بلغت المأساة، بلغ الحزن والأسى المبلغ الذي تسقط معه كل الشعرية. هذه اللية الأولى بعد الفاجعة، استلقي في الفراغ، السماء بعيدة جدا، كم هي بعيدة سماء الجنوب، كم هي مليئة بالنجوم، لكن ما أبعدها. استلقي تحت شجرة زيتون، لا حرية في الأمر أبدا، على مبعدة من منزل لم يعد قابلا لأن يسكن، المسكن الذي كان يوما، قبل اليوم، الحضن والوطن، أصبح بعد الليلة المشؤومة مصدر الخوف واللاطمأنينة. الصغار يغطون في نوم عميق، ليس لهم بعدُ من علم الحياة ما يفسد عليهم نومتهم، لم يربوا بداخلهم بعد فكرة المنزل بالقدر الكافي، صغار يغطون في حضن الأمهات، وصغار يغطون في نومتهم الأخيرة، وقد حضنتهم الأم الرؤوم الأرض، واطفال يغطون في النوم لكن دون أم ما، وأم تنام بغير اطفالها.

في مجرد ليلة واحدة تغير كل شيء، تغير التاريخ، توقفت الحياة هناك وانتهت. الناس، من تمكن من عبور هذه الليلة، عبروها وهم فارغين، فارغين من كل شيء، وانكسرت الذاكرة، واختلطت على الناس كل الاتجاهات.

كان منظر الندى على الأشجار مليئا بالشاعرية، قبل اليوم كنت أخرج من البيت إلى البَحيرة، املأ نفسي ببعض جمالها، واليوم استيقظ وأنا الندي، قد سقتني الطبيعة نداها بنفسها، وقد سقاني غمام الصباح برده، أقسم أن لا شاعرية في المسألة أبدا.

أما مشهد الهروب من السكن الوطن لم يغادرني أبدا، صراخ الأمهات، والاباء، صياحهم في الأبناء، رعب اللاقدرة على رد الهول، معزوفة لا تغادر الأذن. لكن كل شيء بخير، وإن لم يعد أي شيء يشبه أي شيء.

انقسم الفؤاد بين قريتي المنسية في الزمن، وبين البلدة هناك، النائمة عند قدم الأطلس، حيث قضيت أيام فتوتي، ذاكرة مكان آخر خالط وجداني، وهو يكبر معي، المدرسة الإعدادية، المدرسة الثانوية، دار الطالب، وأزقة البلدة المنسية أبدا، البلدة التي لا يعرفها إلا ابناؤها، والأصدقاء.

البلدة التي فيها صَدَرَ لأول مرة الغطاء عن بئر لغتي، البلدة التي ما أكتب نصا إلا محاكاة لنص ما ولدته فيّ، في وجداني، هناك حيث حكاياتي مع أشجار التوت، وأشجار اللوز، حكاياتي مع ليالي نوفمبر الباردة، وربات شعري، وحبيباتي السبع، أقلامي، خطواتي ولعابي على أرصفة هذه البلدة النائمة عند قدم الأطلس.

