جلس رحيم على ضفاف المحيط، يراقب الأمواج المتلاطمة كأنها أحلام تتكسر على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في حركتها المتواصلة والمتغيرة، تشبه حياته الهاربة من وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى قفص حديدي، يلتهم كل روح تحلم بالحرية. هرب رحيم من ذلك القفص، باحثًا عن السلام في بلاد أخرى، لكنه لم يكن يعلم أن العالم كله قد بات قفصًا أكبر، تغمره الغربة ويطغى عليه الحنين. سافر إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، ظنًا منه أنه سيجد فيها نجمة الأمان تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، لكنه سرعان ما اكتشف أن الحلم لم يكن سوى سراب، وسوريا امتداد لصحراء حياته، حيث كان الكابوس يرافقه في كل خطوة. تركها وراءه واتجه إلى ليبيا، آملاً أن يجد استقرارًا يحذف من ذاكرته تمائم الخرافة. غير أنه وجد ليبيا معسكرًا ضخمًا محاطًا بالجدران والأسوار العالية، حيث الأوهام تحاصر كل زاوية والشواطئ بدت كالصحراء، صامتة، تجسد عزلته الداخلية. وفي المغرب، جلس رحيم على حافة المحيط، وسط تيه الأقاصي، محاطًا بعالم يتغير من حوله، لكنه يظل ثابتًا كشرارة في بلاد الحطب، تنطفئ لتشرق من جديد. كان الوطن قد خنق صوته منذ سنوات، لكن ذكراه لم تبرح قلبه، كدمعة الأرض التي كلما أمطرت نشرت الصحو في مدائن الغضب. والآن، وهو مثقل بذاكرته التي تضيء ثم تنطفئ في مدارات روحه، يراقب العالم يغرق في صمت مطبق، غريبًا في أرض لا تعرف سوى التيه.

جلس رحيم على ضفاف المحيط، متأملاً الأمواج المتلاطمة أمامه، كأنها قطع من أحلامه التي تحطمت على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في انكساراتها المتكررة، تُذكّره بحياته المتغيرة، التي قضى معظمها هاربًا من قفص كبير، وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى سجن من الحديد، يلتهم الأرواح الحالمة بالحرية. كأنه يترك وجهه المحترق تحت مداس الوقت، محاولاً الخروج من غمد اسمه المستعار، لعبور هذا الموت الرمزي الذي يطارد روحه. ترك العراق وراءه، بحثًا عن السلام في مكان آخر، لكن العالم بأسره كان قفصًا أكبر، تمتد قضبانه في كل اتجاه، يلفه الغربة ويغمره الحنين. سافر رحيم إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، باحثًا عن الأمان والحرية. كانت سوريا في مخيلته كنجمة بعيدة تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، حلم مضيء وسط ظلمة، لكنه سرعان ما اكتشف أن ذلك الحلم لم يكن سوى سراب. كأنه يراقص طرائد الوجع على إيقاع الكوابيس، كانت سوريا امتدادًا لصحراء حياته، حيث كانت كل خطوة فيها تحمل معها عبء الكوابيس الماضية. ثم انتقل بعدها إلى ليبيا، ظانًا أنها ستكون واحة هدوء في صحراء التيه، لكنها لم تكن سوى معسكر ضخم تحيطه الأسوار العالية، غارقة في عزلة موحشة. كانت الشواطئ هناك كالصحراء القاحلة، صامتة، تفتقد الحياة، كأنها لوحة فارغة تعكس الصمت والوحدة التي اجتاحت كل زاوية من روحه. وكأن العالم مجذوب بالهذيان، بينما رحيم يركض خلف خطاه المتعثرة، محاولًا أن يحلق في رؤى قلبه الممزق. كان هو الخيال الضاحك التعيس، والانتظار يلتهم أنفاسه بين أنيابه. في وسط هذه الرحلة، كان هو ضوء الخرافة، بينما قنديله المتمثل في تجاعيد الوداع لا يتخطى مداه، يظل عالقًا بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت، يغمره صمت الكون العميق.

