ملحوظة : هذا المقال قراءة في محاضرة "هل نهاية الفلسفة ممكنة؟" لجان باتوكا .
لم تكن البداية الأولى للفلسفة مع طاليس Thalès (حوالي 625 ق.م.-547 ق.م) يقينا أقر به جميع مؤرخي الفلسفة؛ بل ظلت مجرد فرضية تاريخية انجذب إليها أغلب المؤرخين؛ وظل يتشكك في صحتها الآخرون. وكما تواضعت جماعة من المؤرخين على صياغة فرضية تاريخية للبداية الأولى للفلسفة، اجتهد جان باتوكا Jan Patocka في تصور إمكانية لبداية ثانية لها. وغرابة هذا التصور تكمن في كونه يقترح هذه البداية الثانية مع مشروع فيلسوف بات مشدود الوصال إلى الموطن الذي احتضن البداية الأولى: اليونان. فصاحب ذلك المشروع وإن كان ينفصل، زمانيا، عن البداية الأولى بما ينيف عن ستة وعشرين قرنا؛ فإنه يتصل، جغرافيا، بنفس القارة التي كانت مسرحا لها؛ وفلسفيا، بينابيع البدايات الفلسفية اليونانية الأولى. وهذا الفيلسوف هو مارتن هايدغر Martin Heidegger (1889-1976) صاحب كتاب الوجود والزمان.
وجان باتوكا فيلسوف تشيكي ولد سنة 1907. ويعتبر من بين تلامذة كل من إدموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938) ومارتن هايدغر، الذين تابع محاضراتهما الفلسفية في الجامعة. وقد اهتم بالفلسفة اليونانية، وخصوصا بفلسفة أرسطو Aristote (384 ق.م-322 ق.م). كما درس تراث مفكري بلده بوهيميا Bohéme. وقد حافظ طوال حياته على وفائه المزدوج للميتافيزيقا بصفتها موردا قديما، وباعتبارها، في الوقت الراهن، مصدرا للتساؤل؛ وللفينومينولوجيا بصفتها منهجا للقطع مع الحس المشترك ولتجذير الأسئلة وإضاءة السياقات. وتوفي يوم 13 مارس من سنة 1977 بعد خضوعه لسلسلة من الاستنطاقات البوليسية المرهقة. فقد كان، في ظل نظام الضبط التشيكوسلوفاكي، ناطقا بلسان بيان ميثاق 77 من أجل الحريات وحقوق المواطنة.
وقصد تتبع وجهة نظر هذا الفيلسوف من إمكانية نهاية الفلسفة، سنعمل على قراءة محاضرة ألقاها عدة مرات خلال سنة 1974 حول سؤال ينصب عما إذا بقي للفلسفة شيئ ما تقوله لنا في ظل الوضعية الراهنة للعالم؛ و"وسط الضعف العام والامتثال للانحدار". وقد نشرت هذه المحاضرة كجزء من ملحق كتاب جان باتوكا: أفلاطون وأوروبا؛ تحت عنوان: "هل نهاية الفلسفة ممكنة؟".
إن الحديث عن نهاية الفلسفة يرتبط بالإقرار بأزمتها. ونحن، اليوم، نحكم على الفلسفة بالأزمة؛ لأننا نلاحظ نقصا في الجدة التي عرفت بها، وتراجعا في قيمتها وفعاليتها الاجتماعيتين اللتين عهدناهما فيها، خاصة مع الفلسفة الهيللينية. وعلى العموم، فمفهوم الأزمة، هنا، يكتسب معناه من خلال المقارنة بين فلسفة اليوم وفلسفة الأمس. ومن خلال هذه المقارنة يتأكد الجميع من لا جدوى الفلسفة الراهنة التي، عوض انصرافها إلى البحث عن الأفكار الجديدة، نجدها تجادل ضد الفلسفة بما هي فلسفة، وتمارس شكا ذاتيا على نفسها.
غير أن ظهور مفهوم الأزمة لا يقتصر فقط على الفلسفة، بل إنه يطال مجالات أخرى. ويرد باتوكا هذا الأمر إلى اختفاء العناصر الروحية الأساسية التي كانت تشكل إطارا للحياة الروحية للبشر؛ ونظرا لكونها قد أصبحت داخل هذه المجالات بدون معنى وغير مفهومة. فالأسطورة التي كانت بمثابة غذاء روحي أساسي للبشرية في مرحلة معينة، ومصدرا لفضائل الروح كلها، وضمانة لتماسك البنية الاجتماعية وتناغمها، لم تترك وراءها، كما بين ذلك كلود ليفي ستراوس Claude Levi-Strauss (ولد عام 1908)، سوى آثار الدمار. وذلك بعد صدمة لقاء الإنسان الأسطوري، خلال القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، مع الإنسان الذي أصبح، منذ مدة بعيدة، خارج إمبراطورية الأسطورة.
