في محطة القطار حركة دائمة لا تنتهي..أصوات القطارات ، وصخب المسافرين يحيل المحطة الى فضاء صاخب لا يطاق..في قاعة الانتظار، المكان يختلف..اغلب الحاضرين رجال.. فيما انخرطت بعض النسوة في حديث طويل لا ينتهي..
على احد المقاعد جلس قاسم، واخذ يتأمل الوجوه الجالسة.. وبعد لحظات دخل رجل متوسط القامة بوجه تعلوه لحية خفيفة.. يجرحقيبة، وفي يده جريدة..
أدار قاسم بصره في أنحاء القاعة.. فاستوقفه منظرالملتحي وهو جالس بالقرب منه يقرأ جريدة أجنبية.. الوجه ليس غريبا عنه.. وطفق يتأمله باهتمام.. الملامح يعرفها.. ملامح عمر صديقه القديم.. ولكن صوتا يضج في اعماقه محذرا « كلا.. لم يكن صديقك عمر ذا لحية يوما طيلة مقامك هناك في ديار الغربة..»
وفكر هو.. من الطبيعي ان تتغير الظروف وملامح الوجوه كذلك.. منذ ان كان هناك قبل ما يناهز العشرين سنة .. تغير كل شيء.. تغير كل شيء..

امتلأت قاعة الشركة عن آخرها. احتفال بهيج، نهاية سنة وولادة أخرى. موسيقى تستوطن المكان وتسافر به الى عالم آخر. كله سحر وهدوء وجمال. كان الاحتفال. وكانت، هي هناك، ترمقه من بعيد. من وراء باب مكتبها. تتبعه بنظراتها الخجولة. تراقب كل حركة من جسده وكل تعابير وجهه. تبتسم لما يبتسم، تخاطب نفسها "هل لاحظ اهتمامي به؟" تسافر من جديد مع كل حركة من حركاته النشيطة. تخاطب نفسها من جديد وهي تكاد تحضنه بعينيها "أكيد لاحظ اهتمامي به وبكل حركاته وسكناته." ابتسمت وفي غفلة منها، اقتربت منها زميلة لها، وقالت لها في هدوء وسرية" أما زلت متيمة به؟" انتفضت كطائر جريح، وقالت لها "أنا؟ لا أبدا. لقد نسيته منذ مدة." وعادت تتكلم معها في أي كلام. لكن نظراتها ظلت بعيدة عنها، تراقبه وتغازله.
توارت عن الأنظار، لما لاحظت أنه تائه مع الآخرين في حديث وضحك. عادت الى مكتبها وعينيها تشعان حزنا وألما. مسحت دمعة هاربة وأعادت الى خزانتها هدية صغيرة كانت قد اشترتها له. فهي دائما تحب المفاجآت، وتحب أيضا أن تفاجئ من تحب. سمعت صوتا تعرفه جيدا يلقي تحية مؤدبة، التفتت. كان هناك، متكئا على حائط مكتبها ويرسم على شفتيه ابتسامة هادئة. كأن نظراتها سافرت اليه وحكت له عن حبها. خجل شديد على محياها، ارتباك غير مفهوم. ضحك بصوت مسموع. وقال لها "الكل يحتفل وأنت هنا. هل أنت مشغولة؟" فركت يديها دون وعي منها، وابتسمت وقالت له بصوت مبتهج" لدي عمل متأخر وقلت أنجزه اليوم."

كم هي طيبة وكريمة تلك السيدة؛ مدام سيمون؛ العجوز الشقراء؛ صاحبة البيت التي اكترى منها شقتها السفلية بالبدرون. منذ أن حل بفرنسا كطالب علم، وهي تعتني به كما لو كان أحد أبنائها.
لا تشبه مدام سيمون في شيء، نساء بلدته المكتئبات المتجهمات على الدوام، وجهها مشرق دائم الابتسامة والتفاؤل، فيما نساء جلدته عابسات متكلسة وجوههن. تساءل لحظتها عن السر الكامن من وراء تلك المفارقة، قبل أن تقفز إلى ذاكرته؛ اللازمة التي ظلت والدته تهمهم بها غاضبة، عقب كل مشاداة مع والده: " لا يمكن للرجل أن يشعر باكتمال رجولته، إلا حينما ينكد على زوجته ". علق على الأمر حينها قائلا: " يا لفراستك أيتها الوالدة... فقد اختزلت سيكولوجية الرجل العروبي شديدة التعقيد في جملة واحدة".
لمدام سيمون حاسة سادسة رهيبة، فهو حينما يفلس؛ تعلم هي بذلك قبل أن يعلم هو. لولا زياراتها المسائية الداعمة وما تحمله من مفاجآت، لما كان له أن يضمن بقاءه من دون أن يتحول إلى متسول. أجمل منظر في الكون يعلق بذاكرته؛ هو لمدام سيمون وهي واقفة على باب شقته، وابتسامة عذبة تعلو محياها، تحمل بين يديها صينيتها المزركشة المتخمة بالأطباق الشهية، ويتقدمها كلبها مارلي؛ ذاك السمين الغبي الكسول. كما وأن أروع سمفونية سمعها في حياته البئيسة، كانت لوقع خطواتها على الدرج المؤدي للبدرون، وهي تقترب رويدا رويدا من باب شقته، وهو الوقع الذي كان له مفعول السحر في الرفع من منسوب سعادته بقدر ما كان يقترب منه، وهو في حالة قصوى من التخشع والتضرع والدعاء، على أن تختتم تلك السمفونية الرائعة، بسماع طرق ناعم على باب شقته.

عشرون دقيقة بعد منتصف الليل، بدأ العام الجديد، وبدأت معه أصوات الألعاب النارية، شيء ما ..عالق في وجداني يوقظ فيَّ وجعاً خفيّ الملامح.
العام الثالث منذ غاب أبي عن البيت،
أحياناً أقلّب صفحات الأحاديث الخفيفة الضاحكة التي كانت بين نافذتينا .."يا لعظمة وجودك يا أبي..إذْ لم ينتصر عليك الغياب، ولا تزال ضحكتك طازجة تماما كما تركتها في روحي"
الشوارع في عُهدة الآمال الجديدة، فيما سيارات الشرطة على أهبة الاستعداد لإيقاف أي فوضى مهما كانت نواياها..لأنه ببساطة نوايا الأمل حين تخرج من السيطرة تكون خطيرة!
هاتفتني صديقتي الجزائرية، تلتها خالتي من نيروبي، ثم استقر هاتفي على رقم هاتف من اسطنبول.
لم أتحدث اليوم مع أحد، ليس مجازا حين يُقال هنا..لا تفعل ما لا تشعر به. لذلك لم أنبس بكلمة لأي كائن.. ربما هي غرابة مزاج عابر، أو شيء يمكنني فهمه لاحقاً،لا أعرف!
السناجب فوق الأغصان العارية، والأرانب في جحورها الباردة، منازل القمر، سكينة الشتاء وكآبة صمته، والناس بحكاياتهم ..وخوفهم من وحش الغد، والزمن الجميل الذي نمر عليه دون أن نشعر إلا حين يكون وراءنا.

تنحى جانبا مفسحا المجال لمرور كلماتها الحارقة، هي لا تجيد إلا هذا النوع من الحديث، حتى وهي تعبر عن مودتها-نادرا- له. انتظر ريثما تتوقف شفتاها عن الحركة، كإشارة على انتهائها من الزعيق، ثم ابتسم وانطلق موليا دون أن يكون قد سمع شيئا مما كانت تتلفظ به. لعن في قرارة نفسه ذلك القرار المشؤوم الذي أسفر عن زواجهما، ليته لم يسمع نصيحة أصدقائه الذين سبقوه، فبعد أن كانوا يصرون على لقائه مشجعين له على الزواج، اختفوا كلهم اليوم، كأن هدفهم أن يجعلوه يعيش ما يعيشون، ويسقط في الشرك نفسه، ثم بعد ذلك لازم كل منهم الصمت حيال التجربة!! حتى أنا (استدرك)...
المشي طاحونة لا تبقي على شيء، لطالما فضل المشي على استقلال وسيلة ما، المشي فرصة للوعي بما حواليه، وإنتاج لنوع من الفعل الذي يخصه ويختص به كإنسان، إنه لقاء فينومينولوجي مع الأشياء، وقبل كل شيء مع الذات... استطاب صوت وقع حذائه على الأرض، بدا الأمر كأنه أول مرة يسمعه، تساءل بدافع من الحالة التي تركها؛ كيف إن علاقة رجليه -من وراء حذائه الوحيد- بالأرض قد أفرزت صوتا ذا إيقاع يعج بالمودة، ويبعث على الإنصات، على الاِستمرارية في فعل المشي، ويزداد الأمر حماسة حين يقف على رجل واحدة ويدور كبلبل، آآه من ذلك الصوت، إنه أشبه بالعناق، بل بالقبلة... عجيب كيف إن رجليه وإن من وراء حذاء، قد أفلحتا في نسج هكذا علاقة- يراها حميمية- في حين عجز هو عنها، حتى في غياب أي حجاب...
توقف فجأة ودنا يتحسس بباطن يده حبات الثرى، لم يستشعر شيئا، قرب حفنة التراب لأنفه وشمها؛ لاشيء!! أيعقل أن يكون أبعد عضو مني، أكثر حساسية واستشعارا!!؟ أيعقل أن الثلاثة وسبعون كيلوغراما لم تفلح في طمس مجساته؟ وَارد، فنحن البشر خطاؤون، تافهون, مجانبون للصواب(قال مع نفسه).

مترددا أمام الصراف الآلي سحب بطاقته قبل معرفة الرصيد. خفقة قلب تؤذن بأن ما تبقى من راتبه لا يكفي لتجهيز وليمة لأخيه العائد من غربة في ربوع كندا الساحرة.
غربة ! وابتسم بسخرية حين نطت إلى ذاكرته عشرات الصور التي يغص بها حساب الأخ الأصغر في انستغرام: مسكن بالعاصمة تسيجه حديقة ومسبح ومرآب للسيارة. وزوجة من بغداد هرّبت ملامحها الأشورية إلى أوروبا قبيل الزحف الأمريكي على كبرياء صدام حسين وآبار نفطه. ومقاولة تحلب وزارات العالم الثالث مقابل استشارات ودراسات تذهب أدراج النسيان.
- أنا الغريب المغترب في وطني. ثلاثون عاما أحمل فوق رأسي خبزا تأكل منه طيور الوزارة وغربانها. يرحل وزير وحاشيته، ويأتي وزير آخر وحاشيته. وبين هذا وذاك تتدلى كروش، وتتضخم أرصدة، ويتخرج أبناء مترفون من جامعات أوروبا ليستكملوا الرضاعة من ثدي الوطن الأم، بينما راتبي كنقش صخري، لا يتبدل ولا يتغير.
هبت ريح خفيفة كنست وريقات الخريف المتعبة. دس يديه في جيوب معطفه ثم انطلق كسهم إلى بيت الوالدة. تلك عادتنا حين تبعثر الدنيا ما في القلب من طمأنينة. قبّل جبهتها ويدها ثم اضطجع في فناء الدار. رن الهاتف بعد لحظات ليستعجل الرئيس حضوره لاجتماع طارئ:
- زميلكم الذي كان راقدا بالمستشفى وافته المنية. والإدارة كما تعلمون لم تحظ بعد بمخصصات لإظهار التكافل مع موظفيها، لذا أقترح التبرع بمبلغ محترم لتأدية واجب العزاء.

دخل يجتر خطواته بخجل، نظرات مترددة وتائهة. كعزيز قوم ذل. يحمل بيده كيسا صغيرا من البلاستيك يحتوي على بعض الأوراق. يظهر على ملامحه التعب والخوف. نظر الي، ثم حول نظراته المضطربة اتجاه الموظف القابع وراء مكتبه. فعاد وجلس الى جانبي. وسألني بصوت خافت:
-هل هذا الرجل هو المسؤول هنا؟ سألني بكل عفوية وهو يتأمله.
-انه المسؤول عن مكتب المدير.
رفع رأسه بالإيجاب، وظلت نظراته تراقبه كأنه يبحث بين ثنايا مكتبه عن شيء ضائع منه. ثم قال لي:
- هل أنت أيضا تبحثين عن عمل؟ فنظر الى الكيس الذي بين يديه واختضنه كطفل عزيز وغالي.
أجبته دون أن أفهم مغزى سؤاله. وقلت له:
- أنا هنا لغرض آخر.
ابتسم بكل صدق. فجأة، قام واقترب من باب سكرتير المدير وطلب الاستئذان بالدخول، كان مؤدبا وخائفا. يقدم رجلا ويؤخر أخرى كمن سينفذ فيه حكم بالإعدام.
سأله سكرتير مكتب المدير:
- ماذا تريد؟

نهضنا معا وغادرنا المقهي وتركنا وراءنا الجدران الصماء والزبائن وخيوط الدخان وقرقعة النراجيل وأصوات ارتطام الفناجين بالطاولات. تقدمنا يتبع أحدنا الآخر حتى عبرنا الباب وقهقهات النادل تعلو على كل الأصوات.
احتوانا الشارع الطويل الممتد الذي لا ينتهي ومشينا صامتين موقِّعين بأقدامنا مثل جنديين أتقنا تدريبهما. وراح كل منا يغازل أهداب ذكرى ويلج أنفاق روحه التي لم يتسن للآخر الدنو منها.
سرنا. لست أدري أطال بنا المسير أم قصر. تحيط بنا من الجانبين أشجار باسقة متشبثة بالتراب تعاند الأعمدة والجدران المحاذية وترتفع هاماتها لتلامس أسلاك الهاتف. احتمينا بظلها من لفح الهاجرة واتقينا بأغصانها الوارفة أشعة الشمس المنهالة فوق رأسينا بلا رحمة مثل حديد مُذاب.
أصوات متداخلة تكاد تثقب آذاننا، منبهات سيارات، أزيز فرامل، نداءات باعة جوالين، تغاريد بلابل، عربدة أطفال طائشين يعاكسون فتاة، هدير طائرة تعبر الجو، صفير قطار منهك يعلن انتهاء رحلة شاقة ومضنية...تمر من أمامي قطة بفروها البني اللامع تحمل بين فكيها صغيرها باحثة له عن مكان آمن.
الشارع الطويل الممتد لا ينتهي وهذه الأصوات المتداخلة تنسج أنغاما يعجز عن وضع نوتاتها أمهر العازفين. كنا نسير معا جنبا إلى جنب، لكن روح كل منا تخوض عباب يم بعيد عن الآخر. يمتطي كل منا صهوة جواد محمحم فُكَّ لجامه وأُطلِق له العنان فانطلق يعدو لا تكاد حوافر تلامس الأرض، كلما بلله العرق ازدادت سرعته حتى كاد يحلق في الفضاء، يجوب فيافي موحلة ويجوس خلال آفاق بلا حدود، يطأ أرضا ملغومة حينا وقفرا حينا لا شجر ولا ماء، وحدها الرياح تتناوح فيها يعلو فحيحها وينخفض، يتسربل بين الفجاج والشعاب المقفرة المميتة.