وقف متشامخا يحدق من علٍ في هذه الوجوه الكالحة المنثورة أمامه على الرصيف. وجوه هدّها الإعياء والسهر وأحرقتها ملوحة مياه البحر بعد ليلة عاصفة ظلت الرياح خلالها تدمدم والموج يحمحم مثل فرس مهزوم في سباق. ليلة رهيبة ارتفعت فيها الأمواج عاليا في صخب وعنف كاشفة عن وجه قبيح للطبيعة الثائرة التي لا ترحم. كانت ليلة مخيفة مظلمة لم يضئها سوى وميض البرق بين الفينة والأخرى فتكاد الأبصار تعشى ثم سرعان ما تعقب ذلك الوميض زمجرة الرعود الحادة العنيفة. هو البحر في أشد حالات غضبه وعنفه، يثور بلا إنذار ويهدأ بلا إنذار، وبين ثورانه وهدوئه تحدث أشياء لا يعيشها سوى البحارة الذين نذروا حياتهم لواجهة صخبه وغضبه وجبروته. في تلك الليلة رأى البحارة الموج يتلاعب بالمواعين كما تتلاعب الرياح بأوراق الأشجار أثناء فصل الخريف. رأوا المجاديف تتطاير والشباك تتناثر على الرصيف، شاهدوا المياه تصفع خدود المراكب فتبكيها.

عندما أزاحت أنوار الصباح غشاوة الظلام من أمام أعين البحارة أدركوا حجم خسارتهم، وأدركوا أنهم وحدهم سيعانون لأيام وربما لأسابيع محاولين رتق جراحاتهم. خرجوا من مآويهم وأوكارهم وأوجارهم وتوافدوا على الرصيف، جاؤوا فرادى، وظلوا يبحلقون في معداتهم المكسرة وشباكهم الممزقة ومراكبهم المحطمة. لم يستنجدوا بأحد بل رفعوا أعينهم إلى السماء يستغيثون. لا ملجأ للضعفاء سوى الله.

كان قدومه دراماتيكيا، وكان وصوله فانتاستيكيا، فُتِح له باب السيارة فنزل ومشى محاطا برجال أقوياء أشداء. كان يرتدي بذلة سوداء بخطوط بيضاء دقيقة. لمعت ساعة يده الذهبية فكاد لمعانها يخطف الأبصار. خاتمه الماسي بفصه الكبير يبهر الأنظار. تقدم ويده تحاول كل مرة إعادة ربطة عنقه التي تلاعبت بها الرياح إلى موضعها فوق بطنه المكور الكبير. لا أحد يعلم أجاء معزيا مواسيا أم شامتا هازئا.

سرت بين الواقفين همهمات سرعان ما تحولت إلى عبارات اشمئزاز وتقزز من هذا الزائر الغريب الذي حل بينهم في لحظةٍ مجنونة. كانت الكلمات في البداية مبهمة غامضة بأصوات خفيضة ثم انكشفت الحروف وعلت الحناجر بألفاظ السب والشتم. ارتفعت الأصوات وتداخلت فبدت لأول وهلة مثل نداءات الباعة في الأسواق الشعبية. لكن صوتا واحدا علا فوق كل الأصوات صارخا dégage. في تلك اللحظة توحدت كل الحناجر مرددة هذا العبارة التي أنجبتها التحركات الاجتماعية التي أدت إلى سقوط النظام السابق ورحيل رموزه. كانت تلك العبارة كلمة عبور من عهد إلى عهد جديد خطه جيل جديد بلغة جديدة فأحدث فوضى جديدة غير مألوفة عمّت الشوارع والأسواق والساحات والمقاهي والمواخير والحانات والمعاهد والمدارس ووسائل النقل والمحطات وأروقة المحاكم ومدارج الملاعب ومدرّجات الجامعات. وبلغت تلك الفوضى أشدها عندما تحولت إلى مواقع النفوذ وأروقة اتخاذ القرارات المصيرية. لحظات مجنونة، لم يدرك أحد ما حدث إلا عندما شقَّ صوتٌ الليلَ "افرحوا يا توانسة الدكتاتور هرب". لكن التوانسة لم يفرحوا منذ تلك اللحظة. ظلت وجوههم واجمة وعيونهم جاحظة تتطلع إلى هذا الفرح الذي كلما حاولوا الإمساك به تفلّت من بين أيديهم كالماء. ظلوا يخوضون في بحار ناضبة وهم يخالون أن أجسادهم محمولة فوق الماء متناسين أن أقدامهم مغروسة في الوحل لا يستطيعون منه فكاكا.

تجربة غريبة دفعني إليها صديقي الذي أوْقعَني أكثر من مرة في مَواقِفَ لم أكُنْ أُحسَد عليها، ولم أكُنْ أُجيدُ الخروجَ منها. هو زيرُ نساءٍ بامتياز، لذلك لا يُراعي أية حدود إذا تعلق الأمر بمغامرة ستُفضي به إلى ربط علاقات جديدة، أو حتى مجرد التملي بوجوه نسائية جميلة... يستطيع أن يبيع أي شيء، أن يبيع نفسه حتى، في سبيل الحصول على تلك اللحظة. من ذلك مثلا أنه كثيرا ما كان يتردد على الحي الذي أسكُنه، لأنه لمَح ذات مرة بعضَ جاراتي، فأُعجِب بهن، أو بإحداهن، خصوصا بعد أن فتح شَهِيتَهن للحديث معه، مُتذَرِّعًا بالسؤال عني. ضَبطتُه ذات صباح يحمل باقة كبيرة من الورود، ويقف على مقربة من الزقاق، يختلس النظر إلى الأبواب والنوافذ، في انتظار أن تفتح إحداهن الباب لِيُهديَها الباقة... ولما اسْتيْأَس من خروجهن تَقدَّمَ نحو أحد الأبواب ليَطرُقها، لولا أنني منعتُه، مخافة أن يَخرجَ الزوج فنصبحَ، جميعا، في مأزق... بصعوبة صرفتُه عن فكرته، فاكتفى بوضع الباقة على عتبةِ بابٍ من تلك الأبواب، ثم انصرفنا، وهو يُشيِّعها، آمِلا أن يَحظى، على الأقل، برؤية إحدى تلك الجارات، وهي تلتقط الورود، كي تَعلَمَ أنها هديةٌ منه هو بالذات...
أما في هذه المرة، فقد كنتُ على موعد معه، كي نجلس في أحد المقاهي الفاخرة بهذه المدينة الحديثة التي نزورها، بعيدا عن مدينتنا الصغيرة الهادئة، النائمة في أحضان مجدها العريق... تأخَّر بعضَ الوقت عن الموعد، وكان ذلك دَيْدَنَه في غالب الأحيان، إذْ لم يكن ذلك يَضيرُه في شيء، ولا يَجدُ فيه أدنى حرَج... فمَنْ يَعرفه جيدا يَعلَم أنّ مِن عاداته ألا يَحضُر في الوقت المضبوط، لأنه، وهو في الطريق إليه، قد تَلفِتُ انتباهَه فاتنةٌ فتُنسيه مواعيدَه، ويُلاحقها حتى تعودَ إلى بيتها، أو تضيعَ منه في الزحام، أو تُسْلِمَه لأخرى أشدَّ منها فتنةً... كثيرا ما دعوتُ له بالهداية، وبالشفاء من هذا الابتلاء الشديد، ولكن يبدو أن داءَه هذا توغّل في خلاياه، حتى بلغ مرحلة مَيْؤوسًا من شفائها... أخيرا حضر، وبرفقته صديق له... وسأعرف في ما بعد أن صديقه هذا هو الذي اقترح عليه المكانَ المفضّل لجلستنا هذا المساء. بدا، طول فترة الطريق، متحمِّسا لاكتشاف هذا المكان، بناءً على إغراءاتِ صديقه، الذي يعرف بالتأكيد نوع ابتلائه، فراهَن عليه، ليَضمَنَ موافقتَه بسهولة.

انتظر طويلا أن تبتسم له الحياة لكنها ظلت مُكشِّرة في وجهه بلا سبب وجيه كما تراءى له، كان يفرط في التساؤل عن سر هذا الجفاء وقلبِ ظهرٍ المِجن الذي يلقاه منها، دون أن يفلح في الوصول إلى جواب مقنع يشفي غليل حيرته.

في كل صباح يستيقظ على مناظر مقززة، سقف بتشققات مخيفة، نافذة بمزلاج مكسور ودهان شاحب، صورة كبيرة لشارلي شابلان على الجدار الوسخ، وبلاط بزليج ضارب في القدم.

يتجاوز كل هذا ويزيح الغطاء عن جسده المتعب ثم يقوم مهرولا نحو الحمام المتهالك، يقضي حاجته ثم يغتسل، ويرتدي بذلته الباهتة ويغادر الشقة الوضيعة التي عشش بها منذ عقدين ونصف، في كثير من الأحيان يقصد المقهى الشعبي لصاحبه المعلم عزوز، يتناول طعام الإفطار الذي يتكون غالبا من "السفنج" والشاي الساخن، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع بعض معارفه ممن يقصدون المقهى لتناول إفطارهم، يدور الحديث عادة عن غلاء المعيشة، وندرة الأمطار، وقد يَردُّ بعضهم ما يقع إلى شيوع الفاحشة وانحراف سلوك الناس، وابتعادهم عن نهج السلف الصالح، في حين يقول البعض الأخر أن سبب ندرة المطر سببه التلوث البيئي والصناعات الكيميائية والبتروكيماويات والتعدين. اعتاد هو أن يظل محايدا في تدخلاته متجنباً الجدل العقيم لأن له قناعة بأن الحجاج واللجاجة أشبه بصرخة في واد مادام الحل والعقد بيد فئة جُبلَت على صَمِّ الأذان وتجاهل الرأي العام للشعوب.

في المكتب يجلس كعادته صامتا غير مهتم بالحوار الذي يتبادله زملاؤه الثلاثة، وهم سيدة في منتصف العمر وكهلان يقاربانه في السن، كان حديثهم في مجمله يدور حول مشاكل الأبناء، وارتفاع أسعار المدارس الخصوصية ، وصعوبة الولوج إلى المستشفيات والمصحات بسبب غلاء تسعيراتها وهزالة التعويضات التي تقدمها التعاضديات وصناديق الاحتياط الاجتماعي، وقد ينزلق الحديث فينصب في اتجاه الفساد الذي أصبح مستشريا في الإدارة وسيادة المحسوبية في الترقيات، كان يكتفي بتحريك رأسه متظاهرا بالاهتمام تارة، أو ينشغل بإدخال بعض الملفات إلى الحاسوب والتحقق من صحة معطياتها ثم الموافقة عليها.

كانت رحلة العودة من الماضي القريب جد مؤلمة، لم تتخللها لحظة سكون أو راحة نفسية. تتهاطل عليها الذكريات بشكل مفزع وتؤذي راحتها النفسية. فكرت طويلا، توقف دماغها عند نقط الصفر. ولم تعد تستحمل. اما الجنون أو الموت. لم تكن تظن يوما أنها ستلج القضاء من أجل الحصول على حريتها من الرجل الذي اختارته من بين الآلاف. وبنت معه بيتا دافئا وجميلا. ولجت مكتب المحامية، وجلست بهدوء ينذر بعاصفة هوجاء. كانت جد متوترة. سألتها المحامية: "لماذا تطلبين الطلاق؟" نظرات مترددة لكنها ثائرة وراغبة في الخلاص. أجابتها بصوت خافت رغم قوته الداخلية:" لم أعد أستطيع التنفس في بيتي." وبدأت الحكاية:
يوم تخرجت صفاء وحصلت على دبلوم الهندسة، كان هناك مع أحد أصدقائه، يرمقها من بعيد ويرميها بنظرات اعجاب. اقترب منها وهنأها على كفاحها الدراسي وقال لها:" مبروك." وابتسم وتوارى للخلف تاركا صوته يدندن حولها. يراقبها ويبتسم. ارتبكت في البداية، وتطورت العلاقة الى لقاءات يومية. حتى إنه كان يكلمها يوميا ويسألها عن يومها وأين توجد ومن يوجد معها. كانت صفاء لا تبالي بهذا الاهتمام الزائد، بل اعتبرته حبا حقيقيا يملأ عليها عالمها. نبهتها احدى صديقاتها الى هذا الامتلاك المغلف بالحب وقالت لها: " ان ملاحقته لك بهذا الشكل، لا يبشر بخير. "
كانت صفاء تعيش في عالم آخر، مملوءا بالهمسات والقبلات والعشق. تركتهم يلاحظون ويحذرون ومشت أميالا معه ولم ترغب في الاستماع إليهم. اعتقدت أنهم فاقدو الإحساس الحقيقي بالحب.
طلبت منها المحامية أن تشرح لها بالتفصيل الممل عن احساسها في تلك اللحظات. كانت ملامح وجهها صامتة، فقدت لمعان بريق عينيها المعهود، تتأمل الفراغ الذي أمامها بدون حياة. قالت:" كنت سعيدة جدا، سعيدة وكأنني طفلة تراقص لعب العيد."
عاشت معه أياما كلها صفاء واهتمام مبالغ فيه لحد الشعور بالاختناق. هاتفها يوما وهي في مكتبها. تركت الهاتف يرن، فرمته داخل حقيبتها وأكملت عملها. هنا، امتلأت مآقيها بالدموع، وانزلقت دمعة مباغتة لم تكن تنتظرها، وتركتها تنام على خدها، سألتها المحامية:" ما بك؟ هل تذكرت شيئا مؤلما." ابتسمت صفاء ابتسامة استهزاء ومرارة وقالت لها: "من هنا بدأت محنتي التي كنت أرفض أن أراها أو أشعر بها." وتابعت بنفس المرارة:" عدت الى البيت وكلي فرح بلقائه. كان هناك، بعينين تحملان شرارة الموت، صرخ في وجهي وقال لي: "لقد اتصلت بك مرارا. مع من كنت؟ " وتحول الى وحش، لم أفهم ساعتها ما يحدث لي. اعتقدت أنني أعيش كابوسا وسأستيقظ منه. لم أتكلم. تسمرت في مكاني كطفلة خائفة من العقوبة. واستمرت الأسئلة تنهال علي كأنني في استنطاق. وما زلت أتذكر كلمته الأخيرة، التي غيرت حياتي وجعلتني أسيرته بإرادتي.

وضع إبهامه على الصفحة، حدق جيدا قبل أن يتنقل بالبصمة على المساحة البيضاء، تنمل الإبهام، بات شبه مخدر، استبدله بالسبابة، تنملت، جرب الأوسط فالخنصر فالبنصر، وقفت يده كلها فوق البياض الممتد كغيمة ملفوفة بسحب من عهن منفوش، امتصته السحب، فانزلق في كومات من ضباب رمادي يتجه نحو التعمق في سواد مكدس، مزدحم، غلفه المجهول بخيوط عنكبوت يفيض سما.

ما الفرق بين الحياة والموت؟ سألته نفس شاردة من غيبوبة مكتظة بالتناقض، ما الفرق بين الثقة المنزوعة من القلب المعذب بالحنين لتجربة الثقة الموطدة في القبور؟ سألت النفس الواهمة بشيء من اليقين المخلوع من نفس تتوق للشيء الخفي، ربما النقاء، وربما الصفاء.

قالت النفس المتوثبة: القبور لا تتحدث، لكن العظام المتحللة المتكلسة، يمكن أن تخبرك بالكثير عمن انسلخ عنها، عن عمره، طوله، جنسه، مرضه، حتى أنها تستطيع الاسترسال بالحديث كمذياع لا يتوقف. بمن أثق إذا؟ بالشمس التي تغيب؟ بالقمر الذي يأفل؟ بالجليد؟ بالصحراء؟ حتى هذه كغيرها، لا تكف عن الصفير والجواح والهسهسة والطقطقة.

هناك شيء فيَ ذاتي، تكويني، يرجني، يخضني، كما يرج الزلزال الأرض من أعماقها، وكما يخض الفيضان ما على سطحها، يحمله من مكان ليضعه في مكان لا يشبه ما كان يألف ويعهد ويعرف، في كائنات تتوغل، تتعمق، تتجذر، تمد جذوعها وسيقانها، فيغزوها فطر يكاد لا يرى، يفتتها، يحللها، وينثرها فوق مكان البصمة تماما، فيختفي النثار، وتتلاشى البصمة، يقتحم المجهول غامض من الغيب المخبأ في الإضمار القصي عن المحسوس، الملموس. تتقاطر العقارب من كل الجهات، لكنها رغم ما تملك من عيون تظل عمياء عن رؤية البؤرة التي تتضفر بأعماقي كضباع لا تكف عن سفك الروح أمام الحياة، فهي هكذا خلقت، كالكلاب التي تستمد حياتها، بقاءها، من الألم المعتصر من الضحية التي تنهش وهي تراقب بلوعة اختفاء روحها المطحونة بين الأنياب والأضراس.

عند منتصف الليل استيقظت، أيقظني حلم مزعج (كابوس)، يتكرر معي هذا الحلم كل يوم طيلة هذا الأسبوع، وكلما استيقظ أجد عيوني مملوءة بالدموع، حاولت العودة للنوم من جديد بعد عدة محاولات فاشلة، وفي الأخير استطعت النوم قليلا، وعندما حل الصباح اتصلت صديقتي؛ لتخبرني بأنها قد حددت لي موعدا – موعد مدبر- مع شخص يناسب شخصيتي (الخجولة والمتمردة)، شخص يساعدني – حسب قولها- على نسيان ألآلام الماضي وعيش المستقبل بعيون مملوءة بالأمل.
بدأت في محاورة الذات، وتساءلت هل أذهب إلى هذا الموعد أم لا؟ ليستقر تفكيري على الذهاب نزولا عند إلحاح صديقتي، جهزت نفسي للخروج في موعد غداء مع شخص مجهول؛ لا أعرف عنه إلا رقم هاتفه ، وقفت أمام المرآة لوضع بعض اللمسات حتى أخفي شحوب وجهي، وأرى إن كان مظهري مقبولا، تساءلت مع نفسي قليلا هل أترك شعري الخمري على شكل كعكة؛ أم على شكل ذيل حصان، فاخترت أن أتركه على شكل كعكة، ارتديت بنطالا أسود وسترة سوداء مزينة بورود صغيرة خضراء، لا تظهر إلا عند دنو الشخص منك لصغر حجمها، و حذاء عالي أسود، كأنني ذاهبة إلى موعد عمل وليس موعد تعارف، وتذكرت أنه في أحد الأيام، قال لي أحدهم أن اللون الأسود هو اللون المثالي لي؛ لكونه اللون الذي يناسب شخصيتي، فعملت بالنصيحة.
نزلت مسرعة عبر السلالم لتناول الفطور، فكدت أنزلق من عدم تركيزي، فما كان إلا أن لامست وجنتي الحائط، فأحسست بألم وتورم خفيف، لكنني لم أبالي للألم في تلك اللحظة، بقدر انشغالي بالوقت، وبعد أن عبرت السلالم بأقل الخسائر، دخلت المطبخ لتناول الفطور، لكن عندما نظرت إلى الساعة لم يسعفني الوقت إلا بشرب فنجان قهوة، خرجت من الباب مسرعة دون أخذ مظلتي الشمسية، فقد كانت السماء ملبدة بالغيوم وازدادت تلبدا مع تقدم صبيحة هذا اليوم.