"ارتَدّ إلي طرفي وهو حسير، وقد صدمه قبح ما رأى، واقع أليم، وزمن ساخر يتسلى بأوجاع من طالهم جُورَه وَجُورَ بني جلدَتهم من علية القوم
ونخبة النخبة، ممن يستنكفون إلقاء نظرة على من هم دونهم في الوضع والحال، ويسرفون في ذمهم و تحقيرهم دون أن يرِف لهم جفن، أو تتحرك في قلوبهم رجفة رحمة"
دَاهمهُ هذا الشعور الغريب وهو يلج مقهى " برغواطة" كما كان يحلو له أن يسميه هو لاعتبارات يراها موضوعية وتاريخية، أو "تامسنا" كما سَمّاهُ مالكوه وهم جاهلون –حسب منطقه- أنّ برغواطة وتامسنا صنوان لا يجوز ذكر أحدهما دون الأخر.
جلس في ركن قصي بمواجهة فسيقة المياه المزدانة بفسيفساء من زليج فاس، وضع رجلا على أخرى، وطلب كأس شاي كبيرٍ على الطريقة الشمالية، تلذذ برشف جرعاته، وهو يتنقل عبر الصفحات الفاسبوكية ،
مُستجليا أخبار فيضانات شرق البلاد، وأنباء الهروب الكبير لأهل شمال إفريقيا وجنوبها نحو الثغور المغربية المحتلة من طرف الإسبان، بحثا عن الفردوس المنشود، و الحياة الكريمة.
اقترب منه النادل فجأة ووضع أمامه كوبا من عصير الفواكه المشكلة،
نظر إليه مستغربا وقال : " أنا لم أطلب شيئا يا بُنيّ" ابتسم النادل ورفع يده مشيرا إلى شاب تجاوز الأربعين بشارب أسود وملامح مستبشرة، يرتدي بذلة رسمية لرجال الأمن وقال: " الطلب مُوجّه من الضابط "

خارج الوقت..
"الوقت كالسيف، كالسهم، إن لم تنتبه قطعك"، بمعنى آخر، الوقت سيف مسلّطٌ على أعناقنا، إن لم نستغلّ دقائقه وساعاته، سيُجهز علينا ويجتزُّ رقابنا دون رحمة، فهل نحن، العرب، من قال هذه القولة ومقصودها؟ وهل قلناها في زمن كان للوقت ثمنه، أم قلناها لأُناسٍ غيرنا؟ هل نسينا أن التّاريخ يُسجّل، فأخلفنا وعدنا وموعدنا؟

فاض الوقت بنا، وعنّا، وأصبحنا خلف الرّكْب نتفرّج وقد تاهت بنا السُّبُل والدّروب والمسافات والطُّرق، وأصبحنا فائض الإنسانية، وانتهت صلاحيتنا حين انتهى وقتنا وانقضى، واصح الوقت عندنا فراغا وثالثا ودون قيمة.

قَطَعَنا السّيف أشلاء، وأصابنا السهم في مقتل، حين صنعنا لأنفسنا، نحن الّذين نُحسن الفُرجة والتّصفيق والضّحك لأتفه السباب، وقتاً للفراغ ووقتا ثالثا، كأنّنا أنهينا الوقت الأول بما يفيد الإنسانية ويُطوّرها، ولم يتبقّ لنا منه إلاّ ثالثا نستريح فيه من تعب ما لم نفْعلْ، ووقتاً للفراغ أفرغنا فيه كل ذرة كبرياء إنساني زَرَعَها فينا الأولون الذين كان وقتهم من ذهب، فأقاموا له محاريب للاعتكاف لتُزهر الإنسانية وتسير واقفة شامخة في شتّى المعارف والعلوم.

لنا من الوقت الفائض وما يفيض عن حاجتنا، لدرجة أننا لم نعد نعرف ماذا نفعل فيه أو به، أوقفنا حركته، ووقفنا حيث نحن، لا نزيد خطوة، بل نتقهقر خطوات، حين سار الآخرون مسرعين إلى الأمام، لا وقت لهم للوقوف والنّظر إلى الوراء ولا إلى من تخلّف عن الرّكب، ونحن في وقتنا نغوص حد النُّخاع في مستنقع الانتظار والتواكل والضحك البليد، والتّمايل المجنون مع الأرداف حين تتمايل، ومع البطون حين تهتزُّ، نجمع ما لا يُجمع، ونكتنز ما عافته الإنسانية ومجّتْه، لا نتذكّر أمسنا، ولا نتأمل يومنا وحاضرنا، ولا نتوقّع مستقبلنا، بل ننتظر دائما، نعيد اجترار أيامنا كذلك العُجل المقزّز الذي يمضي يومه كاملا يدفع كرة الرّوث، ولا يُحسن صنعَ شيء غير ذلك، إلى أن "ينتهي بنا الأمر إلى أن نُصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "الإنسان"، أو كان يطمح إلى أن يكون إنسانا، ومن دون أن يعي هذا، بالضّرورة، تغيَّر في شكله. إن التّغيّر الأكثر خطورة هو الذي جرى(ويجري) في بنيته الداخلية العقلية والنفسية"[1]

من الوقت ما قتل، وهذا ينطبق علينا، نحن العرب، حين اعتقدنا، بل آمنّا، أن الوقت ليس لنا، بل للآخر يكتشف لنا ويخترع، ونحن في زمننا العربي البئيس، نعيش على هامش الوقت، وهامش الإنسانية نضحك للقمر، ونردّد قولا فهمناه بطريقتنا، "ما فاز إلاّ النّوَّمُ"، فزنا انحطاطا وتخلُّفاً حين انْفَلَتَ من بين أيدينا الوقت الثّمين، وتركناه يسيح غير مأسوف عليه، لأنّ لنا من الوقت ما يسع النّائمين منّا، ويزيد عن حاجتنا، لنفعل كل شيء، إلا التّأثير في العالم، والمساهمة في بناء معارفه، وتغيير ما نحن فيه من ذل وتراجع وعبودية.

الآن بعد أن مضى بي العمر بعيدا عن مواطن الفرح والمرح وسار بي سيرا وئيدا نحو النهايات ليرميني في فيافي قاحلة موحشة، تأتين أنتِ من بين ركام السنين لتقولي لي بأنك اشتقت إليّ وأنني الحلم الوحيد لديك؟ الآن فقط تجرئين على فتح أبواب موصدة منذ دهور وتنبشين أرضا يبابا متكلسة تيبست تربتها ونضبت عيون مائها؟ الآن عنّ لك أن ترمينني في هذا الأتون المتأجج بيديك القويتين وتتركيني أتلظى بين صهد وصهد دون أن ترحمي شيبتي وضعفي؟ الآن تأتين من خلف الضباب الذي يحجب رؤيتي وأنت تباهين بحقولك الريانة المورقة أمام حقولي الجرداء التي صارت هشيما تذروه الرياح؟ الآن تجرئين على البروز علانية من بين فجاج العمر الزاحف نحو النهايات قد تساقطت أوراقه الواحدة تلو الأخرى دون قدرة للأغصان على الإيراق مجددا، لتعلنيها دون خوف أو تردد. ولم تفكري في ما سيخلفه كشط أظافرك لبقايا جلدتي الرقيقة؟

 الآن حططْتِ ركائبكِ في أرضي الموحشة وتأتين ناثرة أنوثتك في مهرجان طفولي عابث، وتمرقين من بين جذوع الأشجار ضاجة بشبابك غير عابئة بأسراب الشيب التي وخطت فوديَّ وغزت ما بقي من سوادٍ في ذؤاباتي. وتقبلين نحوي عاصفة هوجاء تبعثرين ما أفنيت عمرا في لملمته؟ الآن بعد أن تساقطت القواطع والنواجذ والأضراس الواحدة تلو الأخرى في سباق محموم للتخلص من لثة أرهقها القضم والمضغ واللوْك، ولم يبق سوى فم أدرد لم يعد يجيد السيطرة على الحروف ولا القدرة على نطقها فتماثلت عنده السين والشين والثاء؟ الآن بعد أن عشي البصر وارتعشت الأصابع تخرجين مكللة بتيجان الشهوة ضاجة بأنوثتك وتقفين على حافات الرجاء والخوف والتردد تلوّحين إلي بيديك وأنت تنطين من ضفة إلى أخرى محمولة على أكف السعادة والمرح غير عابئة بتعثر خطواتي وقِصَر المسافة بين قدميّ ولهاثي وأنا أحاول جاهدا اللحاق بك؟

أراك تسبقينني وتصعدين إلى القمة وتتركينني عاجزا متسمرا في مكاني على السفح واضعا يدي فوق جبيني متقيا انعكاس أشعة وجهك على الأرض أمامي فتكاد تخطف بصري كبرق لاح في ليلة حالكة. هاأنت الآن تتبخترين رافلة في أردية الأميرات متوهجة بألق أنوثتك متألقة هازئة بعدد السنون التي عبرتُها، وغير عابئة بحجم أوجاع الدنو من النهايات والتحديق في هذه الهوة السحيقة التي صرت أدنو منها يوما بعد يوم.

