الموسيقى الشعبية تعتلي أجواء المكان ، الكمنجة تخاطب الجسم ،يهتز ،يصارع الحقيقة ،كل أصدقائهما رمَوْا بالأعراف والتقاليد، وأطلقوا لأنفسهم العنان، ليعبروا كيف شاؤوا متناسين العالم من حولهم .
العروس ترقص متحررة كأنها في ملهى ليلي ، بل كأنها راقصة من بنات الليل المختبئات في عتمة المكان وظلال المؤثرات المنبعثة من أضواء الروبوتات ، التي تملأ أرض وسماء الملاهي .
الأب ابتعد عن المكان خجلا مما يحدث.......
الأم تصفع وجه عروس ابنها ،ثم تنهر ابنها الذي يرقص متناسيا كل شيء، حتى نفسه والمكان ، واحتدَم الصراع بين الأهل، و اشتدت أولى العواصف ولم تهدأ .
بعد لفافات "نِيبْرُو" بالحشيش ورنين كؤوس النبيذ ، لم يكن شيء مما خُطِّطَ لــه من الأهــل ،ولكن كل شيء صار حسب هواه وهوى أصدقائه ، الذين اختاروا لتلك الليلة جوا يناسب رغباتهم التي تاهت بين العبث والجد .
تراهم يرتعون ، يلعبون ، يبتهجون بأضواء المكان الفاتنة السحرية ،وتزداد رغبتهم في ملامسة عالم المستحيلات، والقبض على غير الممكنات ،فلا كلام إلا مما يعكس الدناءة والسوء و العبث والحديث عن اللاممكنات التي ترزح جاثية أمام عوالم القيم الكونية ، والتعاليم السماوية .
خلته يخشى أحدا أحدهم ، يخشى العتاب والمؤاخذة ،فهو لا يعبث إلا خفية في دهاليز عالمه الذي فضل ألا يكون له قطيعة معه .
يدخل المطبخ ، يلقي بقليل من النعناع بين فكيه و يمضغه ،ثم يرش ثيابه وظاهر جسمه بكثير من العطر ، ويعود ليجلس إلى جانــب عروسه ،يستعد ليأخذ له صورة تذكارية مع أمّه ،كي لا تلامس حواسُّها الحقيقة المتخفية في أناقته وسَامتـــه .
العروس تستأذنه للذهاب إلى الحمام ،عند بابه ، أخرجت من حقيبتها قنينة أظنها باهضة الثمن، ظننتها كذلك ،لصغر حجمها وندرتها ، شربَتْ ما تيسر لها أن تشربه ، واستوفت حاجتها الآنية ،ثم عادت لتجلس قرب عريسها ،تلك الجلسة في ذلك المكان الذي ينظر إليه الجميع ، تلك الجلسة التي لطالما حلمت بها .
العريس يشم رائحة نبيذ .
كلَّم نفسه في صمت قائلا : لابد أن أعرف سر هذه الرائحة المغرية المنبعثة منها ، فباغتها بسؤاله :
أين النبيذ؟ من أين تنبعث هذه الرائحة؟
ردَّت :
ليست هناك رائحة !هل تمزح ؟
لا أمزح إنها تنبعث من فمك ،من ملابسك ،من كل أنحاء جسمك ..
ابتسمت و قالت : هل تريد كأسا ؟
نعم أريده ،وأريد الكثير من الكؤوس التي تفوح منها رائحة العنب و......
قالت :
- أرجو ألا ينتبه إلينا أحد ،إبق هادئا .
ذهبت إلى المطبخ ، تبعها بعد قليل ،شرِبا كثيرا، ثم عادا إلى مكانهما على ذلك الكرسي المزين فوق المنصة المنتصبة أمام المدعويين .
الصباح لَاحَ ،الخجل بادٍ على محياهما ، الكل يعرف الحالة التي وصلا إليها ليلة زفافهما ، الكل يسخر منهما ومن أفعالهما .
لم أكن أعرف بداية ما المشكلة ، ولكنني ظللت صامتا لأنني صغير غريب ،في ذلك العالم الذي يعبث بالأجسام ، ويختلط هواؤه برائحة الخمر ، ويعلو فيه صدى رنين الكؤوس فوق صدى كل الأصوات.
حاول بعدما استفاق من سكره ،أن يعتذر لوالديه وللعائلة الكبيرة ،ولكن لاشيء مما يريد فعله، يستحق أن يكون ثمنا لهم على النكســة التي سبباهـــا لهما هو والمتمردة ،حين انكشفت حقيقتها بسكرها علنا أمام الحاضرين، في ليلة أُعِدّ لها ما يجعلها من أجمل ليالي العمر . .
أخيرا امتثل واهتدى لما يرضي والديه وأهله ، وأعلن أمام الجميع أن ما كان يربطه بتلك المرأة قد انتهى .
كثر الحديث عن الحدث، والعائلة الكبيرة مجتمعة على ما ئدة العشاء، قالت الأم : الرباط الذي يبدأ بالسكر لا شك أنه فاشل، ولا يرضيني كَأُمٍّ تريد لإبنها امرأة كأمّ ،امرأة مدرَسَةً، تعِدّ للمجتمع أناسا صالحين لا جانحين و مدمنين ،وتابعت حديثــها :
أردت له زوجا ،لأبعده عن ذلك العالم ، فكنت باختياري هذا ،أرغمه على أن يبقى وفيًّا للإدمان ،يا ليتني لم ألتق بتلك الشقية الشريرة الماكرة .
عودت نفسي على الصراحة، وألا يصدر عني ما يسيء إلى أحد ،ولكنني لن أجد بعد الآن غير كلمتَيْ: الشريرة والمخادعة ،في مستهل حديثي عنها وعن مثيلاتها من نساء هذا العالم ، وإنني من الآن أضرب لكم موعدا لزفاف حقيقي ،حين أجد له زوجة حقيقية، يسكن إليها ،وينسى ذاك العالم ومَا ..........