عند المساء كان الحكم قد صدر، كنت أستطيع أن أرى طبيبي وهو يضع على المكتب تقريره الطبي النهائي، زم شفتيه ونظر في وجهي نظرة فهمت معناها ثم قال- للاسف لم يتبق أمامك وقت طويل- كم؟ نظرت في عينيه مباشرة وانا شبه محتارة- ثلاثة أيام على الاغلب- ثم أضاف: يمكنك استغلال الوقت المتبقي في القيام بأشياء ذات أهمية. حملت الورقة المشؤومة بين يدي ونزلت الدرج شبه غائبة عن الوعي، ماذا يمكن للانسان أن يفعل في ثلاث أيام؟ لاشيء، لا بل أشياء كثيرة، المسيح نفسه قام بأشياء كثيرة في ثلاثة أيام، بم أبدأ؟ هل أزور بعض صديقاتي واخبرهن بالامر؟ لقد استفحل المرض في جسمي، رغم أنني أبدو واقفة صلبة وقوية، لكن صديقاتي سيزدن من تعقيد الوضع، أعرف ان بعضهن سيصدمن والبعض الاخر ستنخرطن معي في نوبة بكاء مر وسأضعف، وأنا لا أريد أن أضعف، أريد أن أبقى قوية ومركزة، أحسست بخذر قوي في يدي، وصولا الى باب غرفتي كانت قواي قد خارت كليا، أدرت المفتاح وسرت زحفا على أرضية الغرفة، توقفت لالقي نظرة على أثاثها، صورة أبي ماتزال في مكانها، بدت ابتسامته ساحرة بالابيض والاسود وكأنني أراها للمرة الاولى، عقارب الساعة لا تزال تكمل دورتها الاعتيادية ولكن ببطء شديد، واتخذت قراري.
ما أقوى الانسان أمام الموت، وصرت أقوى لأستطيع أن أقف، جلبت الكرسي الخشبي مقابل صورة أبي مباشرة، أزلت حبل الغسيل واختبرت قوته، لابد أن يصمد حتى النهاية...نهايتي. تذكرت كلمات ناظم حكمت"ما أصعب الموت في حزيران" وكنا في ديسمبر و عندما يصل أصدقائي أو الجيران الى غرفتي ستكون جثتي باردة باردة وربما على وجهي سترسم ابتسامة، ابتسامة متأخرة تفيد: يا أيها السادة لقد وصلتم متأخرين.
ربطت الحبل باحكام وفي نهايته عقدة حيث سأضع عنقي- ضعي هذا العقد الجميل في عنقك ليبدو أجمل- أتذكر كلمات سمير وهو يمدح عنقي الذي سيصبح جرحي بعد قليل، هل هكذا سأستقبل الموت؟ هل هكذا يحس الناس الذين يتوجهون الى حتفهم مترصدين لانفسهم في كل الزوايا؟ نزلت من على الكرسي، فتحت دولاب الملابس، أخرجت تنورتي البيضاء القصيرة، هي ماتزال في وهجها الاول، لم أرتدها الا مرة واحدة على سبيل التجريب ولم أجرؤ أن أخرج بها الى الشارع، أمام المرآة كنت أستطيع أن أرى أنها تليق بجسدي-لقد صممت من أجلك- هكذا قالت البائعة عندما كانت تمدح تجريبي لها في محل بيع الملابس المترفة، أخرجت القميص الاحمر الذي أخصصه للمناسبات الخاصة جدا و حذائي ذو الكعب العالي والجلد البراق، عندما انتعلته كنت أرى قدماي وهما ترتجفان، سرحت شعري بمشطي أمي القديم، ووضعت أحمر الشفاه. وقلت بصوت مسموع: انت أكثر حظا أيها الموت لانني أستقبلك بكامل زينتي، صرت ببطئ نحو الكرسي الخشبي، كانت نوافذ الغرفة مشرعة والريح تأتي الى من كل مكان، الاصوات خفت في الخارج، كانت أنفاسي متلاحقة، دقات قلبي تتسارع في ايقاع غريب، صعدت على الكرسي، هذا الحذاء الجميل والملعون لا يساعدني، انتصبت فوق الخشبة والالام تعصر جسدي ذرة ذرة، وضعت عنقي وسط عقدة الحبل، أغمضت عيني وبدأ شريط ذكرياتي يمر أمام عيني، تذكرت أمي وانا ابنة تسع سنوات وهي تحثني على الفرح في العيد، كنت أرفض قائلة: لا يمكن ان أفرح وهناك أناس لا يحتفلون بالعيد من عوزهم كما انا هناك أناس اخرون في السجن، كان كلامي يصدمها، كانت تسارع لتضع رأسي في حجرها وتبدأ في قراءة المعوذتين، تذكرت أبي وهو يعود من مظاهرة ضد فرنسا وهو متخن بجراحه وأمي تبكي في صدر الدار وتولول، والجيران يمنعونها قائلين أنه لم يمت.
لكن أبي ميت الان وفقط صورته أمامي تذكرني انه كان هنا ذات يوم، ألقيت نظرة الى الخارج وعلى ضوء عمود الانارة كنت أستطيع ان أرى قطرات المطر منطلقة، أحسست بدفء غريب عابر، وقلت لنفسي لألق نظرة على الخارج، نظرة أخيرة، نزلت مرة أخرى، فتحت الباب وسرت بصعوبة وصولا الى جانب الطريق، لم يكن هناك احد بالخارج، على الطوار كانت هناك قطة صغيرة تموء، وعندما حملتها بيدي كانت مبللة بالكامل، ألقيت نظرة من الخارج على غرفتي والمصباح المضيء وسطها يظهر الحبل وقد بدا منظره بشعا ومضحكا في نفس الوقت، حملت الحيوان الصغير بين يدي، وسرت مبتعدة، خطوة، خطوتان وثلاث...أحسست أن الالم في جسدي يتضاءل وعينا الحيوان الصغير ترمقني بحنان، أزلت الحذاء من قدمي، وبدأت في الركض، كان الالم قد زال كليا، قلت لنفسي: لقد زال الالم. وعندما انتصبت الطريق أمامي لم أكن أسمع الا مواء القطة وصوت خطواتي الراكضة وهي تضرب بعنف أسفلت الشوارع الفارغة.