. . مررت كعادتي من الشارع الكبير والرئيسي بالمدينة، مملوء كعادته بالمارة كل يسحب خطواته السريعة والبطيئة إلى حيث يرغب. فلا يوجد شارع آخر في أناقته سواه.  مزين بالمصابيح والأشجار ويريح كل نفس حزينة ومهمومة. على جنبيه أحدثت بنايات عالية تليق بضخامته وأبهته.  وعنه تفرعت أزقة وأحياء متعددة، صغيرة وفقيرة ومهمشة لا تراها العين إلا إذا كنت من المقيمين فيها. شارع يحمل تناقضا مروعا لكنه تحول الى واقع عادي يعيش بيننا. فصار يستهويني كثيرا ويجعلني أتيه بين ضجيجه، وأنسى متاعبي اليومية ودموعي الحارة. أحيانا أمشي بخطوات متثاقلة وأشعر بأن الشارع طويل أسكنه لوحدي. فقذفتني في يوم من الأيام التائهة، موجة حرارة غير عادية إلى ساحة غريبة عن نفسي، ليستريح جسدي على إحدى كراسيها الإسمنتية. وجدتها مكتظة بنساء يحملن آثار الوشم البعيد على أجسادهن. لم أكن أعلم بوجود هذا الكم الهائل من النساء. يأتين كل مساء، مع أطفالهن ويتركن أجسادهن تسترخي على أي شيء ويبقين حتى تودعهن الشمس بخجل ويشاهدن استيطان الليل لتلك البقاع الخاصة بهن. استحالت تلك البقعة الصغيرة إلى مجمع نسائي لا ترتاده سوى النساء المحملات والمثقلات بسلاسل المنع الطبيعية وغير الطبيعية. فخلقن مقهى بدون رخصة رسمية. أعجبني هذا التحدي اللاإرادي لكل امرأة الذي ينم عن ثورة نفسية وفكرية. أو هو نتيجة طبيعية لصمت دام زمنا طويلا. امتلأ المقهى النسائي عن آخره حتى اختلطت الأصوات ولست أدري كيف تنصت الواحدة الى الأخرى. صار لهذه المقهى مواعيد محددة، تفتح الأبواب بعد الظهر، عدد كبير منهن يلجن المكان أفواجا. نساء خارج الزمن، ملحفات بغطاء الجدات. حضورهن يكون متقطعا وعلى فترات، يتكلمن كثيرا. كلام صغير وكبير، محزن ومفرح. وعندما ينشر الليل عباءته السوداء ويعلن عن حضر تجول النساء، وكأن بالليل هو أيضا يحمل عصاه الغليظة على رؤوسهن. فيقمن صفوفا كل واحدة تتلمس طريقها بين دروب الليل. من ليست له دراية بهذا المقهى، يعتقد عندما يراهن، بأنها مظاهرة نسائية جريئة تطالب باسترجاع الحقوق المنتزعة.

اعتادت قدماي على المرور بجانب هذا المقهى. أحيانا يكون فضولا لا أفهم سببه ولا أستطيع تبريره. وهذا ما حصل لي في يوم، كنت سائرة بين صفوف النساء الجالسات فكانت المفاجأة عندما رمقت وجها أعرفه، جالسا بين الوجوه النسائية الأخرى. كأنه استنساخ متعمد من طرف الطبيعة والمجتمع. بدا لي حزينا وبئيسا ومنعزلا كأنه يحمل مآسي الدنيا كلها.