ما إن انتهيت من توقيع الإضبارة التي قدّمها لي ضابط ثلاثيني، يجلس خلف مكتب عريض لم يُصْنَعْ لأجله دون أن يكلف نفسه عناء رفع رأسه للتحديق في عينيّ، حتى ضغط بيمناه على زر، فصلصل جرس في الخارج. بسرعة دخل شرطيان يتبع أحدهما الآخر. كان الأول مدوّر الوجه، حليق الشاربين، غليظ الحاجبين كثيف شعرهما، بدينا يكاد بطنه يفجر إبزيم زناره. وعلى خلافه كان الثاني نحيفا بشكل مفزع، بدا في ثيابه الفضفاضة كمهرج يرتدي ملابس مضحكة، في وجهه ذي الشوارب المعقوفة طول معيب. و فجأة استند الضابط بيديه على المكتب، واستوي واقفا: "خذا هذين الجرذين إلى الزنزانة حتى..." لم أتبين بقية الكلمات، إذ سرعان ما هجم عليّ الشرطيان وسحباني بعنف، ثم انصفق الباب خلفنا بعنف اهتز له الرواق الطويل الممتد. نظرت إلى صاحبي فتراءى لي ضئيلا بحجم الخوف الذي سكنه. وقلت في نفسي "آه لو تدري يا مفيد ما ينتظرنا".

احتوانا نفق طويل نصف مظلم، سرنا فيه، ثم انعطفنا يمينا فاشتد الظلام الذي لم تكن تزيحه إلا الفتحات المعِدَّة للتهوئة. وكنت على ذلك الضوء الخافت المنبعث أتطلع إلى الخطط الوظيفية المكتوبة على اللافتات المعلقة فوق الأبواب. بدت لي المكاتب على الجانبين ساكنة لا حياة فيها سوى بعض النور المتسرب من أسفل الأبواب، ولم يكن يخطر على بال أحد ما كان يدور داخلها، فللغرف المعتمة دوما أسرارها. لم أقرأ أسماء، لكني قرأت ما يحيل على خطط ووظائف، فالأسماء في هذا المكان الموحش الموحل سريعة التبدل والتغير، والكراسي في هذه المكاتب سرعان ما تضج بالجالسين فوقها، فتطردهم ويتركوها منقادين لأوامر الأقوياء، أو قد يُدْعوْن إلى مهمات أخطر أو أشد سرية، أو قد يحالون على شرف المهنة بصفة مبكرة، أو قد يُنهي الواحد منهم حياته برصاصة دون أن يترك وصية، فيظل موته لغزا مثلما كانت حياته في هذا القبو لغزا.

كنت أسير ومفيدا جنبا إلى جنب دون أن يكلم أحدنا الآخر ودون أن يلتفت أحدنا للآخر. وكان الشرطي البدين يمشي أمامنا بخطاه الموقّعة وجسمه المترهل المتمايل يمنة ويسرة، محافظا على اتساع خطواته دون أن يكسر التناغم بين حركات يديه وقدميه. تساءلت "ترى كم مرة قطع هذا الشرطي هذا الممر جيئة وذهابا؟ وكم قد تلفظ فمه بألفاظ السب والشتم كالتي لم يتوقف عن قولها لنا منذ غادرنا المكتب...؟" أيقظني الشرطي النحيف الذي كان يمشي خلفنا دون أن نحس بوقع قدميه على البلاط، من شرودي بنحنحته الرقيقة التي تكررت أكثر من مرة. كان يُصدر تلك النحنحات لا لشيء إلا ليذكّر صاحبه أنه يمشي خلفه بلا توقف.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة