"في ليلة مقمرة وقعت جريمة قتل في قريتنا"
وكما أن العناكب لا تحيك بيوتها جزافا, كذلك لا شئ اعتباطي في البيت اللغوي الصغير الذي تشكله الجملة السابقة , حيث الكلمات الناظمة تشترك في نفس الحرف : القاف..ذاك الجبل الواقع في مكان قصي من الأرض والذاكرة الشعبية على السواء , والذي لفظه تجويف ما خصيصا كي تهشم فوق صخوره عظام المبعدين والمغضوب عليهم . إن هذا الحرف الذي يندفع كالبصقة , والمضاعف بشكل غير مبرر لكن ليس دون جدوى , سيظل يقرع في صدري كالجرس الكنسي , وسيحدد بشكل ما الواقعة التي سأكون طرفا أساسيا في نسجها بعد نحو خمسة وعشرين سنة على حدوث الجريمة الأولى.
كان البدر تماما وساطعا بشكل أخاذ, ولم يكن أي من أهالي القرية النائمة يتوقع أن دما سيراق تلك الليلة..وحين قيض لي أن أشاهد ذاك الشئ المغطى بجلباب رمادي ومبقع بالدم, وأسمع أنه جثمان موحمادي الذي صعدت روحه الى باريها, لم أجد في ذلك سوى حدث مسلِّ ومثير. لقد وجد في مخدع امرأة متزوجة ولم يكن الزوج ممن يسمحون بمثل هذه الإهانة, فغرز في أضلعه خنجرا معدا لهذا القصد. وحين شد موحمادي على جرحه الغائر , وأدرك انه ميت لا محالة , تمكن من جرجرة رجليه الى باحة المنزل لينام تحت ضوء القمر. كان المشهد بالنسبة لي مؤثرا ومغذيا لغرائز أولية مبهمة ومتأصلة منذ زمن لا أدري مبتدأه: القمر المعلق فوق , الباسم, والذي لم يكن هناك بمحض الصدفة (أقصد أن الجريمة لم تكن لتقع دون إيعاز منه) والدور المبثوثة على الجسد الجبلي بين أشجار التين والزيتون والخروب , والتي تبدو الآن كالدمعات المنطفئة الخجلى , ثم الجثة الملقاة هناك كطقس ملغز, التي لن تستطيع الكلام بعد الآن والذهاب الى السوق , أو التفرج علينا نلعب بالكرات الزجاجية أو نجري على الحصى بأرجلنا الحافية.
فيما بعد , سأنتقل مع أسرتي الى المدينة ..وحين يسألنا المدرس عن المهن والحرف التي نود مزاولتها مستقبلا , سأعلن عن اختياري الملتبس الذي سيثير ضحك الآخرين ويتسبب لي في عشر ضربات بالمسطرة الحديدية على رؤوس الأصابع: أريد أن أصبح قاتلا.
لقد أتممت دراستي , وأصبحت موظفا حكوميا , ثم عثرت على بنت حلال أنجبت منها ابنا , لكن الأجراس القديمة ما فتئت تجلجل داخلي تبعث لدي أجواء احتفالية غامضة ورائحة قرابين ودماء تسيل ثم تجف وحمائم بيضاء مذعورة ونظرة باسمة لبدر مكتمل..حينها أبحلق في يدي بشئ من الذعر , وفي الحلق سؤال متوتر : هل حقا , أيتها اليد الراعشة , المعروقة, والتي لم تخبر غير القلم الإداري تسطر به أحوال الناس, تستطيعين أن...؟ ثم أبحلق في ابني( الذي لا يشبهني) وفي زوجتي (التي باعت نفسها لنجوم المسلسلات) وأفر هاربا.