     بعد غفوة خاطفة قدر أنها لم تتجاوز بضع ثوان، صحا مذعورا. الساعة الثالثة بعد منتصف الليل. أمضى لحظة يحملق في الظلام بعينين مهزومتين كعيني قرد جريح. تحسس هاتفه الذي كان قد سقط منه عند غفوته. أنار مصباحا صغيرا على المنضدة بجوار سرير نومه.  انتشرت مويجات صفراء شاحبة في الغرفة أضاءت بعض أوراقه و ثيابه المبعثرة هنا و هناك. عقربا الساعة المستديرة على الحائط قبالته يشيران إلى الثالثة و الربع بعد منتصف الليل. التفاوت في الوقت بين ساعة هاتفه و الساعة على الجدار بات مألوفا لديه. لا يعرف بالضبط أيهما الأدق. من خلف ساعة الحائط طفرت حشرة ذميمة تقدمت قليلا على الجدار و وقفت في منتصف الطريق بكبرياء. ألقى عليها نظرة و خمن أنها قد تكون بدورها تعاني مثله من الأرق. و فكر أن الحشرات تقف أيضا أحيانا في منتصف الطريق لتتأمل العالم. و انتبه إلى أن المرمدة الخزفية المقعرة التي كانت قد اقتنتها له زوجته من أسفي، ما تزال ملأى بأعقاب السجائر، تحتل مكانها السابق على المنضدة الصغيرة بجوار صينية الشاي. حشر جسده في الفراش لحظة متلمسا مزيدا من الدفء، كسلحفاة مهيضة الجناح. و مكث برهة يتفحص صورة لنيتشه على غلاف كتابه الشهير " هكذا تكلم زرادشت".. و عاد فأطفأ النور محاولا أن يعود للنوم، لكنه لبث يتقلب في الفراش. تلا آيات من القرآن في محاولة منه لينعم بقسط من النوم لكن بلا جدوى. لذلك فكر أن ينهض.. و فكر أن يفتح الشباك ليستنشق شيئا من هواء نقي يعيد إليه قسطا من حيويته. ثم عدل عن ذلك بعدما أحس أنه مرهق جدا و أن عليه أن ينام. كانت علبة العقاقير المنومة قد نفذ محتواها قبل يومين.. و كان عليه أن يزور طبيبه النفسي من جديد لكنه لم يفعل..  راح عند الصيدلي المجاور لمقر الجماعة الحضرية التي يعمل بها عله يظفر منه بالدواء بلا وصفة، لكن الصيدلي نصحه بالعودة إلى الطبيب.. " هذا شيء غير قانوني" سمعه يردد. انسحب جواد من الصيدلية و ظلت عبارة " غير قانوني" تتكرر داخل رأسه مثل دقات حادة لعكاز امرأة عجوز على الأرض.  ندت عنه بسمة ساخرة سرعان ما قمعها بداخله و هو يحملق في الزبائن المتسارعين نحو الصيدلية باحثين مثله عن دواء. في الشارع انتبه إلى حشد من الكلاب الضالة تعبر الطريق بكبرياء. استعاد نصيحة الصيدلي، لكنه فكر أن زيارة الطبيب تتطلب وقتا.. موعد و انتظار.. و هو يمقت الانتظار..  في العيادة عادة ما يصادف وجوها مخيفة تزيد من حدة اكتئابه.. وجوه مسودة كاظمة لأشخاص لا يلوون على شيء.. معظمهم مرفوق بأقارب بدورهم في حيرة من أمرهم.. و في معظم الأحيان لا يكلمون بعضهم البعض. فقط ينتظرون!!

