... ثم جلست في المكان المتفق عليه، المطل على الشاطئ هناك، كانت كل الأشياء هادئة جدا بطعم الخلود الأبدي، ومعها ألفيتني ساهما، متأملا بدون عنوان، على العموم كانت هذه ولازالت عادتي عندما أجدني واقعا في فخ الصفحة البيضاء، حيث تنعدم اللغة أو بالأحرى تصبح عاجزة على ترجمة ما بدواخلي، ومنه فقد قررت أن أسافر وبدون وعي مني عبر تلك الأصوات البعيدة الممتزجة بهدير الأمواج الخفيف، كان المنظر بمثابة حافز على تنويم مغناطيسي طويل الأمد، لكنه كان أيضا فرصة لطرح تلك الأسئلة التي كنت قد نسيتها أو بالأحرى تناسيتها منذ عشرين سنة، صحيح أن هناك فصولا طويلة كان لها ما كان في هذا الفراق الذي حدث بدون سابق إنذار، لكن كان لا بد لإرادة الإنسان أيضا أن تلعب دورها لإصلاح ما أفسده الزمن، وهو الأمر الذي لم يتحقق أبدا، كأننا كنا على استعداد لهذا الذي حصل، منتظرين فقط ساعة تحققه...
تناولت سيجارة وضعتها بين شفتي، وعيني لا تفارق ذلك الأفق الفسيح الذي عانق إحداثيات امتدادات البصر اللامتناهية، كم كان مذاق السيجارة ممتعا، حيث كلما احترق جزء صغير منها، تحترق معه أحداث الماضي الذي يعود فيستحيل زمنا حاضرا دون التمكن من الانقضاض عليه، بعدها أحسست بالزمن يكاد ينسحق في، أحسست بجسدي لا يطاوعني، ثقيل كما لو لم يتحرك قط، وعاجز عن الحركة كأن الفراغ لم يعد له وجود... لم تخيبني فراستي حينما أحسست باقترابها مني، بل كنت أشعر بخطواتها الخفيفة دون التمكن من الاستدارة وراءً حيث رائحة عطرها لازالت هي هي، وإن مر عليها دهر ممتد طويلا، أو ربما تعمدت إثارة ذكرياتنا عندما قررت وضعه، وهي الفتاة النبيهة التي تميزت دوما بشيء لم نعرف طبيعته لكننا كنا نحس به دوما...
بعدها توقفت أمامي مباشرة، لم أعد أتذكر المدة الزمنية التي قضيناها ونحن نتأمل بعضنا البعض، نسيت العالم الذي يحيط بي، غارقا ساهما في عينيها باحثا عن ذلك السر ميزها، لم تتغير كثيرا حيث بقيت تقاسيمها تحمل كل معاني التحدي، محافظة على أناقتها المعهودة، وعلى تلك النظرة التي تمزج بين الافتراس والسلم، بين إعطاء الشعور بالأمان والإحساس بغياب الثقة... من الصعب قضم هذه المدة الزمنية لكن من السهل تلخيصها في كلمة واحدة: عشرون سنة من الغياب...
وقفت بكل تثاقل كأني استيقظت للتو من لحظة ثمالة ممتعة، عانقنا بعضنا البعض، ومع هذا العناق كانت كل الأحداث تتسابق كي تعلن حضورها من جديد: أول لقاء بيننا في مكتبة الجامعة... أول حوار دار بيننا... أيام النضال والركض بدون اتجاه فرارا من عيون الشرطة... أول سفر مشترك بيننا... وذلك الحدث الذي قررنا فيه دون أن نناقشه، وإن مر في عيونها كما في عيوني فقد غضضنا الطرف عنه كأننا كنا متفقين عليه سلفا... أومأت لها بالجلوس فاستجابت مجددة شكرها، دون أن تكف عيوننا على التلصص لبعضنا البعض، مرت لحظة جاثمة طويلة دون أن اسمع صوتها الذي كنت متشوقا له، كنا نرتب الكلمات بعناية فائقة بحثا عن عبارات لائقة قبل التفوه بها، لكن كلمة الصمت هي التي كانت الفيصل في كل هذا، وكأني فقدت السلطة على لساني وجدتني أخاطبها بعفوية ضاربا كل العبارات التي صنعتها بيني وبين نفسي عرض الحائط:
ــ أجدد ترحيبي بك وأشكرك على الدعوة والمبادرة...
