على مرمى حجر ، لمحتُها ،تحدَّثْتُ في داخلي ،لا أعرف عنها شيئا ،لكنني خلتها هناك في سمائي صامتة كئيبة ، لا تعرف لها وجهة ، غير الإستقرار في أحضان مخيلتي ،التي ترتع في سوادها ،وتنتظر الخلاص ،من ذاكرة وسعتها واحتضنت كل أنحاء حياتها . كنت أمعن النظر في عبارة أنيقة عن المرأة ،وعندما مرت عابرة ذلك الجسر القريب ، لوّنْت تلك العبارة ،وكنت أنتظر أن تفي بمعناها ،فمحوت أثر الحزن عن هذه الصورة الحيّة ، التي تعبر الجسر .
مياه الوادي لا يسمع لها خرير ، القصب الذي يلامس ضباب المكان ، يجعل من صوت الريح أغنية لعاشق حزين ،رأيتها تجري وهي تلبس رداء أسودا ،كنت أناديها بما حملته تلك الأنيقة التي لونتُها ،فتعمدت أن أختار من الألوان غيْر السواد ،غير ما يميز العتْمة ،غير ما يرسم للكائنات عبوسها،شقاءها ، نهايتها.......
شدني الموقف أن أعرف المكنون المخبوء وراء سواد ردائها ،و عروج روحها في سراديب الأحزان ،و وميض الأمنيات التي لا تتحقق ، فتتَبّعت خطواتها ....
في الحديقة ، تجلس جلسة تعبّدٍ وتبتّلٍ ،تنظر بتجهم إلى السماء ، وبتأفف إلى الأرض ، تزيل ذاك الرداء، تتجرد من سوادها ،تأخذ الولاعة ،تدس يدها في محفظتها، تأخذ علبة سيجارة ، تشعل أولى ،وتبدأ حديثها بكلام مجهور، بنبرات مختلفة ،كأن في المكان نساء ورجالا غيرها .
جثت على ركبتيها في المكان الذي يملأه خشاش الأرض، حمرة الغروب ترسم للخريف حروفه،وتشي بترنيمات من موسيقى القمم الأطلسية العالية .
أشعلَت سيجارة ثانية ، تصاعد صوتها في خلوة المكان ،تُكلّم الأشخاص ، تناديهم بأسمائهم ، بألقابهم ، بمناقبهم ، وتغمغم بكلام غير مفهوم ، ترسم للمجتمع غياهب أخرى ،وتجلي كلمات المعاجم العريقة . مررت قربها ، فزِعت ،لبست رداءها على عجل ، واختفى السواد في العتمة ،نظرت إلى المكان الذي كانت تقبع فيه ، النيران تلتهم زواياه ،تحرق كل كلامها الذي تدفق كغاز ذي جاهزية لإستدعاء الحريق إلى أفيائه . العتمة نور الآن ، سيارات الإطفاء تشعل مصابيحها ، حرب بين النور وبقايا زفرات موؤودة تناثرت في المكان ، وقالت للنار : هيْت لك ، أغلقَت كل منافذ الحديقة ، ورفضت أن تأخذ لها قليلا من ماء الوادي ، تاركة كل كائنات المكان تزحف هاربة من تلك الشظايا الحارقة ،التي تلَت بقايا من زفَرَاتِ ملتهبة .