كانت المرأة التي ضبطت مع موحمادي قد غادرت هي الأخرى الى المدينة .. طلقت من زوجها المحكوم عليه بثلاثين سنة سجنا , وحصلت على عمل يؤمن غذاءها ويقيها صهد الذاكرة. كنت بالمرحاض أفرغ نفسي وأفكر في تلك الغمامات الأولى التي تحركها ريح خلاقة في ذهن ما, كي تمطر فيما بعد على قافلة العطش الإنساني: في أول من فكر في صنع شفرة حلاقة , وأول من حلم بإمكانية الصعود الى الفضاء, وأول من نقش رسما على عظمة أو حجر صوان, وأول من جرب القيمة العلاجية لعشب ما أو خطط تصميما للمرحاض, بموطئ قدمين وثقب.. حتى عنّ لي أن هناك من يفكر فيّ اللحظة ويزمجر في سخط بأني أطلت المكوث. خرجت , وأديت درهما للمرأة التي تعتني ببيت الراحة ذاك, والتي – بمجرد ما لمحتها- تذكرت البسمة الماكرة لبدر مكتمل وحفيف ورقة نائحة وجثة راقدة تحت جلباب رمادي..نفس الوجه والملامح..لم تتغير كثيرا إلا من مسحة قسوة تظلل عينيها وزاويتي الفم..ارتعشت الصورة القديمة, ونط خيط دم من على حجر بالجمجمة, و – خارجا- قلت إن القتل هو الفكرة الوحيدة التي ليس لها سابق أولاحق , إذ نجد في الكتاب المنزل أن من قتل فردا واحدا يكون كمن قتل الناس جميعا, لذلك, فكل جريمة قتل هي الأولى وهي أيضا كل الجرائم التي ارتكبت منذ فجر التاريخ والتي لم ترتكب بعد. هكذا فكرت بأنه قد حان أوان دخولي هذا السِّفر.
كنت قد عينت من بين الضحايا المحتملين , فتى مغوليا يمنح زبائن المقهى لحظة أنس وتسلية كما يُشغّل في السعي بين المحبين وطالبي المتعة, ثم رجلا لم تعجبني أبدا نظراته, فأمرأة بمؤخرة عظيمة .. كنت أفكر في جريمة مجانية , تمليها الصدفة فقط ولا يحركها دافع, حتى لا يعرف لها المحققون رأسا من رجل ..لكني رأيت في النهاية أن أفضل ضحية هي المرأة التي شاركت موحمادي نفس الثمرة ولم تشاركه نفس المصير.لقد حكم على زوجها بثلاثين سنة سجنا , لكن التخفيضات التي استفاد منها جعلته يستنفد المدة قبل الوقت المحدد, ويخرج. سمعت بالخبر, فوددت أن أراه ..أرى وجه قاتل حديث عهد بالحرية . بيد أني لم أتحمس لذلك, لأن الإنسان الذي يتلف من تويج عمره ربع قرن جزاءا لسلوك لحظي هو إنسان فاشل, وإذا كنت قد جازفت بتغيير مخططي , ووقع اختياري على المرأة الخائنة, فليس مبعث ذلك حكايتها القديمة, وإنما مكان عملها, إذ أن أفضل مكان للجريمة هو المرحاض.
هكذا أفقت في اليوم التالي خفيفا صافي الذهن..دخلت حمام الحي وأديت للكسال عشرة دراهم من أجل أن يصقل لحمي ..بعدها زرت مشعوذا أسرّ لي بأوصاف امرأة (مربوعة القد, بيضاء عريضة المبسم) قال إن عينيها عليّ, وإنها سبب محنتي مع أجراس الصدر ومطارقه, ثم اقتنيت جريدة لم أقرأها أبدا من قبل, وقصدت المقهى.
تشير الساعة الى الثانية عشرة زوالا..دوت صفارة بإحدى الثانويات, وأغلقت مكاتب, ثم علت زمارة سيارة وأصوات محركات تستعد للإنطلاق.. قلت لنفسي : مثلما يأتي الهدوء بعد العاصفة , سيحل محل زحمة الثانية عشرة سكون الواحدة, ثم ناديت الجرسون : قهوة سوداء أيها الأخ, فنكس راياته التي كانت ترفرف فوق أجساد التلميذات ومشى باتجاه الكونتوار..تصفحت الجريدة وقرأت بإحدى الصفحات الداخلية عمودا كتب بأحرف رقيقة كما لو أنه رسالة سرية:
"في هذه الأثناء, هناك من يخطط لجريمة قتل..
إن هذا الموظف الحكومي البائس الذي يشهد رؤساؤه وزملاؤه في العمل على مزاجه الدموي, تعرض لرجة نفسية عنيفة عندما قتل أبوه المدعو موحمادي , قبل خمسة وعشرين سنة .. ومنذئذ وهو يبحث عن المرأة التي يقول إنها السبب في مقتله , حتى عثر عليها ..وجاءنا بهذا الصدد من أحد مراسلينا أنه ضالع – ضمن خطة مدروسة – في تشغيلها كمنظفة للمرحاض.. لقد كتب ذات يوم –في لحظة سهو أو إشراق ذهني_ بأن العالم مصرف مياه غاص بالجرذان , شمسه التي لا تغيب ثقب المرحاض."
وكان موحمادي مسجيا هناك تحت ضوء القمر , يده المخضبة بدم الأحشاء نائمة بالقرب منه..قلت : "أبي, قم لتنام في بيتنا" ولما لم يجبني.. "أبي ما الذي حصل؟" ثم جرتني أمي من يدي وأبعدتني عنه.. تركت الجريدة وثمن القهوة على الطاولة , وانصرفت في الإتجاه المرسوم.
لقد أتممت دراستي , وأصبحت موظفا حكوميا , ثم عثرت على بنت حلال أنجبت منها ابنا , لكن الأجراس القديمة ما فتئت تجلجل داخلي تبعث لدي أجواء احتفالية غامضة ورائحة قرابين ودماء تسيل ثم تجف وحمائم بيضاء مذعورة ونظرة باسمة لبدر مكتمل..حينها أبحلق في يدي بشئ من الذعر , وفي الحلق سؤال متوتر : هل حقا , أيتها اليد الراعشة , المعروقة, والتي لم تخبر غير القلم الإداري تسطر به أحوال الناس, تستطيعين أن...؟ ثم أبحلق في ابني( الذي لا يشبهني) وفي زوجتي (التي باعت نفسها لنجوم المسلسلات) وأفر هاربا.
كانت المرأة التي ضبطت مع موحمادي قد غادرت هي الأخرى الى المدينة .. طلقت من زوجها المحكوم عليه بثلاثين سنة سجنا , وحصلت على عمل يؤمن غذاءها ويقيها صهد الذاكرة. كنت بالمرحاض أفرغ نفسي وأفكر في تلك الغمامات الأولى التي تحركها ريح خلاقة في ذهن ما, كي تمطر فيما بعد على قافلة العطش الإنساني: في أول من فكر في صنع شفرة حلاقة , وأول من حلم بإمكانية الصعود الى الفضاء, وأول من نقش رسما على عظمة أو حجر صوان, وأول من جرب القيمة العلاجية لعشب ما أو خطط تصميما للمرحاض, بموطئ قدمين وثقب.. حتى عنّ لي أن هناك من يفكر فيّ اللحظة ويزمجر في سخط بأني أطلت المكوث. خرجت , وأديت درهما للمرأة التي تعتني ببيت الراحة ذاك, والتي – بمجرد ما لمحتها- تذكرت البسمة الماكرة لبدر مكتمل وحفيف ورقة نائحة وجثة راقدة تحت جلباب رمادي..نفس الوجه والملامح..لم تتغير كثيرا إلا من مسحة قسوة تظلل عينيها وزاويتي الفم..ارتعشت الصورة القديمة, ونط خيط دم من على حجر بالجمجمة, و – خارجا- قلت إن القتل هو الفكرة الوحيدة التي ليس لها سابق أولاحق , إذ نجد في الكتاب المنزل أن من قتل فردا واحدا يكون كمن قتل الناس جميعا, لذلك, فكل جريمة قتل هي الأولى وهي أيضا كل الجرائم التي ارتكبت منذ فجر التاريخ والتي لم ترتكب بعد. هكذا فكرت بأنه قد حان أوان دخولي هذا السِّفر.
كنت قد عينت من بين الضحايا المحتملين , فتى مغوليا يمنح زبائن المقهى لحظة أنس وتسلية كما يُشغّل في السعي بين المحبين وطالبي المتعة, ثم رجلا لم تعجبني أبدا نظراته, فأمرأة بمؤخرة عظيمة .. كنت أفكر في جريمة مجانية , تمليها الصدفة فقط ولا يحركها دافع, حتى لا يعرف لها المحققون رأسا من رجل ..لكني رأيت في النهاية أن أفضل ضحية هي المرأة التي شاركت موحمادي نفس الثمرة ولم تشاركه نفس المصير.لقد حكم على زوجها بثلاثين سنة سجنا , لكن التخفيضات التي استفاد منها جعلته يستنفد المدة قبل الوقت المحدد, ويخرج. سمعت بالخبر, فوددت أن أراه ..أرى وجه قاتل حديث عهد بالحرية . بيد أني لم أتحمس لذلك, لأن الإنسان الذي يتلف من تويج عمره ربع قرن جزاءا لسلوك لحظي هو إنسان فاشل, وإذا كنت قد جازفت بتغيير مخططي , ووقع اختياري على المرأة الخائنة, فليس مبعث ذلك حكايتها القديمة, وإنما مكان عملها, إذ أن أفضل مكان للجريمة هو المرحاض.
هكذا أفقت في اليوم التالي خفيفا صافي الذهن..دخلت حمام الحي وأديت للكسال عشرة دراهم من أجل أن يصقل لحمي ..بعدها زرت مشعوذا أسرّ لي بأوصاف امرأة (مربوعة القد, بيضاء عريضة المبسم) قال إن عينيها عليّ, وإنها سبب محنتي مع أجراس الصدر ومطارقه, ثم اقتنيت جريدة لم أقرأها أبدا من قبل, وقصدت المقهى.
تشير الساعة الى الثانية عشرة زوالا..دوت صفارة بإحدى الثانويات, وأغلقت مكاتب, ثم علت زمارة سيارة وأصوات محركات تستعد للإنطلاق.. قلت لنفسي : مثلما يأتي الهدوء بعد العاصفة , سيحل محل زحمة الثانية عشرة سكون الواحدة, ثم ناديت الجرسون : قهوة سوداء أيها الأخ, فنكس راياته التي كانت ترفرف فوق أجساد التلميذات ومشى باتجاه الكونتوار..تصفحت الجريدة وقرأت بإحدى الصفحات الداخلية عمودا كتب بأحرف رقيقة كما لو أنه رسالة سرية:
"في هذه الأثناء, هناك من يخطط لجريمة قتل..
إن هذا الموظف الحكومي البائس الذي يشهد رؤساؤه وزملاؤه في العمل على مزاجه الدموي, تعرض لرجة نفسية عنيفة عندما قتل أبوه المدعو موحمادي , قبل خمسة وعشرين سنة .. ومنذئذ وهو يبحث عن المرأة التي يقول إنها السبب في مقتله , حتى عثر عليها ..وجاءنا بهذا الصدد من أحد مراسلينا أنه ضالع – ضمن خطة مدروسة – في تشغيلها كمنظفة للمرحاض.. لقد كتب ذات يوم –في لحظة سهو أو إشراق ذهني_ بأن العالم مصرف مياه غاص بالجرذان , شمسه التي لا تغيب ثقب المرحاض."
وكان موحمادي مسجيا هناك تحت ضوء القمر , يده المخضبة بدم الأحشاء نائمة بالقرب منه..قلت : "أبي, قم لتنام في بيتنا" ولما لم يجبني.. "أبي ما الذي حصل؟" ثم جرتني أمي من يدي وأبعدتني عنه.. تركت الجريدة وثمن القهوة على الطاولة , وانصرفت في الإتجاه المرسوم.