ابتسمت منى برفق فبدت لي أكثر بهاء من ذي قبل:
ــ الشكر لك على قبول الدعوة وقطع هاته المسافة الطويلة، لازلت دقيقا في مواعيدك...
قبل أن تتمم كلامها نظرتُ إلى الساعة فإذا بها تشير إلى الرابعة تماما، فهمت إشارتي فابتدرتني قائلة:
ــ لقد هاتفت عماد للتو، فأخبرني بأنه على وشك اللحاق بنا، أما نجوى فقد أرسلت لي نصا إلكترونيا تخبرني فيه أنها ستتأخر قليلا بسبب زحام السيارات في الشارع المؤدي إلى هنا...
صمت برهة ثم سألتها قائلا:
ــ كيف حال الأسرة الصغيرة...
وبفطانتها أجابتني في الحين:
ــ بألف خير، وإن كان شباب هذا الزمن يخالفوننا تمام الاختلاف لكن...
قبل أن تكمل كلامها مرة أخرى، ألفينا عماد يقف إلى جانبنا، عماد الذي تغير كثيرا منذ دخوله المعتقل، حيث حوكم عليه بست سنوات نافذة، وجد من خلالها فرصة سانحة لمراجعة نفسه، حينها قرر مغادرة المغرب نهائيا والاستقرار بألمانيا، راسما معالم أخرى لحياته من مدرس للفلسفة إلى رجل أعمال، مستغلا منطق الفلسفة في نظام اقتصاد السوق، وهو ما جعل منه شخصية ناجحة، حاول من خلالها تعويض فشله السياسي، هكذا اجتمع شملنا في انتظار وافد آخر، وهكذا أيضا كتب لنا العناق بعد الذي حصل.
هو عنوان جديد للحظة أكثر جدة وأكثر عمقا في الذكرى، من خلالها وإن كان الصمت عنوان لقاءنا إلا أننا كنا نقول كل شيء عبر الصمت، أوليس الصمت ضجيجا من الكلمات كما قال أحد الفلاسفة... ثم انتظرنا بعدها أن يبادر أحد بالكلام، كان الأمر صعبا جدا، حيث لم يتمكن السحر الذي كانت تتمتع به منى من أن تنفلت من هذا الجمود، فيما وجد عماد نفسه عالقا بين السماء والأرض وهو الذي يتمكن في ظرف وجيز من إقناع مخاطبه بالفكرة ونقيضها في نفس الوقت، أما أنا فيما فقد وجدتني في حلم مختلطة أحداثه كأني أسافر عبر الزمن في سرعة تفوق سرعة الضوء بكثير، منتقلا بعيني من وجه عماد الذي ازداد وسامة وإن غزاه الشعر الأبيض فتبدى من خلاله مفكرا من عصر البنيوية، إلى تقاسيم منى التي لا زلت ألمس فيها شيئا لا أعرفه لم يتغير رغم تغير كل الأشياء، خاصة وأني حفظت كل تفاصيل جسدها...
فجأة وبدون سابق إنذار، بل وبطريقة آلية خاطبني عماد قائلا:
ــ أقدم لك التهاني على صدور روايتك الجديدة، وإن لم أطلع عليها بعد، فقد وجدت لها مكانا بين كبريات الأعمال الأدبية...