ونفس الشيء بالنسبة لمجال الدين. فكثيرا ما يتساءل الناس، اليوم، إذا لم يصل الدين إلى نفس النهاية التي عرفتها الأسطورة. إن الدين الذي يتطلب فعلا إيمانا ظاهرا، والذي يفترض، خاصة في الدائرة الغربية، مسبقا ودائما، تدخل الفلسفة وانتصار الإيمان عليها؛ يجد نفسه، اليوم، ومعه سائر الديانات الكبرى في العالم، مجبرا على أن يعاد التساؤل بشأنه، ومرغما على أن يوضع موضع سؤال فيما يتعلق بقدرته على العيش والاستمرار أمام الورطة التي يمر بها كل ما لا يسمح بالاهتداء، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى تجربة المعاني.
أما مجال الفن، فقد سبق لفريدريك هيغل Friedrich Hegel (1770-1831) أن بين اكتمال المهمة الروحية الكلية للفن وانتهائها، وذلك من خلال تأليفه بين الروح والواقع الحسي المتناهي. فالفن لم تعد له مهمة تاريخية كبرى. وهو نفسه يعي ذلك. وبذلك نجده يتقرب من اللا-فن ويتجاوز نفسه داخله. ويضيف جان باتوكا أنه ثمة، اليوم، مؤشرات تشهد على أن الفن يتلقى، بمعنى ما، أزمة تشبه أزمة المجالات الروحية الأخرى.
ظاهر، إذن، أن أزمة الفلسفة تندرج، مع باتوكا، في سياق الأزمة العامة التي صاحبت مختلف المجالات الروحية. وهي أزمة المعنى التي تطبع الإنسان والعالم الراهنين. بيد أن خيوط أزمة الفلسفة لن تنكشف، ودوافعها لن تتعرى، ومقاصدها لن تتبين بمجرد إبراز مظاهر الأزمة في المجالات الروحية المختلفة، بل لا بد من الوقوف عند أهم المحاولات التي جربت فعل إنهاء الفلسفة؛ كي نتثبت من معنى الأزمة ونتبين غاية النهاية ونمسك بخصوصيتها. ولهذا الغرض يستعرض جان باتوكا ثلاث محاولات رئيسية قصدت كلها تأسيس فلسفاتها في –ما- بعد- نهاية الفلسفة. لكن هل استطاعت، فعلا، النجاح في التخلص من الميتافيزيقا باعتبارها هي الفلسفة بامتياز؟
1 ـ نهاية الفلسفة على الطريقة الوضعية:
يشير جان باتوكا إلى أن الحديث عن فكرة أزمة الفلسفة يعود إلى القرن الثامن عشر؛ وبالضبط مع الفلسفة السلبية التي تشك في الفلسفة الميتافيزيقية بصفتها تطرح مواضيع الماهية وطبيعة الأشياء والجوهر والعلة والضرورة واللا-حسي الخ. ويعتبر أن هذه الفلسفة السلبية كانت نقطة انطلاق لفلسفة أوجست كونت Auguste comte (1798-1857) "الوضعية". وما قام به كونت، في نظر باتوكا، هو تحويل الموقف السلبي من المشاكل الفلسفية إلى موقف إيجابي يحرص على تقديم حلول وضعية لهذه المشاكل، بعيدا عن الحلول الفلسفية، وذلك بواسطة العلم الوضعي. بعبارة أخرى، إن الفلسفة الميتافيزيقية التقليدية تأخذ نهايتها، مع كونت، كي تترك مكانها للفلسفة وللعلم الوضعيين. بحيث إنهما يبعدان من اهتمامهما المشاكل غير القابلة للحل، لكي يتعاملا بتقنية معالجة الوقائع والتمكن منه قصد التنبؤ به.
أن تتقدم الفلسفة الوضعية كبديل عن الفلسفة الميتافيزيقية فهذا لا يعني، في نظر جان باتوكا، أنها قد تخلصت، نهائيا، من جذور الميتافيزيقا. فمن خلال مراجعة تصور الوضعية بصدد نظرية الحقيقة، يبدو أن هذه الأخيرة تتوقف على الملاحظة؛ ملاحظة ما هو حاضر. وهذه النظرية تتصل، جذريا، بالتصور الميتافيزيقي اليوناني القديم الذي كانت بمثابة الفجر الأول للنزعة الذاتية الحديثة. فكل ما يمثل أمام الذات هو عبارة عن معطيات حسية تتم ملاحظتها بواسطة أداة الأحكام الإدراكية. والحال، إن الوضعية تتقاسم نفس التصور بصدد الحقيقة مع النزعتين العقلانية والموضوعية. فالحقيقة، في ظل هذا التصور، تنتج عن نشاط للعقل؛ والعقل هو العقل الموضوعي؛ والموضوع هو الموضوع الحاضر؛ وهو حاضر أمام الإنسان باعتباره ذاتا تملك القدرة –وفق شروط معينة- على امتلاك "معرفة عقلانية". وهذه القدرة تسمح له بأن يصير سيدا على الموضوع؛ بحيث يتنبأ بمجموع أطواره الماضية والآتية.
تدور الفلسفة الوضعية الكونتية، كما يستخلص ذلك باتوكا، داخل نفس الحقل الميتافيزيقي الذي تدور فيه النزعتان العقلانية والموضوعية. مع فرق بسيط، وهو أن الأولى تكتفي باستنفاذ الحمولة الأونطية للمعرفة في السيادة النسبية على المطلق، بينما تكمن إرادة النزعتين الميتافيزيقيتين الأخريين في القبض التام على المطلق.
سبقت الإشارة، مع باتوكا، إلى أن الوضعية الكونتية تجد منطلقها في الفلسفة السلبية؛ وهذه بدورها ترتبط بالقضية الميتافيزيقية الأساسية للأزمة الحديثة –وهي قضية الكوجيطو الديكارتي- وبيقين ذات الوعي. وينتبه باتوكا إلى كون الوضعية نفسها تجد جذورها عند رونيه ديكارت René Descartes (1596-1650). بل وينبغي البحث عن أصولها البعيدة عند أرسطو حتى. ومن ثمة فنفي الميتافيزيقا من طرف الوضعية هو نتيجة للأطروحات الميتافيزيقية. بل إن الأصول الميتافيزيقية لمحاولة النفي هذه مازالت أكثر بروزا من أصولها الوضعية.
2 ـ نهاية الفلسفة على الطريقة الجدلية:
تستمد الماركسية أصول عملية نفي الفلسفة من الجدل الهيغلي. ويحصل نفي الفلسفة، وفق منطق هذا الجدل، عندما يتم تحققها الذاتي. بيد أن انتهاء الفلسفة مع هيغل، أو بالأحرى اكتمالها، يأخذ شكل التحقق الفعلي للعلم المطلق. وهذا العلم المطلق والكلي هو نفسه الميتافيزيقا، ومركزه هو المنطلق الذي هو، في نفس الآن، الذات والموضوع. والفلسفة بصفتها العلم المطلق لا تخضع للفكر المتناهي. بل هي معرفة تتقدم وفق قوانين الجدل اللامتناهية.
صورة الكمال، هذه، التي يضع هيغل الفلسفة داخلها ستكون موضع دحض من طرف كارل ماركس Karl Marx (1818-1883)؛ مستلهما، في ذلك، أطروحة لودفيغ فويرباخ Ludwig Feuerbach (1804-1872). ما يلاحظ على النقد الماركسي للهيغلية هو طابعه الهيغلي. فلقد احتفظ ماركس، كما يقول باتوكا، بأهم المقولات الميتافيزيقية الموروثة عن النسق الهيغلي حول الذات والموضوع والقوة والجوهر الخ. لكن استعادته لها لم تتم داخل جدل لا متناهي يخضع لقانون نفي النفي، ولوعي الذات المستلبة التي تنعكس على ذاتها؛ وإنما قد تم قلبها على نمط جدل متناهي يتحرك داخل أفق المعرفة المادية باعتبارها هي المعرفة الصحيحة والواقعية. وهكذا تحولت الفلسفة، مع ماركس، من دين مطورفي شكل أفكار خيالية ووهمية وميتافيزيقية إلى معرفة نظرية وبشرية حقيقية للاقتصاد السياسي. وقد منح ماركس لهذا الأخير صفة العلم الحقيقي والفعلي الذي يتحكم في الممارسة Praxis التاريخية والثورية الهادفة إلى تحقيق إنسانية الإنسان غير المستلبة.
هذا التحول من الجدل الهيغلي العقلي إلى الجدل المادي، والذي تطور بدوره إلى جدل لقوى الإنتاج، وإلى جدل إنتاج السلع وتعارض الرأسمال والعمل؛ هو، في نظر جان باتوكا، تحول من نظرية ميتافيزيقية إلى علم بشري لا يقر إلا بالطبيعة وبالحواس؛ وإلى ممارسة ثورية تتم في إطار الجماهير المنظمة في شكل بروليتاريا صناعية. والحال، فقلب ماركس للفلسفة الميتافيزيقية هو، بعبارة باتوكا، انتقال للفلسفة، عن طريق تحققها، إلى لا-فلسفة. غير أن هذا الانتقال يقوم على أساس ميتافيزيقي صريح تم نقله من فوق-الحسي إلى الواقع الحسي.. من السماء إلى الأرض.
قبل الانتقال إلى المحاولة الثالثة لإنهاء الفلسفة، ثمة ملاحظة مهمة، يسجلها جان باتوكا، تخص علاقة الميتافيزيقا بالواقع. فالفلسفة الميتافيزيقية، كما يلاحظ باتوكا، لا تنتج معرفة مفحمة بشكل كلي، بحيث يحصل داخلها الإجماع حول العلة الأولى والموجود فوق-الحسي؛ وإنما تعمل، قبل كل شيء، على تأسيس نظام قابل للتطبيق في العالم الموضوعي. فالنسق الرياضي القديم يجد أساسه في فلسفة أفلاطون Platon (حوالي 427 ق.م-348 ق.م). والنسق البيولوجي والاستدلالي والقياسي يجد أساسه في فلسفة أرسطو. بينما المنطق القضوي عرف ولادته مع الفلسفة الرواقية. فإذا كانت الميتافيزيقا تهدف تأسيس مذهب مستقل لفوق –الحسي ولا للا-موضوعي؛ فإن نتيجة هذا الطموح هو وضع أسس معرفة الموجود الموضوعي. يقول جان باتوكا: "إنها تتوجه خارج العالم، لكن ما تسفر عنه في الواقع هو المعرفة الفعالة في العالم السفلي". فهنا، في العالم السفلي، حيث "الموجود الحقيقي" هو المقياس الوحيد للحقيقة (التطابق) يكون قصد الميتافيزيقا هو النزول، مرة ثانية، من فوق-الحسي إلى ما يوجد في متناول الحواس؛ إلى ما يتم الالتقاء به في العالم المحيط.
ينتهي جان باتوكا إلى أن هذه الظاهرة التي تمثل سند الميتافيزيقا تتم إعادة إنتاجها مع وضعية أوجست كونت في مرورها من الميتافيزيقا إلى العلم؛ ومع مادية فويرباخ وكارل ماركس في ارتباطهما بجدل هيغل؛ ومع نقدية إيمانويل كنط Emmanuel Kant (1724-1804) التي تعتبر أنه بإمكان ميتافيزيقا الطبيعة وميتافيزيقا الأخلاق أن تصبحا أساسا لمعرفة العالم التجريبي ومكونه القبلي.
3 ـ نهاية الفلسفة على الطريقة الفينومينولوجية:
يعرض جان باتوكا، في الأخير، لمحاولة أخرى قصدت إنهاء الفلسفة من خلال تجاوز مضمونها الميتافيزيقي. ولكي يقرأ ملامح محاولة تجاوز مارتن هايدغر للفلسفة/الميتافيزيقا، يتناول باتوكا فرضية للعلاقة التي تربط التلميذ بأستاذه إدموند هوسرل. فيفترض، بشيء من التحفظ، استقلالية فكر هايدغر عبر تحرره من ميتافيزيقا المدرسة الفينومينولوجية التي جددها هوسرل. ومن المعلوم أن هايدغر الذي ظل يدافع عن نفسه من خلال فصل فكره عن أهداف الفلسفة الميتافيزيقية، نعت أستاذه بكونه قد قدم نموذجا ميتافيزيقيا.
يأخذ موقف هوسرل من الفلسفة منحى خاصا يكمن في البرنامج الجديد الذي قدمه، والهادف إلى بناء فلسفة تأخذ شكل العلم الصارم والمعرفة "الموضوعية". وذلك من خلال تأسيسه لمنهج برهاني صارم لمعرفة ماهية الأشياء. ولم تخف على باتوكا الحوافز والنتائج الميتافيزيقية التي تحكمت في أفكار هوسرل. صحيح أن هذا الأخير قد تخلص من الإجراءات الميتافيزيقية التي طورها ديكارت فيما يخص علاقة الذات بالموضوع؛ وذلك من خلال "اختزاله" للموضوعية إلى محايثة الوعي. بحيث إن الفلسفة أصبحت بدورها حالة اختزالية، تقوم باختزال العالم إلى المحايثة الخالصة أو إلى التعالي المحايث. وهي بذلك قد مكثت، معه، وبشكل دائم وضروري، داخل المحايثة. رغم ذلك، فقد انتهى هوسرل، حسب باتوكا، إلى نتائج ميتافيزيقية مطلقة أو تهدف إلى المطلق. وهي تذكرنا بنتائج المثالية المطلقة لمفكري بداية القرن الماضي.
إذا كانت المثالية المتعالية عند هوسرل تتقاسم مع جميع أصناف الميتافيزيقا الأخرى نفس القدر؛ فإنها، كما يذكر باتوكا، تختلف عنها فيما يخص تخلصها من النزعة الموضوعية المطلقة. فميتافيزيقا هوسرل تتضمن حافزا أصليا يعدل من مظهر وتوجه تحللها. ولكي يوضح باتوكا تميز الموقف الهوسرلي عن المتافيزيقا التقليدية، يعمد إلى اقتراح فرضية تخص الارتباط القائم بينه وبين الموقف الهايدغري.
يفترض جان باتوكا وجود ارتباط بين كل من هوسرل وهايدغر يكشف عنه من خلال كيفية التعاطي مع السؤال الميتافيزيقي الأساسي: ما هو الموجود؟ والمفهوم المفتاح الذي اختاره باتوكا لعرض كيفية التعاطي تلك هو مفهوم الإيبوخي époché الموظف من طرف هوسرل. وما يثير الانتباه هو أن باتوكا يفترض حدوث قطيعة بين كل من فينومينولوجية هوسرل وأنطولوجية هايدغر. لكن تأكيده لهذه الفرضية يتأرجح بين الإثبات والتردد. فباتوكا "لا يريد أن يعزو مباشرة لهايدغر الفرضية التي تهم قطيعة الفينومينولوجيتين، والمرور من هذه إلى تلك"؛ ومع ذلك، "لا يبدو، أبدا، أنه يمكن تقديم حوافز الأنطولوجيا الفينومينولوجية بشكل مغاير".
يشير باتوكا إلى أن الفلسفة الفينومينولوجية لم تتخلص، ولو على مستوى المنهج، من سؤال الميتافيزيقا الأساسي: ما هو الموجود؟ لكن هذا السؤال قد تم تصحيحه ليصبح متضمنا في سؤال أعم هو: كيف يظهر الموجود؟ والإجابة عن السؤال الأول تكون بدورها متضمنة في الإجابة عن الثاني. فمع هوسرل لا يتعلق الأمر بالموجود في بنيته وانشغاله العلي، وإنما بالطريقة التي يتجلى بها الموجود والأساس الذي يظهر عليه. بحيث إن هذا الأساس نفسه يصبح ظاهرة.
إن تطبيق فعل الإيبوخي (أو تعليق الحكم) بشكل كلي على الموجود يعني استحالة قيام أي أطروحة حول العالم. وفي هذه الحالة لن يوجد أي أساس تنبني عليه الفلسفة بصفتها علما صارما. وهذا ما يبرر عدم إخضاع هوسرل كلية الموجود لفعل الإيبوخي. ولذلك فظهور الموجود وتجليه لا يكون ممكنا، حسب هوسرل، إلا على أساس موجود ذاتي. ومن ثمة فمشكل الظهور يرد، معه، وفي ظل عملية الإيبوخي، إلى مشكل ما يظهر؛ إلى مشكل الموجود. هنا يتوقف جان باتوكا عند هايدغر كي يزكي فرضيته فيما يخص علاقته بهوسرل.
فإذا كان هايدغر في مرحلة كتابه الوجود والزمان يجري عملية الإيبوخي على كل أطروحات الموجود الموضوعي؛ فإنه، مع ذلك، يتبين أن دراسة الإحالات renvois تظل، معه، مرتبطة بموجود محدد هو "الوجود-هنا"، ولو أن هذا الموجود غير موضوعي في بعده الأساسي. لكن فكره سيتحرر، في نظر باتوكا، بعد ذلك حتى من هذا الارتباط بالموجود المحدد كي يصير فكرا أصليا لما هو ليس موجودا في ذاته. المهم عند هايدغر هو عدم صياغة أي أطروحة حول الموجود. وهذا يستدعي الدفع بالإيبوخي حتى حدوده الأخيرة؛ حتى لا يتم اختزال الموجود إلى الموجود الذاتي الذي يملك يقين الذات. وهذا يتطلب، أيضا، من الأنطولوجيا (علم الوجود) التخلص من السيكولوجيا التي ظلت دائمة الحضور عند هوسرل.
إن البحث الأنطولوجي، كما يؤكد جان باتوكا، باعتباره نزولا ثانيا نحو الإحالات إلى الموجود في فعلها التمثلي، يجب أن يكون، بالضرورة، مرتبطا بإضاءة الوظيفة القضوية apophantique للزمان، أو بالأحرى للزمانية الأصلية. و"إذا كان سلوك السبيل الذي يهدف إلى بلوغ الأساس الأكثر عمقا للتساؤل الميتافيزيقي، من خلال إضاءة الوظيفة الأنطولوجية للزمانية وللخاصية الزمانية للأنطولوجيا، هو، في الواقع، أمر ممكن (وهذا الأمر لن يوضح ويضاء إلا عن طريق التنفيذ)؛ فإن تصور إمكانية بداية جديدة، بداية ثانية للفلسفة، لن يكون مستحيلا". (أفلاطون وأوروبا، ص262).
لعل قراءة أولى في تقديم مارتن هايدغر لكتابه الوجود والزمان كافية لفهم ملائم لهذه الفكرة التي استخلصها باتوكا بخصوص إمكانية بداية جديدة للفلسفة. فالقصد الذي رسمه هايدغر لكتابه الرئيسي هو البناء الملموس لسؤال معنى "الوجود". و"هدفه المنشود، مستقبلا، هو تأويل الزمان باعتباره الأفق الممكن لكل فهم للوجود في شموليته". من هنا يجوز القول إن نهاية الفلسفة ستحدث، في نظر هايدغر، بفعل إنجازه هو لمشروعه الأنطولوجي الأساسي الذي يروم فهم معنى الوجود في أفقه الزماني. وذلك من خلال تجاوز المضمون الميتافيزيقي للفلسفة في إطار مشروع ومهمة تملك وجود الموجود. لكن نجاح هذا المشروع غير مضمون. وهذا ما يصرح به هايدغر نفسه حتى قبل الشروع فيه. فـ"في غالب الأوقات لا تنقص لهذه المهمة الكلمات وحدها، وإنما، وبالخصوص، ينقصها "النحو". وفي كتابه رسالة حول النزعة الإنسانية سيعزو هايدغر توقف مشروع الوجود والزمان إلى إخفاق اللغة. وهكذا تبقى مسألة البداية الثانية المفترضة، أو بالأحرى، المنشودة من طرف جان باتوكا معلقة إلى حين، شأنها شأن البدايات الأخرى المفترضة قبلها.
في الأخير، يخلص جان باتوكا إلى أن هذه المحاولات الثلاث التي تبرر نهاية الفلسفة باعتبارها ميتافيزيقا، لم تنجح، ولا واحدة منها، في تبرير نهاية الفلسفة في شموليتها. ولم تفلح في حذف وإزاحة الفلسفة؛ بل اكتفت، فقط، بإنهاء ميتافيزيقا معينة، من أجل تكريس ميتافيزيقا من نوع خاص. وكل هذه المحاولات التي طمحت إلى غاية الإنهاء ظلت، نفسها، تمثل جزء من الفلسفة وموضوعا معرضا بدوره لمحاولات الإنهاء باعتبارها فلسفة ميتافيزيقية. وحتى المحاولة الكبرى الثالثة لإضاءة انحدار الميتافيزيقا باعتبارها مركزا للفلسفة، ليست، في نظر جان باتوكا، تطليقا للفلسفة/الميتافيزيقا؛ وإنما هي محاولة تصحيح أساس للسؤال الميتافيزيقي التقليدي: ما هو الموجود؟