أنفاسهو شهر شباط . الوقت ضحى. السماء داكنة وشاحبة، كسحنة جندي ذاهب إلى ساحة الحرب واثق من هزيمته. الضحى والقهوة يتعانقان، شربت قهوة الضحى، فاكتملت اليقظة في رأسي المثقل ببقايا نوم طال به الليل، وانسلت الصحوة إلى جسدي تنبهه متهادية بوقار جليل. إلى النافذة امتد كفي وفتحتها إلى النصف، اتكأت على حافتها الرفيعة، رنوت إلى حافة الأفق، ثم سحبت نظراتي واعدتها بسرعة إلى أسفل النافذة، إلى مساحة صغيرة متربة ثبت نظري فرأيت قط وقطة .. بحلقت إلى قط  اسود متسخ وملطخ بالطين، شكله يوحي أنه أجرب .. وقطة بيضاء نظيفة يلهو الهواء بشعرها الناعم الطويل الناصع الجميل. استلقت القطة بجسدها إلى الأرض وبالأرض التصق ظهرها. مدّت أطرافها الأمامية والخلفية على آخرها. تمطت .. برفق أخذت تتقلب بجسدها المرخي وبهدوء تتلوى، جسدها لين كأنه بلا عظام. ماءت برغبة عارمة للمواء الناعم الهادئ، استمرت تموء بإغراء، غنجت ، فارت، تثنت، ارتخت .. اقترب منها القط نافشا جسمه وشعره .. ضربته برقة ببطن ساقها الأمامي متمنعة، فقفز مبتعدا إلى الوراء قفزة واسعة. اعتدلت القطة ثانية، تبادلا النظرات، تشابكت النظرات متلاحمة في دائرة أخذت تضيق وتصغر في المسافة القليلة الكائنة بين جسديهما. ماء .. ماءت .. مواؤهما اقرب إلى الغرغرة .. أعادت ظهرها إلى الأرض وتمطت .. ماءت، تلوّت، توهجت .. اقترب منها  بحذر مقوّسا جسده المتسخ .. سكتت، ولنداء غريزتها استسلمت .. وقع عليها .. غاص في غريزته، ارتعش، انتعش، انتفض .. مدد جسده إلى جانبها مزهوا. أقعى، صار يغمض عينيه ويفتحهما مطمئنا كأنه يحمد الله ويشكره .. في عينيه بريق سعادة، ووهج نشوة حافلة بالرضا.

أنفاسانتهزت فريدة فرصة غياب والدتها التي كانت تمنعها لقائي,فأرسلت الصغيرة ذات الشريط الأحمر الذي يخنق ضفيرتها الكثة " نلتقي "كلمة واحدة خطت على عجل بقلم رصاص غير مبري بعناية.
سبقتها كعادتي,حجزت نفس المكان ,تحت نفس شجرة الخروب العملاقة واليتيمة وسط غابة نخيل...تصفحت الجريدة التي لم تبخل عنى بمداد لطخ كل شئ,والتي تحولت الى عصا أهش بها  حشرات تجرأت التحرش بي...
رفعت بصري, رأيتها آتية من الجهة الشرقية,تتقدم بخفة وسط ممر ظلله تعانق أشجار الاكلبتوس .خلفها حيث تنعكس أشعة الزوال, سور شامخ يحكي ذاكرة الذين مضوا مند مئات السنين ويحمل خربشات الذين مروا والذين لن يتذكرهم أحد بمجرد طلاء جيري خفيف.
 كانت كأنها تخرج من عبق هذا السور الشامخ أو كأنها لوحة من حياة أندلسية...
سرى نسيم حرك أوراق الشجرة,ظننت انها فتحت مسامها لتسترق السمع,جلسنا وحلمنا ببيت... وقبل لا يخالطها الوجل... وبأبناء ...
كنت ارقب ساعتي بين الفينة والأخرى,لم تقو على إخفاء تضايقها " وراءك شغل؟" أجبت" نعم" وأردفت " اجتماع مهم" .
تعميم استفز خجلها" ما الذي يستطيع أن يلهيك عني ,غير امرأة ثانية؟"

أنفاس[إلى روح نجمة الأرز الضائعة والفراشة غامضة الزهر
ايريس نهري ]

هذا كلامٌ عفويٌّ ليس سدادَ دينٍ ولا ردَّ جميلْ , كلامٌ عفويٌ لا غير , لطهر وسحر روحٍ ذوت في أوجِ الحياة وعنفوانها وأينعت في حدائقِ القلب ,
كلامٌ ينبعُ من مكانٍ خفيٍّ قصيٍّ هناكَ في أعلى الروحِ وأسفلها ولا يجفُّ ماؤهُ أبداً , ولا أريدُ له أن يجفَّ .

(1)

شعلةٌ من دمٍ , ومضةٌ في أعالي الشعورِ , ضحى شاعريٌّ , وليلٌ بطيءُ الهمومِ , إحتراقُ رؤىً تتسللُ من خللِ القلبِ ........
وحدي أنا وجميعُ البراكينِ بعدي هنا سوفَ تأتي كما قالَ ألبرتُ
في الأمسِ , واليومَ صمتكِ هذا المجللُّ بالغارِ , طهركِ , سحركِ
عيناكِ , رؤياكِ , مثلي الذي لا يُقالُ تقولْ

أنفاسقلتُ: بسم الله.. الرحمن الرحيم.. ثم قدمت رجلي اليمنى.. تماما كما يجبُ..
لفحني تيار هواء بارد، تغلغل إلى مسامي كلها. أغمضت عيني.. لوهلة فقط. فتحتهما لأرى..
لا أذكر ما الذي أتى بي إلى هنا.. حاولت أن أتذكر، دون جدوى.. أي اسم أحمله، أي تاريخ أمتلكه، ما الدافع للحظة العبور هاته؟
تخلت عني الذاكرة.. حاولت أن أفكر بعقلانية، هل لخطوتي هذه أهمية، هل ستخلدني. ربما تطهرني من ذنوبي.. أو أنها تكون خطيئتي الأكبر؟
لم يسعفني ذراعي المتهاوي لأرسل تحية لطائر اعترض مساري.. قاومت انجرافي، ورسمت له في مخيلتي مكانا في الفردوس..
تذكرت.. لوحاتي على الرصيف .. ابتسامة دون وجه، جدولا بدون ماء..
قال لي متعهد ما:
أرسم لوحات الفنتازيا والفلكلور.. نساء تقليديات ووجوها ملفوحة بالشمس.. هذا ما يطلبه السياح..
لكن الريشة كانت تأبى أن تطاوع جوعي.. مذ أصابتني باللعنة وأنا أعيش على الهامش.. كل ذنبي أني أردت تخليد الوجوه الكئيبة لسكان المدينة على أسوارها.
والدي الفقيه الذي يصلي بالناس، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، استنكر تعلقي بالألوان.. وأعلن رسوماتي حراما ورذيلة..

أنفاسيا لسعادتي!!! , فلأول مرة ونحن في زمن الموت ,اكتشفت وعن طريق الصدفة أني مت, وشبعت موتا!!!ا
ياه!!! أين كنت؟ ولما لم أكتشف هذا من قبل ؟علي ان أدفن نفسي وعلي أن أحضر جنازة نفسي وأبكي نفسي وأقيم قداسا جنائزيا رهيبا لنفسي ؟, بل ويكون لي قبر أزوره وأشعل حوله شموعا وأنثر على جنباته وردا , لماذا لم أكتشف هذا ؟ لأحضر حفل تأبيني ؟ وألقي خطابا حزينا على شعب الميت أنا وأرثي نفسي وأقول أنظر الى هذا الميت , انه مشهور بموته ولا نظير لموته !! كان ميتا ومن أفضل الموتى! عاش طوال زمن موته ميتا! مميزا بعظمة موته! , ومميزا بجميل موته! وتضلعه في الموت! , كان مخضرما في الموت , ملتزما بالموت!!!؟
لماذا لم أكتشف هذا ؟ لعل هؤلاء الموتى العابرين يلتفتون الى قبري ويقفون ليقرؤوا شاهده وهو يتحدث عني أنا الميت "هذا قبر الميت أنا"؟
دعني اذن أتلذذ بالموت وأكتشف ما داخل الموت أنا , عتمة وريح ومصباح علاه الغبار وحجرات تبعث الفزع ,ونوافذ مهشمة وأبواب خرت ساقطات قالعة آجور حيطانها ...
يا لهذ الموت؟!! قبور ومقبرة وميت؟
ياه! ياأنا المقبرة والقبر والميت ؟ هاته لغة ميتافيزيقية أخشى أن تنجب ايديولوجيا لبعث شعب الموت وتبرير الموت واثارة شهوة الموت,وتحرير الموتى لإعادة انتاج الموت ,ولجعلهم سعداء بالموت ؟ هاته ميتافيزيقيا تبرر السطو على عقول الموتى من اجل من أن يموتوا!.