أومأت له برأسي إيجابا، ثم ختمت هاته الحركة بابتسامة وإن شككت فيما تفوه بع عماد، غير متمكن من التفريق بين عماد الذي يتقن بيع الأوهام، وبين عماد الصادق في أقواله، على العموم تكفي هاته المدة لتغيير الجبال فما بالك بالبشر، وإن حافظت شيئا ما على حسن النية إلا أن طبيعة عمل عماد يمكن أن تجعل منه غير متمكن من التفريق بين حياته العادية وحياته العملية، في تلك اللحظة أرسلت منى بصرها نحو الأفق البعيد، ثم أجابت عماد:
ــ لقد حافظ على عادته في الكتابة، صراحة أغبطه على هذا الفعل، فيما تمكنت مسؤولياتنا من الابتعاد تماما عن عبادة الكتب والصلاة فوق معاني السطور.
ــ أعتقد أني أصبحت محور النقاش، أو بالأحرى موضوعا تسخينيا للخوض في شيء آخر لازلنا لم نعثر على طرف خيطه، لهذا وجدتني أقول وبحذر كبير:
ــ أشكركم على الإطراء، لكن قل يا عماد هل تمكنت من إتمام ذلك الديوان الشعري الذي قضيت فيه مدة طويلة دون الانفلات من عقدة الحصر.
ابتسم عماد بطريقة دلت على أنه فطن إلى مقصدي في تغيير الموضوع... التقت عيوننا فألفيته يحدق في عمق العمق، كأنه يقدم إلي رسالة مفادها ضرورة الاتصاف بنباهة ودهاء كبيرين لتغيير المواضيع دون إثارة انتباه المخاطب، فيما منى لازال مُرَكَّزٌ بصرها نحو الأفق البعيد كأنها تحاول اللحاق به، قضما لتلك المسافات الضائعة، أو ربما محاولة إيجاد تفسير لهذا المنطق غي السليم الذي عمر لمدة عشرين سنة...
ثم أرسل عماد بصره هو الآخر نحو النقطة التي كانت تركز عليها منى، فتبدى أكثر وسامة وجمالا من ذي قبل، متخيلا أنهما يتحاوران هناك معا، في حين أن جسديهما يقبعان هنا بجانبي، حاولت أنا الآخر أن أقوم بنفس الأمر إلا أني لم أجد لهاته اللعبة المسلية أي سبيل، وبينما منا على هاته الحالة خاطبتنا منى قائلة:
ــ لازلت أتذكر ذلك الديوان الذي كتب قبل أن يكتب.
ابتسمت قليلا ثم أردفت قائلة:
ــ لقد قضى عماد أكثر من سنتين في محاولة لإتمامه، لدرجة أنه وضع فهرسه الكامل دون أن يتمكن من تجاوز قصيدته الأولى.
التفت منى ناحيتي ثم وجهت لي السؤال دون أن تفارقها تلك البسمة التي تحمل كل معاني الحياة:
ــ هل تتذكر يا هادي القصيدة التي كتبها؟
خفق قلبي بشدة لما ذكرت اسمي لأول مرة، بعدما لم أسمعه منذ تلك السنين الطويلة، فيما فطن عماد لهذا الأمر، فتبدى لي منتشيا بهذا الموقف وهو الذي كان يحفظ تصرفاتي عن ظهر قلب، أما أنا فقد وجدتها فرصة سانحة لإكمال هذا التضليل عندما قلت:
ــ بطبيعة الحال، لازلت أتذكر عنوانه: العجوز الشمطاء...
ضحكت منى بشدة أما عماد فقد طأطأ رأسه في تفاعل تام، ثم أجابنا مدافعا عن نفسه:
ــ لو كتب وأن انفلت من مشكلة الصفحة البيضاء، لنافست كاتبنا الكبير.
في تلك اللحظة قاطعت عماد موجها كلامي لمنى:
ــ وهل تعلمي سر تلك القصيدة بالمناسبة؟
ضحكت منى مرة أخرى بنفس الطريقة السابقة، ثم أجابتني قائلة:
ــ كل الطلاب كانوا يعرفون أن شاعرنا الفاشل بصدد تأليف هذا الديوان غير المكتمل، بل إنه حقق ثورة في مجال الشعر...
توقفت برهة مانحة لنفسها فرصة للضحك وبشدة أكبر، حينها أكلمت وكلامها ممزوج بضحكها:
ــ هل تعلم أنه أخد عبارة من شعر قباني، وبيتا من شعر المتنبي، وآخر مما كتبه طرفة بن العبد، وبعض مما قالته نازك الملائكة، ثم أضاف هاته الخلطة إلى بضع جمل بدون معنى كان قد كتبها تحت الثمالة، فكانت هذه هي ظروف كتابة قصيدته الشيقة: العجوز الشمطاء...
عندها وجدنا أنفسنا نضحك جميعا بطريقة هستيرية من خلالها أزلنا عنا طابع الرسمية المفرطة، وبينما كنا نعيش على هذا الإيقاع فإذا بنجوى تخاطبنا:
ــ السلام على الشيوخ الضاحكين، وعلى الشيخوخة الضاحكة.
صمتنا كلنا في وقت واحد كأننا نؤدي دورا سينمائيا، فيما نجوى هي هي، مرح كبير وقفشات ما إن تنتهي حتى تبدأ من جديد، وبطريقتها العفوية اقتربت من عماد أولا، عانقته بشدة كأنها تعوض عناق عشرين سنة من الغياب المقصود، ثم انتقلت إلي تعانقني وتهنئني في نفس الوقت على صدور روايتي الجديدة، لتنتقل بعدها إلى منى، وبينما كان عماد يتأمل المشهد وفي تقاسيمه فرح كبير، وجدتني في حرب داخلية مع ذلك الإحساس الذي لفني منذ جلست هنا، وهو مصير ابنتنا عشتار الذي أنجبناها أنا ومنى خلال سنوات الجامعة فكانت سببا مباشرا في هذا الفراق، عندما قررت منى الاختفاء بعدما كنت متشبتا بحل الإجهاض لعدم التوفر على الإمكانيات اللازمة، على العموم لن أبرح هذا المكان دون نقاش هذا الأمر، حيث قررت منى من خلاله الاختفاء إلى مكان جهله الجميع، مما أشار حفيظة نجوى وعماد الذين وجها لي عتابا لم أنسه أبدا، فيما التزمتُ بالصمت حيث أحسست أن التاريخ لن ينصفني حتى ولو شرحت لهم الأمر، كل ما عرفته بعد كل هذا الذي مضى أن منى اختارت اسم عشتار، وذلك بعدما تلقيت رسالة منها، طالبة مني ألا أستفسر عن مكانها وأن أنسى الذي حصل بيننا، لأنها قررت الزواج بشخص غير خائن على حد تعبيرها، عندها أسدل ستار الجزء الأول، ثم أعبقته نهاية هذا الفيلم غير المتفق عليه حينما زج بعماد في السجن، بينما قررت نجوى الابتعاد كليا عن دائرتنا، أما اليوم فقد كان اللقاء مناسبة لشكر عماد على عودته من ألمانيا بعد عشرين سنة، والتوجه بالامتنان إلى منى التي كانت صاحبة الفكرة، والتقدير الكبير لنجوى التي قررت التراجع عن اختيارها.
كان لقاءً حساسا وملغوما في الآن نفسه، مثلما كانت فكرته عملية، من خلالها قررت أن أفاتح الجميع في الموضوع، وأن نقف عند كل الأحكام التي أصدرناها في حقنا دون الاستماع لبعضنا البعض، أردت أن أطلب العفو من منى، وكيف قررت عدم الزواج بل وعدم الارتباط بأحد تعويضا عن ما فات، وكيف توسطت عند أحد الأقارب النافذين كي يتم تخفيف عقوبة عماد... وكيف أني لازلت أطالب بالتعرف على ابنتنا عشتار... وبينما هممت بمفاتحة الجميع إذا بصوت النادل يخاطبنا بأدب:
ــ مرحبا بكم في مطعمنا، أتمنى أن يروقكم المكان.
ابتسم بعفوية، ثم ناولنا قائمة المأكولات وانصرف...