إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان "غريزة الموت التي تعبر عن محاولة المرء العودة إلى حالة ما قبل الكينونــة، وهي حالة الكينونة بلا آخــر l'autre أي حالة اللاموضوع". ولربما عبر الانتحار عن عمق هذا الشعور باعتباره فعلا موجها من المنتحر إلى الآخر عقابا له أو تنبيها له عن خطأ كبير ارتكبه في حقه. وقد يكون الانتحار فرارا من ألم ما فيصبح الموت ملاذا ومأوى.
1- الموت والأسطورة:
تزود الأسطورة الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه إحساسا بوجود مبرر لحياته. وبدون هذه الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة أشبه بالموت، لأن نسيان الماضي هو نوع من أنواع لموت. فالموت نسيان، والموتى الهابـــطون إلى العالم الأسفل، في الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع الـنـسيان لكي يقضوا حياة الآخرة بدون ذاكرة، أي بدون تاريخ. لذلك فإن الإنـسان الذي وجد نفسه في مواجهة الموت ابـتكر نسقا أسطوريا ااعتمادا على ملكاته الوجدانية والعـقلية واللاشعورية، من أجل مواجـهة كل الاحتمالات، فكان أن عالج مجهولية المصير الذي ينتظره بطرح معلوم يمكن من بسط الحقيقة الكونية على نســيج رمزي قادر على الإقناع. وهكذا دأب على التبشير بالخلود المطلق بالرغم من حتمية تعرض الجسد للتحلل ومن ثم إلى الفناء؛ ولهذا وجد نـفسه مدفوعا لإبداع أساطير لها شكل السرد القصـصي، وتصـاغ في غالب الأحيان في قالب شعري. كما أن لها خصيصة الثبات وطاقة الإيحاء المستمرة، لكنها معرضة للإلغاء أو التعديل كلما كانت هناك حاجة إلى خلق أساطير جديدة، أبطالـها هم الآلـهة، ومعنى ذلك أن وجود الإنسان فيها يكون لغرض تكـميلي فقـــط، كما أن زمـنها زمن مقدس، هو غير الزمن الحالي. وتتــميز موضوعـاتها بالجدية والشمول".
هذا الشكل السردي المـقدس ساهم في تكييف المشاعر الإنسانية مع فزعها، وأقر نظاما رمزيا قادرا على إحلال الطمأنينة بإمـكانية الانبعاث من جديد، مكان الشعور بالخوف من الفناء الأبدي، فحسب جيمس فرايزر "إنه في أعياد أدونيس التي كانت تقام في آسيا الصغرى، والبلاد الإغريقية، كان الناس يندبون موت ما يعتقدون أنه الإله كل سنة، وينوحون عليه نواحا مؤلما، ولا سيما النساء. كانوا يحملون تماثيله، في شكل جثمان ميت، ويشيعونها للدفن، ثم يلقون بها في البحر أو الأنهر. وفي بعض الأماكن يحتفلون ببعثه في اليوم التالي".
ارتكاسات نقد العقل..قراءة في مسارات النظرية النقدية - عبد الله موسى
يبدو اليوم للكثيرين أن النظرية النقدية قد تم تجاوزها. لكن مهما بلغ شك الباحثين والدارسين في جدوى رؤى المدرسة، ونظرياتها في المعرفة، واختلافات أعلامها، فإن في بعض كتاباتها وتوجهاتها ما يمكن الإفادة منه، وما المحاولات المستمرة للتجديد والنقد والتصحيح داخل المدرسة، إلا دليلا على مساعي رجالاتها المستمرة للوصول إلى معرفة أكثر دقة، كما أنها دليل على ذلك التوتر بين النظرية والواقع.
لقد حصلت "مدرسة فرانكفورت لعلم الاجتماع الألماني" على طابعها المؤسسي عبر تأسيس "معهد البحوث الاجتماعية" في عشرينات القرن العشرين، ذلك المعهد الذي وضع ضمن جامعة فرانكفورت. وجاء تأسيس المعهد عبر هبة وقفية، جعلت من شخصيات من مثل تيودور أدورنو (1903-1969)، وماكس هوركهايمر (1895-1973)، أبرز العاملين بالمعهد منذ تأسيسه، علما على العالم الفكري والسياسي لجمهورية فايمار ولما بعدها حتى الفترة المعاصرة. وفي عام 1930 صار ماكس هوركهايمر مديرا للمعهد، ومحورا لتلك الدائرة من الباحثين، الذين وجدوا في النظرية الماركسية المرشد الأهدى لفهم ظروف العصر المحيطة بهم. وقد أخذ أتباع النظرية النقدية على عاتقهم مسألة قراءة التاريخ الفكري الألماني من جديد من مثل رؤى نيتشه وشوبنهاور، في ضوء المادية التاريخية. وفي عام 1937 نشر هوركهايمر مقالته الشهيرة بعنوان "الرؤية التقليدية والنظرية النقدية" فصارت من جهة دليلا نظريا لمدرسة فرانكفورت وتوجهاتها الجديدة، ومن جهة ثانية مصطلحا لإخفاء الأساس الماركسي للمدرسة (نقدي بدلا من ماركسي)، وكانت مجلة المعهد المسماة: مجلة البحوث الاجتماعية مجالا لنشر أهم بحوث العاملين في السنوات اللاحقة على تأسيس المعهد، رغم الاختلافات النظرية بين أعضائها الناجمة عن النتائج المتمايزة للبحوث والاهتمامات من جهة، ولاختلاف الأمزجة الفردية من جهة ثانية.
ومع وصول النازيين للسلطة عام 1933 بدأ عهد التشرد بالنسبة للعاملين والدارسين في معهد فرانكفورت، اتجاه فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.. حيث تابعوا عملهم في تطوير "النظرية النقدية". وفي عامي 1949 و1950 عاد إلى ألمانيا الاتحادية كل من أدورنو، وهوركهايمر وبولوك. وانضم إليهم لاحقا في أواخر الخمسينات يورغن هابرماس وجان بياجيه اللذين أسهما إلى حد بعيد في بلورة الطابع الخاص للمدرسة، والتعريف بها، وبالاتجاهات النقدية الممثلة في علم الاجتماع بفرانكفورت.
إمكانية بداية ثانية للفلسفة - عبد المنعم البري

لم تكن البداية الأولى للفلسفة مع طاليس Thalès (حوالي 625 ق.م.-547 ق.م) يقينا أقر به جميع مؤرخي الفلسفة؛ بل ظلت مجرد فرضية تاريخية انجذب إليها أغلب المؤرخين؛ وظل يتشكك في صحتها الآخرون. وكما تواضعت جماعة من المؤرخين على صياغة فرضية تاريخية للبداية الأولى للفلسفة، اجتهد جان باتوكا Jan Patocka في تصور إمكانية لبداية ثانية لها. وغرابة هذا التصور تكمن في كونه يقترح هذه البداية الثانية مع مشروع فيلسوف بات مشدود الوصال إلى الموطن الذي احتضن البداية الأولى: اليونان. فصاحب ذلك المشروع وإن كان ينفصل، زمانيا، عن البداية الأولى بما ينيف عن ستة وعشرين قرنا؛ فإنه يتصل، جغرافيا، بنفس القارة التي كانت مسرحا لها؛ وفلسفيا، بينابيع البدايات الفلسفية اليونانية الأولى. وهذا الفيلسوف هو مارتن هايدغر Martin Heidegger (1889-1976) صاحب كتاب الوجود والزمان.
وجان باتوكا فيلسوف تشيكي ولد سنة 1907. ويعتبر من بين تلامذة كل من إدموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938) ومارتن هايدغر، الذين تابع محاضراتهما الفلسفية في الجامعة. وقد اهتم بالفلسفة اليونانية، وخصوصا بفلسفة أرسطو Aristote (384 ق.م-322 ق.م). كما درس تراث مفكري بلده بوهيميا Bohéme. وقد حافظ طوال حياته على وفائه المزدوج للميتافيزيقا بصفتها موردا قديما، وباعتبارها، في الوقت الراهن، مصدرا للتساؤل؛ وللفينومينولوجيا بصفتها منهجا للقطع مع الحس المشترك ولتجذير الأسئلة وإضاءة السياقات. وتوفي يوم 13 مارس من سنة 1977 بعد خضوعه لسلسلة من الاستنطاقات البوليسية المرهقة. فقد كان، في ظل نظام الضبط التشيكوسلوفاكي، ناطقا بلسان بيان ميثاق 77 من أجل الحريات وحقوق المواطنة.
وقصد تتبع وجهة نظر هذا الفيلسوف من إمكانية نهاية الفلسفة، سنعمل على قراءة محاضرة ألقاها عدة مرات خلال سنة 1974 حول سؤال ينصب عما إذا بقي للفلسفة شيئ ما تقوله لنا في ظل الوضعية الراهنة للعالم؛ و"وسط الضعف العام والامتثال للانحدار". وقد نشرت هذه المحاضرة كجزء من ملحق كتاب جان باتوكا: أفلاطون وأوروبا؛ تحت عنوان: "هل نهاية الفلسفة ممكنة؟".
إن الحديث عن نهاية الفلسفة يرتبط بالإقرار بأزمتها. ونحن، اليوم، نحكم على الفلسفة بالأزمة؛ لأننا نلاحظ نقصا في الجدة التي عرفت بها، وتراجعا في قيمتها وفعاليتها الاجتماعيتين اللتين عهدناهما فيها، خاصة مع الفلسفة الهيللينية. وعلى العموم، فمفهوم الأزمة، هنا، يكتسب معناه من خلال المقارنة بين فلسفة اليوم وفلسفة الأمس. ومن خلال هذه المقارنة يتأكد الجميع من لا جدوى الفلسفة الراهنة التي، عوض انصرافها إلى البحث عن الأفكار الجديدة، نجدها تجادل ضد الفلسفة بما هي فلسفة، وتمارس شكا ذاتيا على نفسها.
المقاهي الفلسفية ـــ أوسكار برونوفييه ـ ت.عدنان محمد

لمحة تاريخية عن المقاهي الفلسفية:
يبقى المظهر الأكثر إدهاشاً في هذه الظاهرة عفويتها. وقد استندت في نشأتها وتطورها إلى المصادفة والاستقلال أكثر من استنادها إلى أي قرار مدبر أو منظم. لابد هنا من التنبيه إلى دور وسائل الإعلام؛ إذ إنها أسهمت بكل تأكيد في إحداث موضة. في عام 1992، روى مارك سوتيه Marc Sautet، وهو أستاذ في فلسفة العلوم السياسية، في مقابلة إذاعية، ومن باب الدعابة، أنه يلتقي مع بعض الأصدقاء صباح كل يوم أحد في أحد المقاهي، في ساحة الباستيل في باريس، لكي يتفلسفوا. وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى يوم الأحد التالي عدداً كبيراً من الأشخاص يقصدون ذلك المكان لكي يشاركوا في تلك النقاشات اللاشكلية. وبما أن العدد أخذ يتزايد أسبوعاً بعد أسبوع. فقد صار من الضروري إيجاد بعض قواعد العمل لئلا تغدو تلك التجمعات مجرد هذرٍ فارغ.
وهكذا ولد المقهى الفلسفي. وبدءاً من عام 1995، رأت النور في باريس تجربتان أو ثلاث، وقد حفزتها مبادرات شخصية منقولة نوعاً ما عن التجربة الأولى. وفي ذلك الحين اهتمت الصحافة بالموضوع؛ الأمر الذي أثار أولاً بأول عدة محاولات عفوية حتى وصلنا إلى الوضع الحالي .
ويرتكز مبدأ إحداث المقاهي الفلسفية بصورة عامة على مبادرة شخص، إما لأنه شارك سابقاً في هذا النشاط في أثناء مروره بباريس أو بمكان آخر ولا يوجد شيء مشابه لذلك في منطقته، أو ببساطة لأنه يشعر برغبة في أن يقوم بذلك من نفسه، أو أيضاً لأنه سمع بذلك في الصحف أو على التلفزيون، وقرر أن يجرب حظه. معظم مدبري هذه النقاشات ومديريها هم أشخاص يشعرون بأنهم يمتلكون في آنٍ واحد هوية فكرية وميلاً اجتماعياً معيناً. كما أن بعض المبادرات الأكثر تنظيماً، والقائمة بصورة خاصة في المدن أو البلدات المتوسطة أو الصغيرة، قد عمدت إلى تنظيم هذا النشاط، وذلك باعتماد مدير له يقوم بتحكيم النقاش، وهو بصورة عامة مدرس فلسفة.
ديكارتيون بدون ديكارتية - محمد سبيلا

ولعل ما يسر حسن استقبال ديكارت في بيئة ثقافية لم تخل يوما من حذر وتوجس من الفلسفة، على الرغم من المناخ النهضوي العام في مصر، ومن الصورة المشرقة التي تشكلت عن ديكارت، هو معرفة الكتاب والنخبة الثقافية العربية بآراء ديكارت في البرهنة على وجود الله، إذ يشير الدكتور عثمان أمين إلى أن الشيخ محمد عبده كان قد أشار إليها واعتمد عليها في السنوات الأولى من هذا القرن.
يرجع ظهور اسم ديكارت في الصحافة العربية إلى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر في كل من مصر والشام. فقد نشرت مجلة "الهلال" في مصر، في أوائل كانون الثاني (يناير) 1897 جوابا على سؤال لأحد قرائها، يسأل فيه عمن هم الكارتازيون وفي أي عصر كانوا ومن هو المؤسس الحقيقي لمذهبهم، وعلى أي أساس بني مذهبهم، تقول فيه المجلة إن الكرتازينيين أو الكارتازيين هم أتباع فلسفة ريناتوس كارتاسوس وهو فيلسوف فرنسوي يعرف باسم ديكارت. ثم تواصل المجلة عرض بعض أفكار ديكارت، أما الكتب العربية الأولى التي بزغ فيها اسم ديكارت وتحدثت عن فلسفته فتعود بدورها إلى السنوات الأخيرة من القرن الماضي فنذكر من بينها كتاب الفلسفة للقس بوتيير الذي ترجمه جرجس صعب سنة 1883 ببيروت، وكتاب "الفلسفة" للأب جرجس فرح الصغير سنة 1893 بالاسكندرية، وكتاب "الفلسفة الحديثة" لأنيس أفندي الخوري سنة 1914 بالاسكندرية وكتاب "مبادئ الفلسفة" بالاسكندرية لزكريا أحمد رشدي، وكتاب "تاريخ الفلسفة منذ أقدم عصورها إلى الآن" المطبوع بالقاهرة لصاحبه حنا أسعد فهمي، في هذه الفترة تقريبا.
قراءات نيتشه وأبعادها النظرية - محمد المزوغي

عدم تمكّن نيتشه من الفلسفة يظهر بوضوح من خلال كتاباته التي تشكو النقص في التوثيق وغياب الإستشهاد بالمراجع والتسرّع في الأحكام والنثر المشبّع خطابة وشعريّة. ولكن الأكثر خطورة هو أن نيتشه أخلّ حتى بالعلم الذي اختص فيه أي الفيلولوجيا: فعلا، كتاب نشأة التراجيديا " Die Geburt der Tragödie" هو كتاب فيلولوجي حالم ومتوهّم. لقد خرق بذاك العمل، وهو رجل متخصّص، يدرس ذاك العلم في مؤسسة جامعية عريقة، كل المعايير والمناهج التي انبنت عليها الفيلولوجيا.
شنّ حربا شعواء على أعلام الفلسفة اليونانية الكلاسيكية وبالأخص منهم سقراط واتهمه بقتل التراجيديا هو والكاتب المسرحي يوربيدس الذي استمدّ، حسب زعمه، تعاليمه من سقراط وأدخل العقل والمنطق في أعماله المسرحية. وهي حملة بدأها قبل صدور نشأة التراجيديا في مجموعة من المحاضرات ألقاها في فترة لا تبعد كثيرا عن فترة صدور كتابه نشأة التراجيديا. هذا علاوة على أقوال مربكة وأفكار ناشزة وتُهَم خطيرة، رُكّبت على كَاهل رِجَال مِن العالم اليوناني وعلى فيلولوجيين معاصرين له وسابقين عليه. وهي أقوال ينقصها التوثيق وغير مدعّمة بشواهد تاريخية دقيقة كما هو معمول به في أي مبحث علمي يستحق هذه التسمية.
كتابان اثنان كانا لهما أثر كبير ومحدِّد في حياته الفكرية :
موجات الحداثة الثلاث-ليو ستــروس- ترجمة:مشروحي الذهبي

تتجلى أزمة الحداثة أو تكمن في واقع كون الإنسان الغربي الحديث لم يعد يفهم ما يريد ولم يعد يعتقد أن بإمكانه أن يعرف ما هو خير وما هو شر، ما هو صحيح وما هو خاطئ. وإلى بضعة أجيال خلت كان من المسلم به عادة أن بإمكان الإنسان أن يعرف ما هو صحيح وما هو خاطئ، ويعرف النظام الاجتماعي العادل أو الحسن أو الأحسن. وباختصـار يعرف أن الفلسفة السياسية ممكنة بل وضرورية. هذا الاعتقـاد فقد نفوذه في زماننا. ووفقا لرأي سائد فإن الفلسفة السياسية مستحيلة : لأنـها كانت حلما، قد يكون حلما رفيعا، لكنه يبقى حلما على أية حال. وفي الوقت الذي يوجد فيه اتفاق واسع حول هذه النقطة فقد اختلفت الآراء حول سبب قيام الفلسفة السياسية على خطأ أساسي. وفقا لرأي واسع الانتشار فكل المعارف التي تستحق اسم معارف هي معارف علمية. لكن المعارف العلمية لا تبرهن على أحكام القيمة بل تقتصر على الأحكام الواقعية. بيد أن الفلسفة السياسية تفترض مسبقا بأنه يمكن البرهنـة عقلانيا على أحكام القيمة. ووفقا لرأي آخر أقل انتشارا لكن أكثر دقة، فإن التفرقة السائدة بين الوقائع والقيم لا يمكن الدفاع عنها: لأن مقولات المعرفة النظرية تنطوي بداهة وبهذه الطريقة أو تلك، على مبادئ التقييم. لكن مبادئ التقييم تلك، إلى جانب مقولات الفهم، فهي كلها متغيرة تاريخيا ومن عصر لآخر. ولهذا السبب يستحيل الجواب بطريقة معترف بـها كونيا عن مسألة الصحيح والخاطئ أو مسألة النظام الاجتماعي الأحسن، وبطريقة صالحة لكل الفترات التاريخية، كما تستوجب الفلسفة السياسية.
إن أزمة الحداثة، إذن، هي في المقام الأول أزمة الفلسفة السياسية الحديثة. يبدو هذا الأمر غريبا : لماذا يلزم أن تكون أزمة ثقافة ما، في المقام الأول، أزمة مبحث أكاديمي واحد من بين عدة ؟ لكن الفلسفة السياسية ليست أساسا مبحثا أكاديميا : لأن معظم فلاسفة السياسة العظام لم يكونـوا أساتذة جامعيين.
الحيوية : فلسفة تميز علوم الحياة - محمد هشام

يود هذا المقال أن يعرض بالتحليل لأحد مفاهيم فلسفة التفكير البيولوجي، وهو مفهوم الحيوية. فلسفة التفكير البيولوجي، أي المبدأ العام أو نظام المبادئ النظرية التي تؤطر وتوجه الممارسة العلمية للبيولوجيا في إنتاجها للمعرفة بظواهر الحياة. إلا أن الحيوية قد عرفت، في تاريخ الفكر البيولوجي، وضعا هامشيا اعتبرت فيه عموما على أنها لا تعدو أن تكون مجرد ميتافيزيقا (أي أوهاما فارغة) بالية عديمة الجدوى بإطلاق في فهم وتفسير الحياة. وإذا كان هذا الموقف الفلسفي، لأنه فلسفي بمعنى ما، قد شكل طويلا قناعة راسخة عند مؤرخي البيولوجيا، بل حتى عند البيولوجيين أنفسهم، فإنه قد تعرض اليوم لإعادة نظر جذرية، نقدية تقويمية، أزالت عنه المسبقات التي لحقت به، وكشفت عن مضامين الأوصاف التحقيرية التي ألصقت به؛ ومن ثم بيان فعاليته والأهمية القصوى لدوره في تاريخ علم الحياة وممارسته.
ولكن، لم يكن لهذا العمل النقدي التقويمي أن يكون ولا أن يتم إلا ضمن رؤية لتاريخ التفكير البيولوجي تقوم على النقيض المطلق من الرؤية التي جعلت من الحيوية بالذات مجرد خيالات لا غير. إنها رؤية التاريخ الإبستمولوجي للعلوم كما بلور مفهومه جورج كانغلهم. فالحيوية، من هذا المنظور، هي حقا وفعلا فلسفة المعرفة البيولوجية، ضد الغائية والإحيائية والآلية وكل اختزال للحياة إلى ما ليس من الحياة في شيء. لذلك سيعتمد هذا التحليل على ما نعتقد أن أعمال كانغلهم صيرته، بخصوص هذا الموضوع، متجاوزا وغير قابل للتفكير.
كانط ومسألة التعليم الفلسفي - مصطفى كاك

بقدر ما يدعو هذا الموقف إلى الضحك فإنه يدعو كذلك إلى الإشفاق على مثل هذه النفس ذات الإرادة الطيبة والتي ضلت طريقها بدون شك. لكن، وبالمثل، ألا يوجد أولئك الذين حفظوا تواريخ الفلسفة، أي أسماء المؤلفات وسنوات الميلاد والوفاة، هم كذلك على طريق الضلال؟ صحيح أن الوقائع التاريخية يجب معرفتها في الفلسفة وهي تدخل ضمن ما يثير الحماس والانفعال الفلسفي؛ لكن المشكل المطروح هنا لا يتعلق بمعرفة ما يمكن أن يخلق "حمى فلسفية"، بتعبير صوريو، ولكن بمعرفة ما إذا كانت الفلسفة تصلح موضوعا للتعلم؟ أي ما إذا كان يوجد في الفلسفة شيء ينشأ عن امتلاكه نوع من المتعة عندما يرتاح الفكر؟ وبالتالي هل للفيلسوف الحق في الاستنتاج أم أن كلمته الأخيرة ستكون هي: "ابحث، وإبحث دائما، لكن لا تعثر على شيء!"؟من المؤكد أن أفلاطون يعلمنا شيئا ما عندما يقول: إن العلاقات التي تجعل سيولة الظواهر معقولة، لا تقل بدورها واقعية عن تلك الظواهر ذاتها، كما أن تلك العلاقات تمنح نوعا من الثقة والراحة الفكرية بخصوص الصلابة التي تضفيها على صورتنا عن العالم. كما يعلمنا ليبنتز أن تطابق الفكرة التي لدينا مع البريق الصادر عن نجمة بعيدة أو مع المذابح التي ينفذها الإنسان في الإنسان، لا ينبغي أن يفهم كفعل راهن لأحدهما على الآخر، وإنما كانسجام أو توافق، وهو بذلك يعلمنا كيف ندخل في علاقة توافق هارموني مع أفكار أخرى، وحقب أخرى.
توسع الكون بين الغزالي وابن رشد - محمد باسل الطائي

موضوع العالم وخلق العالم وقدمه أو حدوثه من الموضوعات الفلسفية الأساسية التي عالجها القدماء، وعالجتها المعتقدات الدينية كافة. وكان لكل معتقد ديني تصور عن هيئة العالم وكيفية نشأته. فقد تصور الهنود القدماء الأرض قوقعة عظيمة تحملها أربعة أفيال عملاقة تقف على ظهر سلحفاة، وعلى الرغم من بدائية هذا التصور إلا أنه لا يخلو من معان أهمها: الشعور بتحدب سطح الأرض وإلا لما اختار الهنود القوقعة، والثانية معرفة أن اليابسة محاطة بالماء من جميع أطرافها. ولعل في اختيار هذا التكوين الحرج الذي تقف فيه الأفيال على ظهر سلحفاة إشارة يُستفاد منها في تفسير حصول الهزات الأرضية.
كما أعتقد الروس أن الأرض قرص يطفو على الماء تحمله ثلاث حيتان عظيمة، ويتضح من هذا التصور شُح المعلومات التي يمكن استنباطها من هذا التصور البدائي مقارنة بتصور الهنود، فالأرض وفقاً لهذا التصور مستوية إلا أن طفوها على سطح الماء يجعلها غير مستقرة في إشارة لتفسير الهزات الأرضية ربما
العمل بين مطلب النجاعة ومبدأ العدالة - زهير الخويلدي

استهلال:
لم يوجد الإنسان فقط ليتأمل ويحب الحياة وينظم الشعر ويؤلف الموسيقى ويلهو ويلعب بل وجد أيضا ليعمل ويشقى ويكابد وينتج ويحول ظواهر الطبيعة إلى أشياء نافعة وينمى ثرواته ويمتلك جملة من خيرات ويطور فرديته ويستقل نسبيا عن الجماعة التي وجد ضمنها في السابق لاسيما أنه "كلما أخلد إلى الكسل كلما صعب عليه أن يعزم على العمل"[2]، لكن التوتر سيبرز والإشكال سيظهر عندما يجد المرء نفسه حائرا أمام إيجاد تفسير لعمله فهل هو وسيلة لتحقيق الربح بتقاضي أجر أم أنه غاية إنسانية نبيلة؟ وهل يعمل لتلبية الضرورة الطبيعية أم لتجسيم اختيار ثقافي؟ هل العمل هو مصدر الملكية وطريق نحو السعادة أم أنه يضفي معنى على الحياة؟
ما يزيد من حيرتنا هو تحول العمل من الحرفة إلى المانيفاكتورة ومن علاقة إنتاج داخل المصنع إلى علاقة تبادلية بين الدول في إطار التقسيم العالمي للعمل "عمل على تأبيد التبادل اللامتكافىء وتفاقمه"[3]، وقد انعكس التقسيم التقني للعمل كذلك سلبا على العمال وعوض أن يخلصهم من الملل صار هو الذي يسبب لهم ذلك وصاروا يعملون دون متعة وكما يقول دي توكفيل:"كلما تقبل مبدأ تقسيم العمل تطبيقا أكثر تقدمت الصنعة وانحط الصانع" وبالتالي عوض أن يحفظ العمل كرامة العامل ويحقق له الازدهار والرخاء المادي فاقم من بؤسه وجعله ينحط عن كرامة طبيعته ويحن إلى حياة البدائي الهمجية الحرة الواسعة.
إن الذي يدعونا إلى الاستشكال الفلسفي المعاصر لظاهرة العمل هو المفارقات التي أصبحت تطرحها والاحراجات التي بات تخلفها عند الإنسان العادي ومحترف الثقافة وممتهن الصناعة وخاصة تواجدها على عتبة البطالة والاستعباد وبين نحتها لماهية الإنسان وتسببها في فقدان الذاتية والتحول إلى آلة عاملة غير قادرة على التمتع باستهلاك قليل مما تنتجه.