خارج الوقت..
"الوقت كالسيف، كالسهم، إن لم تنتبه قطعك"، بمعنى آخر، الوقت سيف مسلّطٌ على أعناقنا، إن لم نستغلّ دقائقه وساعاته، سيُجهز علينا ويجتزُّ رقابنا دون رحمة، فهل نحن، العرب، من قال هذه القولة ومقصودها؟ وهل قلناها في زمن كان للوقت ثمنه، أم قلناها لأُناسٍ غيرنا؟ هل نسينا أن التّاريخ يُسجّل، فأخلفنا وعدنا وموعدنا؟
فاض الوقت بنا، وعنّا، وأصبحنا خلف الرّكْب نتفرّج وقد تاهت بنا السُّبُل والدّروب والمسافات والطُّرق، وأصبحنا فائض الإنسانية، وانتهت صلاحيتنا حين انتهى وقتنا وانقضى، واصح الوقت عندنا فراغا وثالثا ودون قيمة.
قَطَعَنا السّيف أشلاء، وأصابنا السهم في مقتل، حين صنعنا لأنفسنا، نحن الّذين نُحسن الفُرجة والتّصفيق والضّحك لأتفه السباب، وقتاً للفراغ ووقتا ثالثا، كأنّنا أنهينا الوقت الأول بما يفيد الإنسانية ويُطوّرها، ولم يتبقّ لنا منه إلاّ ثالثا نستريح فيه من تعب ما لم نفْعلْ، ووقتاً للفراغ أفرغنا فيه كل ذرة كبرياء إنساني زَرَعَها فينا الأولون الذين كان وقتهم من ذهب، فأقاموا له محاريب للاعتكاف لتُزهر الإنسانية وتسير واقفة شامخة في شتّى المعارف والعلوم.
لنا من الوقت الفائض وما يفيض عن حاجتنا، لدرجة أننا لم نعد نعرف ماذا نفعل فيه أو به، أوقفنا حركته، ووقفنا حيث نحن، لا نزيد خطوة، بل نتقهقر خطوات، حين سار الآخرون مسرعين إلى الأمام، لا وقت لهم للوقوف والنّظر إلى الوراء ولا إلى من تخلّف عن الرّكب، ونحن في وقتنا نغوص حد النُّخاع في مستنقع الانتظار والتواكل والضحك البليد، والتّمايل المجنون مع الأرداف حين تتمايل، ومع البطون حين تهتزُّ، نجمع ما لا يُجمع، ونكتنز ما عافته الإنسانية ومجّتْه، لا نتذكّر أمسنا، ولا نتأمل يومنا وحاضرنا، ولا نتوقّع مستقبلنا، بل ننتظر دائما، نعيد اجترار أيامنا كذلك العُجل المقزّز الذي يمضي يومه كاملا يدفع كرة الرّوث، ولا يُحسن صنعَ شيء غير ذلك، إلى أن "ينتهي بنا الأمر إلى أن نُصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "الإنسان"، أو كان يطمح إلى أن يكون إنسانا، ومن دون أن يعي هذا، بالضّرورة، تغيَّر في شكله. إن التّغيّر الأكثر خطورة هو الذي جرى(ويجري) في بنيته الداخلية العقلية والنفسية"[1]
من الوقت ما قتل، وهذا ينطبق علينا، نحن العرب، حين اعتقدنا، بل آمنّا، أن الوقت ليس لنا، بل للآخر يكتشف لنا ويخترع، ونحن في زمننا العربي البئيس، نعيش على هامش الوقت، وهامش الإنسانية نضحك للقمر، ونردّد قولا فهمناه بطريقتنا، "ما فاز إلاّ النّوَّمُ"، فزنا انحطاطا وتخلُّفاً حين انْفَلَتَ من بين أيدينا الوقت الثّمين، وتركناه يسيح غير مأسوف عليه، لأنّ لنا من الوقت ما يسع النّائمين منّا، ويزيد عن حاجتنا، لنفعل كل شيء، إلا التّأثير في العالم، والمساهمة في بناء معارفه، وتغيير ما نحن فيه من ذل وتراجع وعبودية.