لماذا يحوز الإنسان القدرة على الكتابة، والقدرة نوع من الحق، إنه سؤال صعب، تُستنبط معالمه أكثر لو صغناه على شاكلة؛ لماذا يحوز أشخاص القدرة على الكتابة دون آخرين، بيد أنه لن يكون بمقدورنا الحكم بأي الصنفين من الناس تعرض لشر أعظم، أولئك الذين يكتبون أم أولئك الذين لا يفعلون.
يصدر عن الأمر أن الذين يكتبون، يحوزون القدرة على الكتابة، يحملون وزر الذين تعوزهم القدرة، أخلاقيا، ثمة عاقبة أخلاقية واقعة لا محالة بالذين يكتبون، لهذا فالكاتب يكتب بدلا عن ويكتب في دورٍ ما، يكتب بدلاً وليس نيابة عن، إنه لا يكتب بدل بني جنسه فحسب، إنه يكتب بدل كل ما لا يحوز القدرة على الكتابة من الكائنات، بدل القطط والكلاب والأشجار والأحجار والأهم من ذلك عليه أن يكتب بدل الجرذان.
مَن، إذن، سيكتب تأبينا في جرذ ميت على الرصيف؟
إن المريض فقط ببؤس أفضلية الكائن البشري وشرفه سيقول إنه جرذ نافق، ويسرق منه كما يفعل دائما مع باقي الحيوانات حقه ـ حقهم ـ في الموت، ويُعلن أن الإنسان وحده يستطيع أن يموت، أو وحده يموت، أما باقي الحيوانات فهي تنفق.
أي بؤس ومأساة يُظهر هذا المبلغ من الفكر، أن تسرق حق فأر أو قط أو صرصور في الموت.

طنجة أيتها المدينة المَهْر[1]. ها أنا أحلق فوق سمائك وأشاهد مبانيك وأزقتك وأتطلع إلى أسرارك من علٍ، وأنت كما أنت فاتحة ذراعيك تستقبلين الوافدين بفرح وتودعين المغادرين بدموع، وبين الضحكة والدمعة تاهت مشاعرك واضطربت فظللتِ محافظة على ابتسامتك مثل أم حنون لا تريد تشييع أبنائها بالبكاء ولا استقبالهم بالبكاء.

أزت عجلات الطائرة على إسفلت المطار بعد رحلة دامت ما يناهز الساعتين، دنونا خلالهما أكثر من النجوم والسماء. شعرنا براحة نفسية عميقة ونحن ندنو من الأرض، أمّنا الحبيبة. ما إن توقفت الطائرة واستكان جناحاها حتى ارتفعت موجة من التصفيق العارم اعترافا لقائد الرحلة ببراعته وتقديرا لخبرته وتهنئة له بنجاحه.

عندما لامست أرجلنا التراب انزاح ذلك الخوف الذي استبد بنا ونحن نجوس بين النجوم، هناك عاليا معلقين دون حبال داخل هذا الصندوق الحديدي العجيب. متجاورين فوق مقاعد مرقّمة بنظام ودقة. لم يكن بين الركاب تعارف سابق. هكذا وجدنا أنفسنا في الوقت ذاته وفي المكان ذاته نتجه نحو سلم الطائرة ونطير. أنسى انغماس البعض في تبادل الأحاديث الخوف والرهبة أثناء الإقلاع والهبوط. ونام البعض الآخر كي لا يعيش تلك اللحظات الرهيبة التي تشعر أثناءها أن قلبك يكاد ينفصل.

وأخيرا زال توترنا واضطرابنا ونحن نتحسس أصلنا الطيني بأقدامنا، فالإنسان يحنّ دوما للأصل. نزلنا تباعا عبر السلم الذي جيء به. ابتعدت قليلا والتفت خلفي لأنظر إلى هذا الهيكل الضخم الجاثم الذي كنا في جوفه. جناحاه ممتدان يمينا ويسارا مثل طائر يصل إلى الضفة الثانية بعد أن هدّه الترحال وهو يكابد ليعبر بحرا عظيما في رحلة هجرة موسمية شاقة.

كان المطار فسيحا، تناثرت في أرجائه الطائرات القادمة من كل بقاع الدنيا، وعلى جوانبها رُسِمت شعارات شركات الطيران التي تملكها وأسماؤها.