أنفاساندفع إلى قلب الطريق مادا يده إمامه كالحاجز يحتويه معطف أسود ، ينسدل حتى أسفل ركبتيه ،  كان ضخمة الجثة فرزدق في هيئة دب يريد أن يقتحم المدينة.
اضطررت أن أدوس على المكبح كي لا أصدمه ، اقترب برأسه من نافذة السيارة بينما كانت يده قد أمسكت بمقبض الباب وفتحته ، حي بأدب فيه غلظة طبيعية صباح الخير يا "الشيخ" خذنا معك إلى المدينة نحن مستعجلان، كان صاحبه دونه في ضخامة الجثة ، وفي الاندفاع ؛و دونه في الثقة بنفسه وعليه كان يتبعه ويأتمر بأوامره.
قلت له : اصعد.
 صعد ، ومكن لنفسه بجانبي بحركة محورية فوق المقعد. وكان صاحبه قد اقتدى به في المقعد الخلفي ، وراح يسألني عن الصحة ، والأهل والأولاد ، وكأن بيننا معرفة قديمة مترسخة الجذور وتمتد في نشأتها  إلى أجدادنا.
قلت : الحمد لله ، وأحوالكما أنتما كيف هي؟.
قال نحن متخاصمان ، ولهذا الغرض أردت الصعود معك ،سمعت أنك تصلح بين الناس ، وأنك ذو حكمة ولهذا السبب مر عشرات من أصحاب السيارات ، ولكنني  اخترتك لأني أتوسم فيك الخير ، واطمع في أن تساعدني في إفهام هذا الجحش- ودار في جلسته إلى الخلف وهو يشير إلى صاحبه- حقيقة ومعنى ما أقوله له.

أنفاسوأخيراً أدركت آغنيس هيغنر إدراكاً قاطعاً وواضحاً لدرجة كبيرة سبب ذلك التعبير المبتهج والغائب الذهن المرتسم على محيا زوجها هارولد عند تناوله عصير البرتقال والبيض المخفوق في الصباح.‏
"حسناً", تنشقت آغنيس وهي تفرش مربى الخوخ الأرجواني الداكن على قطعة التوست بضربات حقودة من سكين الزبدة. "بماذا حلمت الليلة الماضية؟".‏
"كنت أتذكر لتوي", قال هارولد, وهو ما يزال يحدق بنظرة ضبابية شديدة السعادة عبر شكل زوجته الحقيقي والجذاب جداً (متوردة الخدين وشقراء كالزغب كما هي دائماً في ذلك الصباح المبكر من شهر أيلول سبتمبر, وهي مرتدية البنوار الفضفاض المزين برسومات غصينات ورد), "تلك المخطوطات كنت أناقشها مع وليام بليك".‏
"لكن", اعترضت آغنيس, محاولة بصعوبة إخفاء غيظها, "كيف عرفت بأنه كان وليام بليك؟" بدا هارولد مندهشاً. "لماذا, من الصور, طبعاً".‏
وماذا يمكن لآغنيس أن تقول حول ذلك؟ استكانت محترقة بصمت مع قهوتها, وهي تصارع الغيرة الغريبة التي بدأت تعشعش فيها مثل سرطان مظلم خبيث منذ ليلة زفافهما أي قبل ثلاثة أشهر فقط, عندما اكتشفت أحلام هارولد في تلك الليلة الأولى من شهر عسلهما, في الساعات القليلة الأولى من الصباح, أجفل هارولد آغنيس من نوم عميق لا حلم فيه بحركة عنيفة متشجنة بأكمل ذراعه اليمنى لبرهة فزعت آغنيس فهزت هارولد وأيقظته لتسأله بنبرات أمومية حانية عن الأمر, إذ اعتقدت بأنه كان يصارع صراعاً عنيفاً في كابوس. ليس هارولد. "كنت أهم بعزف "كونشيرتو الإمبراطور", أوضح لها بنعاس. "لابد أنني كنت أرفع ذراعي للوتر الأول عندما أيقظتني".‏

أنفاسيلج المدرج قبلنا جميعا,عادة دأب عليها منذ أن عين أستاذا للشعر الجاهلي...
كنت وفريدة ,ظلي متى كانت السماء عارية وصافية,نركن الى جدع نخلة نمت
بشكل مثير...امتدت افقيا لبضعة أمتار تكاد تلامس الأرض ثم انتنت ناهضة,مشرئبة تزينها قلائد بلح علاها الاصفرار...نسترق النظر...يعدل وضعية الميكروفون,ينفخ فيه نفخا خفيفا,يبعده قليلا ثم يدفن رأسه في عتمة الكلمات...
يرفع عينين سكنهما الحزن,رغم مرحه الظاهر,ينطلق صوته الجهوري كعادته يطلعنا عما بين يديه...
كان كل حرف يخرج من فيه مشبعا بمساحته الصوتية,يقرأ بتأن فهرس الجديد
الذي يصاحبه,والذي ان لم يكن "الكرمل" ف "عيون المقالات" والا فأحدث الدراسات عن الشعر...
يبدو صلبا ,يعاند الزمن بقامة حادة.شعيرات طويلة يثبتها بكفه الناعمة بحركة من منبتها الى مستقر لها فتغذو خطوطا افقية رفيعة تخفي صلعا...استدارة الوجه نقطتها شامة ناتئة سوداء...قميصه القصير الاردان كشف عن ساعدين غطاهما شعر كثيف...
هذا الصباح,لم ترتد السماء عريها الازرق,فغاب ظلي وسط عتمة داكنة...
هذا الصباح,لم يدخل المدرج كما عهد...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة