأماميّتَيْن ، و ما جعلها تهيمن بروحها على الصفّ بكامله هو ابتسامتها التي لا تفارقها أبدا ، ابتسامة راضية تسحر جميع الأولاد و تشعل غيرة كل البنات ، إلى درجة تخال فيها أن تلك الابتسامة هي مزروعة على محياها بشكل أبدي ، ولذلك أطلق عليها رفاقي في الصف اسم sourire) ) باللغة الفرنسية و تعني ( ابتسامة ) ، كانت هي لا ترى في ذلك حرجًا بل تزداد ابتسامتها أريجا وبهاء يوما بعد يوم وسط غيرة زميلاتنا التي تحوّلت إلى حنق دفين ..
كانت رياح خريف ذلك العام قد عصفت بالجميع فالكل صار يسعى للتقرب منها وكانت هي في كل مرة تجلس بجانب أحد رفاقي من الأولاد و لا تجلس أبدا بجانب أيّ من التلميذات ، بل إنها حتى في حصة الرياضة حين يقسمنا الكابتن إلى فريقين كانت تريد دائما أن تلعب معنا نحن الأولاد حتى لو كان الموسم كرة قدم !

موجات من البشر تتدفق نحو مكان الحادث المروّع الذي حدث فجأة. هكذا هي المصائب تأتي من حيث لا نتوقع. تصدمنا حقيقة حدوثها فتحدث شروخا في الروح يعسر رتقها.

 عندما وصلت بعد أن عبرت شارعين وجدتني أقف مذهولا من هول ما وقعت عليه عيناي، أنصاف جثث متفحمة، وأطراف مقطوعة لا يزال الدم ينز منها وتفوح منه رائحته العطنة المقززة التي تزكم الأنوف، رؤوس متطايرة وأجساد متصلبة، أكوام من الجثث الملقاة هنا وهناك. عندما وصل آخر المحققين كان كثير من الفضوليين قد تجمعوا، منهم من مرّ كأن الأمر لا يعنيه، ومنهم من ظل واجما متسمرا في مكانه ملفوفا بكل جزع الدنيا تبحلق حدقتاه في هذا المدى الممتد من الدمار والخراب والدماء والأجساد المتصالبة والأطراف الملقاة في كل مكان. بكى الكثيرون صمتا وأخفوا دموعهم المتناثرة في كبرياء. ومنهم من ارتفع صوته بالشهيق. ومنهم من تقيّأ بمرارة. العيون مبحلقة في هذا الفراغ الرهيب الجارح. وجوه أخرى ظلت جامدة كالصخر لم تكشف مشاعر أصحابها. وجوه أخرى جاهد أصحاب ليحافظوا على حيادهم كأن الأمر لم يكن يهمهم.

صوت ارتطام الباخرة بحافة المرسى على سواحل هافونغ، تلك المدينة الفيتنامية الساحلية القابعة في الشمال، هز الجميع. كان وصول الباخرة إيذانا بوصول دفعة جديدة من المجندين المجلوبين من دول شمال إفريقيا لخوض غمار حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
صراخ وعويل ونداءات بلغات متداخلة وأصوات تأتي من كل ناحية. لم أع ما أفعل. سرت مع السائرين أرتطم بهذا ويدفعني ذلك. ها نحن أخيرا في رصيف ميناء هافونغ، مدينة كُتب لأقدامنا أن تصافح ترابها، وقُدّر لها أن تشهد وصول وجوه غريبة لتصفعها رياح جنوب شرق آسيا القاسية. الملابس الجديدة الفضفاضة وحلاقة الشعر والحذاء ذو الساق حولتني فجأة إلى كائن غريب لا أعرفه، هل أنا الطاهر أم خياله؟ ودون وعي مني صرت أهذي بأسماء من عرفتهم في القرية أو بين الحقول. أسمع هتافات عالية ووقع أحذية موقعة تتحرك بسرعة في اتجاهات متعاكسة. الوجوه أقنعة والعيون مبحلقة في الفراغ، تيه وامتداد رهيب للزمن والمكان، وحشة وخوف وأوامر بلغات غريبة يبرطم بها جنرالات توشح أكتافهم نجوم تتلألأ فتعشي الأبصار.

ما تصوّرتُ لحظة أنّ تلك الليلة ستكون طويلة إلى ذلك الحدّ...! و ما كنتُ لأتخيّل قطّ أنّ تلك الليلة ستنهش حياتي فتكون أطول من عمري كلّه ..!
حين عدتُ إلى قريتي في ذلك الصّيف الثقيل بعد عام طويل من العمل في بلاد الغربة ، وجدتُ أمي قد نحَفَتْ بشكل لافت و أصبحتْ غير قادرة على تناول طعامها فقد تآكلتْ أسنانها ولم يبق منها سوى جذور سوداء ، انقبض قلبي حين فتحتْ فمها أمامي كطفلة صغيرة ،وأخذت تشير بسبّابتها إلى ما بقي من أضراسها ، لقد شاخت كثيرا ولم يبق من روحها إلا رائحتها الشامخة ، وسط وشاحها الأخضر الذي تربطه بإحكام تحت ذقنها ، يُشرق وجهُها النديّ زهرةً باسمة كصباحات الصّيف أو كأمواج البحر ، أو كطلْعٍ ثَلْجيّ لنخلة شامخة ...لطالما جابهتْ الألم و الرّياح بصمت الآلهة !!
لكن هذا اليوم ذُهلتُ عندما رأيتُ أسنانها ، فبدون تردّد وبسرعة اتصلتُ بطبيبها في مدينة صفاقس الدّكتور " وديع المسدي" الذي طلب مني بصوته البهيج كعادته ألاّ أعرضها على طبيب أسنان إلا بعد أن أراجعه هو في مصحة ابن النفيس بمدينة صفاقس خاصة وأنها قد تعرّضت إلى علاج إشعاعي منذ بضعة سنوات للقضاء على ورم خبيث خلف أنفها .
كانت علاقتي بالدكتور متينة جدّا لقد كنّا نتناقش في كل شيء ، كان دائما يطالع كتبا طبيّة باللغة الانجليزية و يعدّ نفسه للهجرة إلى أمريكا بعد أن هرب من عنصرية الفرنسيين القذرة التي تنخر قاع أعرق مستشفياتهم ، كان يقول لي دائما إنه لا يمتلك دهاء اجتماعيا رغم كفاءته و خبرته العالمية لأنه لا يعرف كيف يكذب ، هو طبيب يقول الحقيقة كما هي و تلك أكبر مشكلة يعاني منها ، كانت نقاشاتنا عادة تستغرق الوقت الذي تتلقّى فيه أمي العلاج الإشعاعي ، و لكن الرائع في كل ذلك هو علاقته بوالدتي والتي ما إن رآها في المصحة في ذلك اليوم حتى قام من مكتبه وعانقها ثم قال لها بكل حبّ ، والفرح يشعّ من عينيه بصوته البهيج الضاحك :

عندما أفقت من قيلولتي، لم أشعر برغبة في النهوض من سريري. لم أكن أشعر أبدًا بالاسترخاء ولا بالسعادة. كان جسدي كله متعرقا، فالحرارة كانت في ذلك اليوم من شهر يوليوز كأنه لفحة من جهنم. تنهيدة تسللت من بين ضلوعي دون إذن مني. الهواء الساخن المتسرب من شباك غرفتي أثار شهيتي للماء، مددت يدي إلى طاولة صغيرة جانب السرير وتناولت قنينة زجاجية وارتشفت رشفة ما زدت عليها لكون الماء قد صار دافئا لا يروي ظمأ. بعدما كنت متكورا على نفسي، طرفاي العلويان يشدان على طرفي السفليين من ركبتي اللتين قربتهما من بطني، تماما في وضعية جنين، غيرت وضعي فبقيت مستلقيا على ظهري، لأني شعرت بضيق حيث لم تكن نفسيتي مرتاحة بما يكفي، ربما كنت مهموما من شيء مجهول، أو ربما كان ينبغي علي اتخاذ قرار في مسألة ما ولم أدر كيف. في لحظة وأنا مغمض العينين شعرت وكأني جسد بلا روح، قد فقد مخي بوصلة تفكيره، وضاعت من ذاكرتي قنوات الذكريات. أي حيلة كانت ستنقذني للوصول إلى ماهية اللحظة وتحديد تواجدي طبقا للظروف الزمنية والمكانية. بقيت مغمض العينين، كجثة هامدة والعرق يتصبب مني، بلا مبادرة، أية مبادرة. لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا على هذه الحالة التي توقف فيها كل شيء، حالة شبيهة بعدم الوجود.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة