لم يكن ممكنا لنا نحن الثلاثة، أن نظل في المنزل مع أمي في غرفة واحدة، وبخاصة في النهار. كان الشارع الرئيس في المدينة، هو المكان الأثير بالنسبة لي، فهو الأكثر صخبا ونساء وجديدا. أعبره في اليوم عشرات المرات، متنقلا من جهة إلى أخرى. فقد كنت ألاحظ من موقعي كثيرا من الخسارات في الجهة الثانية.. فتيات في سراويل الجينز الضيقة، ونساء في فساتين قصيرة تكشف مساحات حارقة من الفخذين، ما يجعلني أسارع إلى العبور، فتنقلب الحال تماما.
لكن اللافت الأكبر في الشارع، محل خضار لا يشبه المحلات الأخرى، حيث لا يوجد إلا صنف واحد في اليوم، يتغير بين يوم وآخر، ويدير المحل ثلاثة رجال متشابهو الملامح، ما جعلني أقرر أنهم أشقاء. وكان اللافت أيضا أن الثلاثة لا يتحدثون معا. فقد وقفت مرارا أمام المكان، وحاولت سماع أحدهم يخاطب آخر، وهو ما لم يحدث، ما جعلني أفكر فيهم إلى حد يشبه التفكير في وقائع قصة تسمعها أو تقرأها، وتتساءل عن الأسباب وراء وقائعها المثيرة.
كانوا أشبه باللغز، رغم أن الحياة في الشارع لا تبدو مخدوشة أو مهجوسة بهم، ما جعلني أفكر أن في الأمر شيئا من التواطؤ غير المعلن. وما جعلني أيضا أحاول أن أرسم صورة لحياتهم بعد انتهاء العمل. وحين انتظرتهم ذات يوم، أغلقوا المحل في صمت، وخرجوا معا، ثم دخلوا إلى مطعم قريب، وتناولوا وجبة دسمة، ثم خرجوا في صمت مشابه.
قدّرت أن الثلاثة يعانون من بكم كليّ، لكني رأيت شفاههم تتحرك، وهم يتجهون إلى دار السينما الأكثر شعبية في المدينة، والتي لا تبعد عن محلهم والمطعم إلا بضع خطوات فقط.
وفي اليوم التالي، فوجئت بهم يكررون الخطوات ذاتها.. المطعم والطعام ودار السينما، رغم أن الفيلم لم يتغير.
كانت محلات الخضار صاخبة في محتوياتها المتنوعة وفي ألوانها، وفي الأصوات المنبعثة منها، إلا ذاك المحل الذي يديره الإخوة الثلاثة. فكرت في سبب اكتفائهم بصنف واحد، ولم أجد تفسيرا منطقيا أو مقبولا، ما جعلني يوما أوشك أن أسألهم، لكني خشيت العواقب في حال غريبة، وأبطال غرباء.
لم يكن ثمة ما يوحي بخلافات بينهم، بل يمكن القول إنهم كانوا منسجمين تماما، طالما كانوا يتبعون آلية واحدة في المحل وفي الشارع والمطعم والسينما. وقد حاولت أن أتخيل حياتهم في المنزل، واحترت في معرفة ما إذا كان الثلاثة متزوجين، أو أحد منهم على الأقل. وفوجئت بخيالي يذهب بعيدا، ويوغل في غرائبية شرسة.
أخبرت أمي وإخوتي عنهم، ففوجئت بهم جميعا يعرفون كل شيء. ولكني لم أعثر على إجابة واحدة عن الأسئلة التي تلوب في داخلي. لكن أمي قالت كلمة بدت عابرة: (أوادم). وهو ما حرك في أعماقي أسئلة أخرى أكثر سخونة. فكيف تعرف أمي أنهم أوادم؟ من أخبرها؟ هل كانت تعرفهم؟ من أين؟ ومتى؟
اختليت بأمي وسألتها مباشرة: من قال لك إن بائعي الخضار الثلاثة أوادم؟
ارتبكت، ولكنها أخفت ارتباكها سريعا، وقالت ببساطة: هذا ما يبدو عليهم.
لم تكن الإجابة مقنعة. فأنا لم أتمكن من تحديد سماتهم الأخلاقية بالمراقبة والمتابعة، فكيف لأمي أن تعرف؟
كنا في بداية العطلة الصيفية، وكانت أمي تلح علينا نحن أبناؤها الثلاثة، كي نجد عملا يساعد العائلة. وحين فكرت في سؤال الإخوة الثلاثة في محل الخضار، حاولت أن أتخيل يوما صيفيا طويلا بينهم، وقدّرت أنه سيكون قاسيا. ولكن فضولي اللاهث، جعلني في النهاية أقدم على تلك المحاولة. وفوجئت بموافقتهم السريعة، كأنهم كانوا في انتظاري.
كانوا يتحدثون بأصوات خافتة. وكان كلامهم مقتضبا، قصيرا، وسريعا، يشبه الأوامر العسكرية القاطعة. ولم يكن ثمة نقاش أو حوار أو تباين في أي رأي، وكأنهم اتفقوا في الليلة الماضية على التفاصيل، كما يحدث في العمليات العسكرية، وعمليات السطو والقتل. ولم أدرك أيهم الأكبر والأوسط والأصغر. كان أي اثنين منهم ينفذان مطلب الثالث، وكانوا متشابهين جدا في كل شيء، إلى الحد الذي يتيح مساحة عريضة للخطأ في تمييزهم.
كنت متوجسا جدا، كأنني في كهف في حكايات الجن أو الجزر البعيدة والموحشة. كانوا يتحركون كدمى معلقة بخيوط غير مرئية، يتحكم في توجيهها شخص خفي.
عندما انتهوا من بضاعتهم، أغلقوا المحل، وساروا بضع خطوات نحو المطعم القريب، ويبدو أنهم كانوا يعتقدون بوجوب مرافقتي لهم من دون دعوة أو إشارة، وحين اقتربوا أدركوا أنني ما زلت واقفا أمام المحل، فرفع أحدهم يده وأشار إلي بالمجيء. لحقت بهم، وجلست إلى طاولتهم. لم يأت أحد. مر وقت طويل، ثم فوجئت بشاب يحمل صينية يتصاعد منها البخار، ويضعها على الطاولة. كانت الرائحة شهية حد قدرتها على القتل. تناولوا الخبز، وأخذوا في التهام الطعام المكون من اللحم المهروس، والبطاطا المحمّرة، مع بعض البصل الأخضر والفلفل الحار. أكلت قليلا، وعيناي تحاولان التقاط شيء ما. انتهوا واتجهوا إلى دار السينما ذاتها. التفت أحدهم خلفه وأشار إلي، فأدرت وجهي وقصدت البيت.
لم أعد للعمل في اليوم التالي. وحين مررت بهم، ألقيت التحية، فرد أحدهم بيده، وأشار إليّ بالاقتراب. أعطاني ثلاثين قرشا وقال في صوت خافت: مع السلامة.
سألت كل من أعرفه. أخبرني بعضهم أن الإخوة فقدوا أمهم وأباهم معا في يوم واحد. ثم أخبرني أحدهم أنهم فقدوا أخا رابعا كان يشاركهم اللعب في الريف قبل النكبة. وأخبرني ثالث أنهم تزوجوا جميعا وطلقوا زوجاتهم لأنهن لم ينجبن أبناء كالنساء. وأخبرني رابع أن الثلاثة كانوا فدائيين في الغور، وأنهم كثيرا ما عبروا النهر إلى الضفة الغربية، وشاركوا في عمليات عسكرية، وجرح اثنان منهم، وقتل الرابع في إحدى العمليات، أو فقد، ولم يعثروا عليه.
فوجئ الشارع بالمحل مغلقا ذات صباح. وفوجئ الناس بالموت، ولكن أحدا لم تأخذه الدهشة لموت الإخوة الثلاثة معا في الليلة السابقة.
وفي اليوم التالي، فوجئت بهم يكررون الخطوات ذاتها.. المطعم والطعام ودار السينما، رغم أن الفيلم لم يتغير.
كانت محلات الخضار صاخبة في محتوياتها المتنوعة وفي ألوانها، وفي الأصوات المنبعثة منها، إلا ذاك المحل الذي يديره الإخوة الثلاثة. فكرت في سبب اكتفائهم بصنف واحد، ولم أجد تفسيرا منطقيا أو مقبولا، ما جعلني يوما أوشك أن أسألهم، لكني خشيت العواقب في حال غريبة، وأبطال غرباء.
لم يكن ثمة ما يوحي بخلافات بينهم، بل يمكن القول إنهم كانوا منسجمين تماما، طالما كانوا يتبعون آلية واحدة في المحل وفي الشارع والمطعم والسينما. وقد حاولت أن أتخيل حياتهم في المنزل، واحترت في معرفة ما إذا كان الثلاثة متزوجين، أو أحد منهم على الأقل. وفوجئت بخيالي يذهب بعيدا، ويوغل في غرائبية شرسة.
أخبرت أمي وإخوتي عنهم، ففوجئت بهم جميعا يعرفون كل شيء. ولكني لم أعثر على إجابة واحدة عن الأسئلة التي تلوب في داخلي. لكن أمي قالت كلمة بدت عابرة: (أوادم). وهو ما حرك في أعماقي أسئلة أخرى أكثر سخونة. فكيف تعرف أمي أنهم أوادم؟ من أخبرها؟ هل كانت تعرفهم؟ من أين؟ ومتى؟
اختليت بأمي وسألتها مباشرة: من قال لك إن بائعي الخضار الثلاثة أوادم؟
ارتبكت، ولكنها أخفت ارتباكها سريعا، وقالت ببساطة: هذا ما يبدو عليهم.
لم تكن الإجابة مقنعة. فأنا لم أتمكن من تحديد سماتهم الأخلاقية بالمراقبة والمتابعة، فكيف لأمي أن تعرف؟
كنا في بداية العطلة الصيفية، وكانت أمي تلح علينا نحن أبناؤها الثلاثة، كي نجد عملا يساعد العائلة. وحين فكرت في سؤال الإخوة الثلاثة في محل الخضار، حاولت أن أتخيل يوما صيفيا طويلا بينهم، وقدّرت أنه سيكون قاسيا. ولكن فضولي اللاهث، جعلني في النهاية أقدم على تلك المحاولة. وفوجئت بموافقتهم السريعة، كأنهم كانوا في انتظاري.
كانوا يتحدثون بأصوات خافتة. وكان كلامهم مقتضبا، قصيرا، وسريعا، يشبه الأوامر العسكرية القاطعة. ولم يكن ثمة نقاش أو حوار أو تباين في أي رأي، وكأنهم اتفقوا في الليلة الماضية على التفاصيل، كما يحدث في العمليات العسكرية، وعمليات السطو والقتل. ولم أدرك أيهم الأكبر والأوسط والأصغر. كان أي اثنين منهم ينفذان مطلب الثالث، وكانوا متشابهين جدا في كل شيء، إلى الحد الذي يتيح مساحة عريضة للخطأ في تمييزهم.
كنت متوجسا جدا، كأنني في كهف في حكايات الجن أو الجزر البعيدة والموحشة. كانوا يتحركون كدمى معلقة بخيوط غير مرئية، يتحكم في توجيهها شخص خفي.
عندما انتهوا من بضاعتهم، أغلقوا المحل، وساروا بضع خطوات نحو المطعم القريب، ويبدو أنهم كانوا يعتقدون بوجوب مرافقتي لهم من دون دعوة أو إشارة، وحين اقتربوا أدركوا أنني ما زلت واقفا أمام المحل، فرفع أحدهم يده وأشار إلي بالمجيء. لحقت بهم، وجلست إلى طاولتهم. لم يأت أحد. مر وقت طويل، ثم فوجئت بشاب يحمل صينية يتصاعد منها البخار، ويضعها على الطاولة. كانت الرائحة شهية حد قدرتها على القتل. تناولوا الخبز، وأخذوا في التهام الطعام المكون من اللحم المهروس، والبطاطا المحمّرة، مع بعض البصل الأخضر والفلفل الحار. أكلت قليلا، وعيناي تحاولان التقاط شيء ما. انتهوا واتجهوا إلى دار السينما ذاتها. التفت أحدهم خلفه وأشار إلي، فأدرت وجهي وقصدت البيت.
لم أعد للعمل في اليوم التالي. وحين مررت بهم، ألقيت التحية، فرد أحدهم بيده، وأشار إليّ بالاقتراب. أعطاني ثلاثين قرشا وقال في صوت خافت: مع السلامة.
سألت كل من أعرفه. أخبرني بعضهم أن الإخوة فقدوا أمهم وأباهم معا في يوم واحد. ثم أخبرني أحدهم أنهم فقدوا أخا رابعا كان يشاركهم اللعب في الريف قبل النكبة. وأخبرني ثالث أنهم تزوجوا جميعا وطلقوا زوجاتهم لأنهن لم ينجبن أبناء كالنساء. وأخبرني رابع أن الثلاثة كانوا فدائيين في الغور، وأنهم كثيرا ما عبروا النهر إلى الضفة الغربية، وشاركوا في عمليات عسكرية، وجرح اثنان منهم، وقتل الرابع في إحدى العمليات، أو فقد، ولم يعثروا عليه.
فوجئ الشارع بالمحل مغلقا ذات صباح. وفوجئ الناس بالموت، ولكن أحدا لم تأخذه الدهشة لموت الإخوة الثلاثة معا في الليلة السابقة.