إن المغزى العميق لمقولة كانط الشهيرة:" لا يمكننا تعلم الفلسفة، بل يمكننا فقط تعلم التفلسف" هو أن درس الفلسفة بما هو مجال للحرية العقلية المتمثلة في التأمل النقدي، يقوم على التفلسف كعملية عقلية، نقدية، تساؤلية مستمرة. الغرض منها إزالة البداهة عن الأفكار المألوفة والأحكام المسبقة، والتخلص من هيمنة الحقائق المطلقة بإعادة النظر فيها وجعلها تتسم بالنسبية والقابلية للتجاوز. فالتفلسف إذن هو "المسار الذي نقطعه من بادئ الرأي (الدوكسا) إلى المعرفة (الإبستمي)" . كما أنه يعتمد على القدرات والإمكانات الذاتية للتفلسف باعتباره ذاتا مبادرة، فاعلة، منتجة، لها القدرة على التفكير الحر وإبداء الرأي وتحديد مسارها التعلمي وامتلاك سلطة تكوينها.
وهنا يبرز مفهوم التفكير الذاتي كتجسيد للحرية العقلية وللتأمل النقدي فهو يسمح للفرد بالتساؤل عن معنى وقيمة وجوده والمشاكل التي تطرحها حياته الشخصية والتزاماته الفردية والجماعية.

أنفاس«أيُّ فائدةٍ تَجْنِيها من دراسة ﭐلفلسفة، إذا كان كُلُّ ما تقوم به بـﭑلنسبة إليكـ هو أن تَجعلكـ قادرًا على ﭐلتعبيـر بشكلٍ مقبولٍ نِسْبِيًّا عن بعض ﭐلْمسائل ﭐلْمنطقية ﭐلْمُسْتَغْلِقَة، إلَخِ.، وإذا كان هذا لا يُحَسِّن طريقتَكـ فِي ﭐلتفكيـر فِي ﭐلْمسائل ﭐلْهامة للحياة ﭐليومية، وإذا كان ذالكـ لا يَجعلكـ أشدَّ وعـيًا من أيِّ صِحَافِي فِي ﭐستعمالك لتعابيـر خطيـرة يستخدمها أُنَاسٌ من أمثاله لِأَغْرَاضهم ﭐلْخاصة ؟ » لودﭬﻴﮓ ﭬِـتْـﮕِـنْشتيـن (مراسلات)
من ﭐلشائع أن "ﭐلفلسفة" لا تقبل ﭐلتعريف، حيث يُنْظَرُ إليها كنوع من ﭐلتجربة ﭐلفردية/ﭐلشخصية/ﭐلذاتية ﭐللَّتِي تستعصي، بطبيعتها، على كل تَحديدٍ موضوعي (=توضيعٌ). ولعل أهم ﭐلصعوبات ﭐلْمتعلقة بـ"ﭐلفلسفة" تَجد بدايتها مع هذا ﭐلِاعتقاد ﭐلسائد بَيْن مُحترفِي "ﭐلفلسفة" أنفسهم، ﭐلذين يَظُنُّ معظمُهم -فِي ﭐلغالب- أن "ﭐلفلسفة" تكتسب مزيدا من ﭐلِامتياز إذا نُظِر إليها وعُرِضَت بِهذا ﭐلصورة. لَكنَّ أيَّ تفكيـرٍ حول "ﭐلفلسفة" لا يُمكن أن يتم من دون إعطاء تعريفٍ لَها، يكون شاملًا وواضحا بِهذا ﭐلقدر أو ذاكـ. لِهذا نَجد أنفسنا، فِي بداية هذا ﭐلْمقال، نستعمل لفظ "ﭐلفلسفة" بـﭑلتعريف ﭐلتالِي : "ﭐلفلسفة" مَجالٌ لِمُمارسةِ نوعٍ من ﭐلتفكيـر ﭐلْمنهجي الذي يتجسد فِي مادةٍ خِطَابِيَّةٍ (هي ﭐللَّتِي تشكل موضوعَ ﭐلدراسة/ﭐلتدريس على مستوى ﭐلتعليم ﭐلثانوي وﭐلْجامعي بعددٍ من بلدان ﭐلعالَم ﭐلْمعاصر)، والذي يَنْصَبُّ على ﭐلْمُشكلات ﭐلأساسية فِي ﭐلوجود ﭐلْإنسانِي ويتميز بأنه تفكيـر عميق وعام ؛ وهو ﭐلتفكيـر الذي يرجع فِي جذوره -على ﭐلْأقل بـﭑلنسبة لبعض ﭐلْأمم- إلَى بضعة قرون قبل ميلاد ﭐلْمسيح. ويترتب على هذا ﭐلتعريف أن "ﭐلفلسفة" تفكيـر عميق يتجاوز ﭐلتفكيـر ﭐلسطحي للإنسان ﭐلعادي ويرمي إلَى ﭐلْإمساكـ بـ"ﭐلْعِلَلِ" ﭐللَّتِي تَـتَحَكَّمُ فِي سَيْرِ ﭐلْأشياء، وتفكيـرٌ عامٌّ يَعْلُو على ما هو جُزئي وفَردي فِي ﭐلوجود ﭐلْإنسانِي بـﭑلنظر فِيما ينطبق على ﭐلْمجموع بِحيث يكونُ كُلِّـيًّا وجَامِعًا (قد لا يكون، فِي ﭐلْواقع، تَحديدُ ﭐلفلسفةِ كفكرٍ عميقٍ وعام سوى ﭐدِّعَاءٍ سرعان ما ينقلب إلَى فكرٍ سطحِيٍّ يقفُ عند ﭐلصُّوَرِ ﭐلذِّهْنِيَّةِ ﭐلْقَبْلِيَّةِ ولا يتجاوز ﭐلتجربةَ ﭐلفرديَّةَ ﭐلْمُتَحَيِّزَةَ زمانيا ومكانيا، وهذه مسألة تستدعي -هي وحدها- وقوفًا طويلًا ليس هذا مقامه). ومن هنا يَأْتِي ﭐلتساؤلُ عن فائدة "ﭐلفلسفة" بِـﭑلنسبَةِ لِـلْإنسان فِي وُجُوده بِهذا ﭐلعالَم. لَكن هذا ﭐلتساؤلَ لا يأتِي فقط، كما قد يَـبْدُو لِأوَّلِ وَهْلَةٍ، من كَوْنِ "ﭐلفلسفة" تَدَّعِي تناولَ ﭐلْمشكلات ﭐلْأساسية فِي ﭐلوجود ﭐلْإنسانِي، مِمَّا يُوجِب بـﭑلتأكيد ﭐلْميلَ نَحو معرفة ما يُمْكِنها أن تقدمه من فائدة (أي من حلول) لِـلْإِنسان ﭐلعادِيِّ، الذي يُعانِي بشكلٍ يَوْمِيٍّ وعَيْنِيٍّ ﭐلوجودَ فِي ضرورته وتَعَقُّده، وإنَّما هو تساؤلٌ يزداد إِلْحَاحًا -فِي ﭐلواقع ﭐلْمعاصر- بفعلِ تَنَامِي ﭐلنظرة ﭐلنَّفْعِيَّة وﭐلْعَمَلِيَّةِ إلَى كُلِّ مَوَادِّ ﭐلتعليم/ﭐلتدريس، من جَرَّاءِ تَقَدُّمِ سَيْرُورَةِ ﭐلتعقيل وﭐلترشيد ﭐلقائمة على إِيـجَادِ ﭐلْآليات ﭐلْمعرفية وﭐلتقنية ﭐلكفيلة بِـﭑلِاستجابة، على ﭐلْمستوى ﭐلعملي، لِحاجات وتَحَدِّيَات ﭐلْحياة ﭐلْإنسانية فِي تَنَوُّعِها وتطورِها وتَعَقُّدِها ؛ وهو ﭐلْإلْحاحُ الذي تَتِمُّ تَرْجَمَـتُهُ ﭐلفعليَّةُ من خلال ﭐلعمل على ﭐلصياغة ﭐلتقنية وﭐلْإجرائية (أي ﭐلْخطاب ﭐلتنظيـري ﭐلْمُتَكَاثِرِ، مُنْذُ عِدَّةِ عُقُودٍ، حول ﭐلْأهداف وﭐلْكَفَاءاتِ) لِطُرُقِ ومضاميـن تعليم/تعلُّم ﭐلْموادِّ ﭐللَّتِي يُمكن أن تكون موضوعا للدراسة وﭐلتدريس فِي أي مستوًى من مستويات ﭐلتعليم/ﭐلتعلُّمِ. ولِهذا فإن "ﭐلفلسفة" أصبحت، هي أيضا، تَخضع (وتُخْضَعُ) لِسُؤَال ﭐلفائدة ﭐلباحث عن تَبَـيُّنِ مدى جَدْوَى هذه ﭐلْمَادَّةِ فِي ﭐلتعليم وقيمتها ﭐلنَّفْعِيَّةِ.

11الفلسفة العربية الإسلامية هي إحدى الحركات العقلية التي نشأت في ظل الإسلام وحضارته وارتبطت به بأنواع مختلفة من الارتباط . فإن الإسلام لم يعبر عن ذاته بعلوم الدين والنقل فقط، بل لقد وجد في علوم الفكر والعقل أيضًا متسعًا فسيحًا للتعبير عن هذا الذات.
ولقد كانت هذه الفلسفة دائمًا محل نزاع ومناقشة بين الباحثين ، فقد اختلفوا في اسمها وفي إمكان وجودها وفي الأشخاص الذين شيدوها وأقاموا بناءها، وفي مدى ما فيها من أصالة وابتكار. لكن هذا الاختلاف لم يقتصر على الفلسفة العربية الإسلامية وحدها بل لقد شمل جميع الحركات العقلية في القرون الوسطى كلها ، إسلامية كانت أو مسيحية أو يهودية، أو وثنية. فليس هناك اتفاق حول قيمة الفلسفة المسيحية أو الفلسفة اليهودية ومدى اصالتهما وقربهما أو بعدهما عن الفلسفة اليونانية والإسلامية. ولا يزال النقاش محتدماً حول أصالة القديس توما الأكويني مثلاً ومدى استقلاله عن ابن رشد خاصة وفلاسفة الإسلام عامة. وهذا ينطبق أيضاً على موسى بن ميمون أعظم فلاسفة اليهود في العصور الوسطى كلها.    والذي يهمنا هنا أمر الفلسفة العربية الإسلامية : هل توجد فلسفة عربية إسلامية أم لا ؟ وما طبيعة هذه الفلسفة إن وُجدت، وما هي خصائصها ؟ وإلى أي حد استطاعت أن تتحرر من أثار الفلسفة اليونانية ؟
إن التصدي لهذه المسألة مهمة عسيرة ولكنه لا يخلو من المتعة، على أن تُعالج موضوعياً بعيداً عن التعصب والهوى ومشاعر الحقد والضغينة. وعلى هذا الأساس سندرس الفلسفة العربية الإسلامية، فنبين أصالتها فيما لها فيه من أصالة، ولا نتحيف عليها في بعض ما تعتز به ، كما لن نتوقف عن نقدها حيث يجب النقد.
ونأمل أن تكون هذه الدراسة نواة أولية لدراسة هذه الفلسفة على أساس وضعي لا معياري، فندرسها كما هي بالفعل لا كما يجب أن تكون، ونرافق أصحابها ونعيش معهم ونفهم ظروفهم ومدى الإمكانيات المتاحة لهم للخلق والابتكار. وحسبهم فضلاً أنهم بثوا الحياة في عصور الفكر اليوناني ، وأقاموا فجوة كبيرة بين العصور الوسطى العربية الإسلامية التي كانت عصور اشعاع ونور والعصور الوسطى اللاتينية التي يسميها أصحابها أنفسهم عصور الظلام.
هذا ومنشأ سوء الظن في الفلسفة العربية الإسلامية أن دارسيها الأوائل مثل رينان ومدرسته لم يضعوا آراءهم بعد دراسة كاملة، ولم يستمدوها من التفكير العربي الإسلامي نفسه في أصوله ومصادره، وإنما كانوا يعبرون عن معظم ما كان متداولاً في المخطوطات اللاتينية، حيث لم تكن الدراسات الإسلامية الصحيحة قد بدأت بعد :« ذلك أن بعض مؤرخي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عرض للحياة العقلية عند المسلمين من غير أن يكون لهم إلمام بلغتهم أو أن تتوافر لديهم المصادر العربية الكافية. وانتهى إلى أحكام لا يمكن إلا أن تكون سريعة وناقصة »1، على حد قول د. إبراهيم مدكور رحمه الله. ومع ذلك فقد قدر لهذه الآراء أن تنتشر كما تنتشر النار في الهشيم، فتلقفتها الدوائر العلمية وغير العلمية، واختلفت الأغراض والمآرب. فالأجواء كانت مشحونة بالتعصب على العرب وكراهيتهم.

  أنفاس " الفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونانيين وقد تحرى الذي نقلها في تسمية المعاني" أبو نصر الفارابي  كتاب الحروف
استهلال:
يظن معظم المستشرقين أن حكماء العرب هم مجرد شراح للفلاسفة اليونان وأنهم عرضوا مؤلفاتهم ولخصوها بلغة الضاد وقد خلطوا  في غالب الأحيان بينها وبين بعض المعتقدات الشرقية الهندية والفارسية واليهودية وأساءوا فهمها وأولوها على غير مواضعها فأنتجوا نظريات غنوصية غريبة وخلائط فكروية مجردة مثل التصور المشائي للكون والحكمة المشرقية ونظرية الفيض والأفلاطونية المحدثة وعلم الكلام وعلم الفقه والرسائل والقصص المجازية كحي ابن يقظان ولكنهم في مقابل ذلك يعترفون لهم بالعبقرية والجدة والأصالة خاصة في مستوى فن الترجمة والنقل فسموا ابن رشد الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو والفارابي بالمعلم الثاني بعد أن سيطر أرسطو على علم الفكر كمعلم أول لقرون عديدة، وتعود شهرة الفارابي في الغرب حسب المحقق العراقي المرحوم محسن مهدي إلى كتاب الحروف وتعود شهرة كتاب الحروف إلى الفصل الخامس والعشرين الأخير من الباب الثاني والمعنون:اختراع الأسماء ونقلها، وسبب شهرة هذا الفصل أن المعلم الثاني لا يعرض فيه نظرية في الترجمة العلمية فحسب بل علاوة على ذلك يحدد فيه طرق نقل المعاني الفلسفية من لغة إلى لغة أخرى ويجيب عن سؤال: كيف ينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفية عند التعليم؟ ويرسم بذلك نقاط الإتباع والإبداع الفلسفي بين العرب والإغريق. إذ يقول في هذا السياق:"ينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفية إما غير مدلول عليها بلفظ أصلا بل من حيث هي معقولة فقط وإما إن أخذت مدلولا عليها بالألفاظ فإنما ينبغي أن تؤخذ مدلولا عليها بألفاظ أي أمة اتفقت والاحتفاظ فيها عندما ينطق بها وقت التعليم لشبهها بالمعاني العامية التي منها نقلت ألفاظها...فلذلك رأى قوم أن لا يعبروا عنها بألفاظ أشباهها بل رأوا أن الأفضل هو أن تجعل لها أسماء مخترعة لم تكن قبل ذلك مستعملة عندهم في الدلالة على شيء أصلا مركبة من حروفهم على عاداتهم في أشكال ألفاظهم..."

واذا استنطقنا هذه النقاط تبين لنا أن حد الفلسفة تلقاه حكماء العرب على جهة النقل والإتباع أما المعاني الفلسفية فقد تملكوها على جهة الخلق والإبداع عندما تحروا في التسمية وبذلوا الجهد لاختراع الكلمات المناسبة للأشياء والمعاني والحالات. واذا كنا لا نحتاج إلى امتحان الاستنتاج الأول فقد شاع بين المؤرخين أن العرف عرفوا الفلسفة على النحو الذي عرفها به الإغريق فإن الاستنتاج الثاني يطرح عدة شبهات وفي حاجة إلى توضيح وإبانة بتقديم الأدلة والبراهين من نصوص حكماء العرب أنفسهم، لكن كيف يكون هؤلاء الحكماء مقلدين على جهة اللفظ مبدعين على جهة المعنى؟ ما المقصود بالتلقي الإبداعي للمعاني الفلسفية الإغريقية في اللغة العربية؟ كيف تحول العرب من نقل حد الفلسفة إلى إبداع فلسفة في الحد؟  ماهي فلسفة الحد التي أبدعها العرب وميزتهم عن فلسفة الإغريق؟ هل يتعلق الأمر بنظرية في التعريف أم بنظرية منطقية؟

أنفاس ثمانية قرون تفصل بيننا وبين المفكر العربي القرطبي الكبير ابن رشد، بيد أن هذه الفاصلة الزمنية الهائلة لم تلغ اتصاله بنا واتصالنا به، فكراً وعلماً وفلسفة. لقد كان الرجل فيلسوفاً بارعاً، خلّف لنا آثاراً شامخة في الحكمة،أبرزها:(تهافت التهافت)،(مناهج الأدلّة)،(فصل المقال) وكتاب في الطب أسمه(الكليات). كان ابن رشد نابغة أهل زمانه، لكن نبوغه كان وبالاً عليه، فقد رمي بتهمة المروق من الدين، ونفي خارج مدينة قرطبة، ثم أحرقت كتبه، وحُرّمت دراسة الفلسفة! بيد أن المحنة لم تدم طويلاً، فقد رد الاعتبار إلى الرجل بعد مضي سنة على المحنة، بفضل من ذوي الفضل وأصحاب الضمير. وفي ليلة الجمعة (11ديسمبر 1198م)الموافق 10صفر595هـ، وفي مفتتح دولة الناصر بالأندلس كانت الفلسفة محمولة على ظهر جمل. الجمل خرج من مراكش قاصداً قرطبة، وكان يمشي وئيداً، لكنه ما كان يحمل جندلاً أو حديداً.. كان يحمل كتباً ضخاماً في جهة، وجثمان رجل في الجهة الأخرى. الرجل هو ابن رشد، الذي مات جسداً، ولم يمت فكراً وروحاً.. أليس هو القائل:"تموت روحي بموت الفلسفة"؟. لقد كان ابن رشد ظاهرة بكل ما تعني هذه المفردة من معنى.ز ظاهرة متفردة في عصره، وصار جسراً من جسور الفلسفة العربية التي امتدت إلى أوربا. وبرغم الأجواء العدائية التي غلفت ابن رشد، إلا أنه قد استطاع بإصراره وأصالة تفكيره أن يضع أُسساً فكرية ونقدية تنم عن تحرر عقلي لا يستسلم للأجواء الملبدة بالغيوم والمصحوبة بقصف الرعود. كان هاجس ابن رشد هو إدراك الحقيقة.. وهذا حسبه.
الفلسفة هي الوليد الشرعي للعقل، وهي ربيبته على مر العصور. لذلك، اتخذ منها ابن رشد منهجاً وأسلوباً، ليهتدي به إلى معرفة الحقيقة. ولما كانت الفلسفة (حب الحكمة) لذا فقد ارتبطت بمعاني النظر والتأمل والتفكير والمشاهدة العقلية. ومادامت (الحكمة) هي النور العقلي الذي نسير على هديه في ظلمات الحياة، لذا فإن الحياة لا تكاد تنفصل عن التفلسف، شريطة أن نفهم من الفلسفة أنها عملية نقد الحياة وتحليلها وتقويمها. والفلسفة لا تخرج عن كونها محاولة إنسانية لتفسير الحياة، وتبرير الوجود، وتأويل الواقع. واما كانت الفلسفة ذات طابع إنساني عام، أو صبغة عقلية كلية، فذلك لأنها تستثير اهتمام كل فرد منا كائناً من كان، إذ ليس بيننا من لم تؤرقه يوماً ما بعض المشكلات حول مصيره، أو حريته، أو قصور معرفته، أو شقاء حياته، أو قلق ضميره، أو فناء وجوده...إلخ. والفلسفة وليدة الدهشة، فالدهشة، كما يقول أرسطو، هي:"الأم التي أنجبت لنا الفلسفة". والفلسفة، تلك الروح التساؤلية التي تقترن دائماً بأداة الاستفهام الكبرى؛لمَ، أو لماذا؟(1). لقد كانت الفلسفة محور اهتمام ابن رشد، ولم يكن من السهل تعاطي الفلسفة في عصره الذي كان فيه للفقهاء المتعصبين نفوذاً كبيراً (2).

أنفاس عادة ما يتم الأخذ بسنة 1798م كبداية لمشروع النهضة العربية، التي حاولت تغيير واقع الإنسان المفتقر للعلم والتفكير العقلاني والممارسة الديمقراطية.  من الجلي أنه على ما يزيد من قرنين مرا على محاولة تحقيق ذلك، ما زالت الكثير من إشكاليات النهضة لم تحل لأنه مازال المفكر العربي إلى الآن يطرح نفس الإشكاليات النهضوية حول الدين والفلسفة، الدين والسياسة، وقيمة المعرفة العقلانية مقابل المعرفة الدينية، وطبيعة العلاقة المفترض إقامتها مع الغرب. حيث يقول برهان غليون: <<...بل أن العديد من المثقفين انتبهوا إلى أننا عدنا نطرح اليوم نفس المشكلات التي كان يطرحها منذ أكثر من قرن جيل النهضة.>>()، ويظهر أن العائق المركزي الذي أدى إلى الفشل في تحقيق النهضة، والذي انتبه إليه من انصب اشتغالهم على نقد مشروع النهضة، يتمثل في ميل المفكرين إلى اتخاذ المواقف التوفيقية، وقبول الحلول الوسطى. هذه التوفيقية أو كما سماها نصر حامد أبو زيد بالتلفيقية تجنح في آخر المطاف إلى التمسك بالماضي وبالدين أساسا. وقد اكتفى رجال الإصلاح بتقليد المرحلة الأولى من الحداثة الأوروبية. كما رأى بن مزيان بن شرقي() في كتابه "التاريخ والمصير". لأن المستوى الأول من الحداثة الغربية كان يتجه إلى استرجاع التراث الإغريقي، أما المستوى الثاني فعلى العكس اتجه إلى المستقبل بعد تطور العلوم التجريبية. وهذا ما يفسر أن العرب بقوا حتى سنة 1967م يريدون تغير أحوالهم باسم مشاركتهم السابقة في الحضارة. وميل مصلحي النهضة إلى الماضي لم يكن عفويا بل كان نتيجة ما تعرضوا له من ضغوطات جعلتهم يقدمون تنازلات و ترضيات للاتجاه السلفي. إذا ما هي الأسس الفكرية التي بني عليها مشروع النهضة العربية الإسلامية، وما حقيقة العوائق التي حالت دون أن يحقق أهدافه؟
اuالالصة بية ممثلcolor: #800000">1- في مفهوم الحداثة:<خالصة لوu>اbr /> الحداثة نمط حياتي يتجسد فيه مستوى وعي الجماعة حسب جون بودريار. وهي عكس عالم التقاليد، لأن مصطلح حداثة/Modernité مشتقة من الكلمة اللاتينيةModernus" " وتعني "الآن" أو الزمن الحاضر. في حين أن التقليد يرجع إلى الزمن الماضي، والأصل ""Modus يعني يقيس، لذلك هناك ارتباط وثيق بين الحداثة والعقلانية والعلم. يقول ألان توران: << فكرة الحداثة تغير الله من مركز المجتمع وتستبدله بالعلم، تاركة الإيمان الديني داخل الحياة الخاصة، ولا يكفي حضور التطبيقات التكنولوجية حتى نتكلم عن الحداثة، يجب بالإضافة أن يكون النشاط العقلي محميا من الدعايات السياسية أو المعتقدات الدينية.>>(). إن منشأ الحداثة في الغرب مرتبط بتغيير العلاقة التي كانت موجودة بين الدين والحياة السياسية والاجتماعية، بحيث تم زحزحة المعتقدات الدينية من مركز الحياة ليحل محلها العقل والعلم. بعد أن عانى العقل من الممارسات السياسية والدينية السائدة في العصور الوسطى، والتي فرضت عليه وصاية محاكم التفتيش.
اوdiv>

أنفاس" إن التعدد يظهر بالخصوص كشرط ضروري لكل حياة سياسية"[1]
يتعلق الأمر بتوسع للصحراء ومقاومة الواحة لهذا التوسع،فالصحراء هي رمز للقحط والجدب أين يعم الهلع والجوع والعطش وينعدم الأمن وتقل فرص الحياة ويقتل الأمل أما الواحة فترمز إلى الحياة والماء والخصب والراحة والإنسان أين تعم السكينة والأمن وسط الأهل وحيث توزع القبيلة منظومتها القيمية على ضيوفها مناصفة، وقد سلكت حنا أرندت عبر هذا المجاز طريقها في الفلسفة العملية نحو الإجابة عن سؤال:هل مازال لعلم السياسة معنى؟ وقامت بتحديد ماهية السياسة بكونها زرع الأمل في الحياة المشتركة على الرغم من التنوع والتعدد بين البشر وعلى الرغم من توسع الصحراء واكتساح طوفان العدم الوجود، ولقد كانت رسائلها إلى كارل ياسبرس ومارتن هيدجر متجهة نحو هذا الغرض وكانت كل مرة تخط فيها تخوفاتها وإدانتها للسياسة الشمولية وللحروب المشتعلة في العالم دون أي مبرر إنساني ودون ضرورة حياتية تقتضي ذلك. لقد رأت أرندت أنه ينبغي أن نكتب مدخل إلى السياسة حتى نساعد الفاعلين السياسيين ونجعلنهم ينخرطون فيها باقتدار ويتنزل عملها ضمن ما يعركه الجسم الانساني من أثر بيديه من أجل مقاومة ممكنة لكل أشكال الشمولية. كان هذا الوضع المتفجر كافيا حتى تسارع إلى كتابة أطروحة حول فلسفة القديس أوغسطين لتردفها فيما بعد بكتاب عن "شرط الانسان الحديث" أين ميزت فيه ببراعة بين العمل والأثر والفعل مشككة في امكانية تأثير الأفكار الفلسفية علي الواقع وتغيير شكل التاريخ وفق مخطط مرسوم مسبقا كما تدعي المثالية الألمانية في نسختها اليسارية الهيجلية.  [2]
لقد رفضت هذه الفيلسوفة منذ البداية ادعاء التأسيس fondation الذي كثيرا ما ارتبط عند البعض من الفلاسفة بتوهم الريادة والتفرد والسبق وأطلقت صيحات فزع من الكارثة التي حلت بالكوكب بعد صعود النزعات غير العقلانية ورأت في فكر أوغسطين اللحظة التي انفجر فيها الثالوث الروماني:الدين والسلطة والتراث أين تصور الخيال كتعبير عن الحياة النشطة التي يظهر عليها الانسان كحيوان سياسي والتي يسميها أرسطو:"الحياة المخصصة للشؤون السياسية العمومية".  وعن سؤال هل مازال بعد للسياسة معنى؟ la politique a-t-elle finalement encore un sens ?   تجيب الكاتبة :"إن معنى السياسة هو الحرية"  « le sens de la politique est la liberté »  بمعنى أن الحرية تتحقق عندما يستكمل المرء فعله السياسي ويصل به إلى مقاصده ومراميه وترى حنا أن السياسة تقوم على واقعة التعدد البشري، " فبقدر ما تكون ثمة شعوب بقدر ما يكون هناك عالم" لأن الله خلق الانسان موحدا بينما الناس هم من إنتاج الطبيعة البشرية يجتمعون في مجموعات أساسية ومحددة في شكل فوضى كلية من الاختلافات بعبارة أخرى هم منتوج بشري أرضي.

4في عصر سيطرة التقنية، التي تتجلى إحدى مظاهرها في الحضور المكثف للأشياء الإلكترونية في حياتنا اليومية، وفي الميل إلى التعامل التدبيري، والوظيفي المحض مع الوجود، كما تتجلى في انشغالات علماء الفلك اليوم بإمكانية الحياة في فضاء الكون الواسع وربما بكيفية لا تشبه حياتنا على كوكب الأرض؛ في هذا العصر أضحى الالتباس واضحا في تقدير المسافة الممكنة بين الواقعي والمتخيل إلى درجة بات ممكنا اليوم الحديث عن متخيل واقعي أو عن ميتولوجيا الواقع.
في ظل هذا العصر وقوته التقنية الجارفة التي تتجلى في لغة الحساب الرياضي وفي النزعة نحو التحكم عن بعد في الموجود، كيف يمكن الحديث عن منزلة للخيال؟ وبأي معنى لا زال ممكنا اعتبار الخيال مصدرا للتوهم؟ ومتى كانت الحياة تستقيم بدون وهم؟ الحقيقة هي أن التوهم واحد البشر والعصور. وبما أن حقيقته هي كذلك، فإن التوهم كالضلال أو الخطأ ليس مسألة منهج بقدرما هو مسألة قدر، قدر الحيوان العاقل ومصيره. نقول ذلك لأنه الكائن الوحيد الذي يقيم داخل العالم. أما الأنعام فهي كائنات حية تشترك معنا في أمور، غير أنها لا تكابد مسألة السكن في العالم ولا مسألة التوهم والضلال أو المجاز. والفاصل بيننا وبينها هو اللغة. لكن اللغة هنا ليس كما هو متداول مفهومها لدى اللسانين أو لدى المشتغلين بعلم الدلالة، وإنما اللغة هنا في بعدها الأنطولوجي، اللغة باعتبارها مقطن الوجود. والعالم بالنسبة للإنسان كالماء بالنسبة للسمك.

بناء على ما تقدم نتساءل بأي معنى يتعين التفكير في مسألة الخيال في ارتباط بالعالم وبالإقامة والسكن والعصر عصر التقنية، العصر الذي أضحى فيه "المجاز الهندسي أعقد وأعمق وأدق من المجاز الشعري أو المجاز العلمي أو المجاز الأسطوري"(*)؟

I

التفكير في الخيال، مثله في ذلك مثل التفكير في الحواس والانفعال أو في الجسد وجنونه، يفرض حوارا ما مع الأفلاطونية، خاصة وأن نموذجها الأول -أفلاطون- قد اهتم بشكل كبير بهذه الأمور في الوقت الذي تحدث فيه عن تأثير المرايا والانعكاس، أو عن الحس المشترك، أو عن الأصل والنسخة، أو عن الحق والظاهر. وكان لذلك ارتباط بحديثه عن أنماط الصور، الصورة الأيقونة والصورة المحرفة وصورة الصور. في إطار هذا الحديث تم التشريع مع أفلاطون لما اعتدنا عليه من تمييز مانوي بين الحقيقي والواهم أو بين الموجود الحق والخيالي.

لقد شكل الخيال، دائما، بالنسبة للفلسفة، منذ نشأتها كميتافيزيقا إلى اليوم أمرا محيرا. وما تميز به في خطابها هو أنه "شيء" يتمنع عن كل تحديد صارم، مثله في ذلك مثل المسائل الجوهرية أو القضايا التي اعتبرت من قبيل العويص في الفلسفة.

أنفاس

إن بناء عقل فلسفي نقدي وتجاوز أسس الميتافيزيقا المتعالية والمطلقة المؤسسة على مقولة الجوهر، لهما مطمح المثقف العربي الراغب في التنوير لا شرعنة اللاعقل وسلطة التراث. وفي هذا السياق يفرض على الفكر الفلسفي، في مجتمعنا، أن لا يتحول إلى محض تأملات ومتاهات وخواطر، بل عليه الالتحام بالنقد العقلاني في أفق بلورة نظرية فلسفية جديرة بالمتابعة والمساءلة. وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال، وبحكم ضرورات إبيستيمولوجية، إلا بالقطع مع العقل المفارق والماهية والجوهر والحقيقة المتعالية، وعودة الأصل. ويمكن أن يشكل هذا أساس كل فعل فلسفي منهجي وعلمي وتاريخي يبدع ويجدد، ويقلق من دون خضوع للانغلاق. ولكن مسار هذا الرهان لن يتأتى إلا بتجذير عقلاني لمفهوم فلسفي وتاريخي داخل مشروع العقل، وهو: الاختلاف (différence). وقد يقود هذا الأمر إلى نقض كل عمليات تصنيم المطلق والفكر الماهوي، وبالتالي فسح المجال أمام حوار نقدي-وتفكيكي مع كل أنماط الخطاب والوجود التي تؤجل ميلاد فلسفة اختلافية عربية معاصرة. إن إنجازات الحداثة الغربية، على المستوى الفلسفي، ومنذ كانط إلى فلسفة الاختلاف، تقدم إمكانات كثيرة لنقد آليات اشتعال المطلق وتمركز المتعالي وتمأسس الأسطورة.

وإذا كان شعار الاختلاف يرفع من حين لآخر لضرورته التاريخية والفلسفية، فإن منطق الفكر العربي ما زال لا يكثف المفهوم لصالح الاستقلالية التامة للإنسان والمعرفة العقلانية، ضد كل ميتافيزيقا تحاول إلغاء الاختلاف ذاته، وبالتالي العقل النقدي. فالاستيعاب العميق للفكر الحداثي والما بعد-حداثي سيساعد على بناء تصور للاختلاف من داخل الواقع التاريخي والاجتماعي. إذ كيف يمكن أن نكون متساويين في المطلق ومختلفين في الثروة والملكية والحقوق وأداة السلطة والمعرفة؟ وكيف يلغى الاختلاف المادي لصالح التماهي والتساوي في المطلق؟ تلك هي ميتافيزيقا الهوية التي تحكم كل فكر مثالي وكل فلسفة متعالية قد تتكلم عن الاختلاف في المطلق من أجل اغتياله ضد العلم التاريخي الناقد لكل ميتافيزيقا تماثلية ما زالت تحاصر الفكر العربي، وتكرس المبدأ الواحد في الوجود والثقافة والسياسة. ولا ننسى أن الكثير من النظريات الفلسفية الرائجة في الوطن العربي مازالت تنهل من منطق الواحد والوحدة الذي نظر له كل من أفلاطون وبارميندس وأفلوطين وابن سينا وغيرهم. وبدون تجاوز منطق الهوية ومبدأ الوحدة وفرض استقلالية العقل النقدي الاختلافي فلن يستطيع الفكر العربي التحرر من سلطة التراث واللامعقول. فلا اختلاف إذن دون وعي بالتناقض المؤسس ماديا لا ذاتويا ودينيا بالمعنى الكير كجاردي (نسبة إلى الفيلسوف سورن كيركجارد).

أنفاس

"

"لقد اضطر الفكر العلمي الى فصل هذا التلاحم بين حكم القيمة والتحليل،لأنه كان قد بدأ يتبين أكثر فأكثر أن القيم الفلسفية لا تسمح بتنظيم المجتمع ولا بتحويل الطبيعة.فلقد كانت هذه القيم عديمة النجع وكانت تفتقر الى الواقعية."1
يا لصدمة الفيلسوف زمن العولمة! ويا لوضعيته الصعبة! فهو على ظاهر وصوله الى المعرفة المطلقة وتشييده للنسق الذي أكمل خدمات الواقع وصار لغته مازال بعد أخف من الملائكة مثقفا هائما وإنسانا جهولا "علمنا شيئا وغيب عنا عدة أشياء"،لا يعرف"كيف يقول؟ ولا ماذا يقول؟". ألا ترى كيف أنه يؤثر الهدم على البناء والتفكيك على التأسيس والافتقاد على الامتلاء ويحاول جاهدا الكشف عن العدم ونقد النظريات دون أن يقتفي آثار المعنى ودون أن يأخذ بعين الاعتبار المشاكل الواقعية الملحة ثم ألا ترى كيف أنه يلقي بنفسه إلى الأمام وفي المجهول عن طريق العودة إلى الأصول والوقوف عند الأسس ويزعم تحقيق الصعود والنهوض من خلال القيام بخطوات إلى الوراء والتواري عن الأنظار كما يفعل الجهلة من الخلق؟هل هناك شيء أسوأ من أن يتحقق الإكتمال النظري للفلسفة عن طريق تحويل الجدال الفكري بين العلماء إلى صراع فعلي بين البشر وحروب بين الدول وصدام بين الحضارات؟ بأي معنى تنجز الفلسفة نفسها ذاتيا وتسمى عناقا للعالم لما تتجاوزه فعليا وتتعالى عليه ولم يعد بينها وبينه أي علاقة سوى التأمل النظري؟ لكن لو كان ما يدعيه هذا الفيلسوف صحيحا فيا ترى كيف بالتأمل الذي ينغمس فيه الفيلسوف عروجا إلى الحق يفضي به إلى مستنقع الأوهام؟ ألا يجدر به هنا "أن يتخلى عن وضع يكون في حاجة إلى الأوهام عوض أن يحاول التخلص من الأوهام المتعلقة بوضعه"؟ ألم يكن يريد إقامة حقيقة العالم بإزالة عالم ماوراء الحقيقة؟ فلماذا هو يهتم الآن بالأفكار كما لو كانت كيانات مستقلة لا تخضع إلا لقوانينها الخاصة ويدعي أنها قادرة على الفعل في الأشياء والتأثير على الأشخاص ويضع العدم إلها مطلقا ليغتاب به الوجود الحقيقي ويدجن براءة الصيرورة؟وهل بعد هذا نستغرب أن هذا الفيلسوف في مأزق ومن أن وجود الفلسفة في حد ذاتها في وضع متناقض؟ إذ كيف نفهم هذا اللبس: كلما استحدث الفيلسوف شيئا سابغا عليه أوصاف الكمال والأبدية ما لبث أن تأذى منه بوجه من الوجوه وحجب ظهور هذا الشيء أبعاد أخرى وكلما أرادت الفلسفة أن تفضح الأوهام وتقضي على التشويهات التي يتعرض لها الإنسان في وجوده والقيمة التي يمنحها لنفسه وللأشياء التي تحيط به كلما وجدت نفسها هي أيضا كنوع من التشويه الذي يحول الأوهام إلى حقائق والإستعارات الميتة إلى قيم ومبادئ؟

ما أشد غربة هذا الفيلسوف وما أعظم غفلته يمضي إلى تدبر أمر الوجود متفقها في الأدوار التي تنهض بها اللغة محولا الوقائع إلى تأويلات دون أن يبالي بالمنعرج الذي حدث للغة وللتغير الذي طرأ على نظام الخطاب.

أنفاس1 - مقدمة:
على القارئ العربي أن يَعلَم بأنّ كلّ مَن يَنقد فِكر نيتشه أو هايدغر أو أيّ فيلسوف غربي آخر، لا يجب ضرورة أن يُصَنَّّف في خانة الإرتكاسيّين الذين يَكِنّون عداء مَرَضيّا للفكر الغربي أو يرغبون في إقصائه على أساس أنه فكر دخيل لا يتماشى مع ثقافتنا العربية الإسلامية. العالم الإسلامي يَتميّز عن الغرب المسيحي بروحانياته وتديّنه وأخلاقه الإنسانية العالية، في حين يَلهث الغرب نحو المادّة ويتشبّث بالأشياء الزائلة، ناسيا الأهمّ، أي الروح وغير مُعتنٍ بمقوّمات الدين الحقّ والأخلاق السّليمة. هذه التخمينات الرائجة في كثير من أوساط شبه المثقفين الأصوليين، تعكس الوجه الآخر لأطروحات مفكري اليمين الغربي المتطرّف ولمُنظّريه الرجعيّين الذين قَويت شوكتهم الآن وأصبحوا من دعاة صراع الحضارات وفضل الحضارة الغربية ومبادئها الإنسانية الشاملة على جميع الحضارات الأخرى. إنهم يرون أن الفكر الغربي الديمقراطي بعيد كلّ البعد عن الفكر المتأتي من الشعوب الأخرى وغريب عن تقاليد الشرق، وبالأخصّ الشرق الإسلامي الذي بَقي على علاّته وبطبيعته سجين اللاعقل والدكتاتورية وعبادة الأشخاص. هذه ليست بالأفكار الجديدة، بل إنّها الأرضيّة الإيديولوجية لكلّ هجمة استعمارية سواء غربية مسيحية أو حتى عربية إسلامية. كاتب هذه السطور يعارض كليهما، ويعتقد، في ما يخصّ عالمنا العربي الإسلامي الذي كثيرا ما كُبتت فيه الروح النقدية، أن الإشكال له استتباعات مستقبليّة مُحدّدة وخطيرة في مجال الإنتاج الثقافي والعلمي: المثقفون العرب المتعاطفون مع هايدغر وأتباعه، والمائلون إلى تبنّي أطروحاتهم الفلسفية وآراءهم حول الحداثة وما بعد الحداثة، قد يشعرون بالإمتعاض من النقد القاسي لِمَعَالمهم وقد يُصيبهم الذّعر معتقدين أن الناقد تحرّكه أغراض إيديولوجية بحتة أو، على الأقلّ، يضرّ بالفلسفة لأنّه يقدّم معطيات وأفكار مضادّة يمكن لأيّ تيّار رجعي إسلاموي قومي أن يستبدّ بها.  كاتب هذه السطور واعِ بهذا الأمر، ولا يستبعد قطّ أن يستغلّ الظلاميّون مكاسب الحداثة لتوجيهها ضدّ الحداثة ذاتها، أو أن يستثمروا النقد الموجّه لأعلام الفلسفة الغربية لصالح تمرير خطابهم الرّجعي. هذا أمر محتمل، بل وارد ومعاين مباشرة من خلال كتاباتهم وتنظيراتهم التي قطفت القشور وتركت لبّ المسائل ومغزاها. إنها عملية تحطّ من الفكر العربي وتُجهض صيرورته التقدّميّة من الأساس. فعلا، أن يستحوذ أحدهم على مكاسب النقد ويستغلّها لصالح تمرير خطابه اللاعقلاني، فهذا أشدّ التّنكيل الذي يمكن أن تخضع إليه الفلسفة والفكر الحرّ. مَن ينتَهج هذا النهج  ومن يَعتمد هذه التقنية في التنظير، فقد أوصد أمامه أبواب الحوار الجدّي وأعرض عن التفكير البناء. الفكر بصفة عامة ومنتوجات الروح والفلسفة بصفة خاصة إمّا أن تكون كلية شاملة أو لا تكون. مَن يتفلسف في نطاقه الضيّق ويكتفي بالتنظير في صلب ثقافة محدّدة فإنه يخاطر بأن يسجن مؤبدا فكره وأن يقدّم الذريعة للشّكّاك المناهضين لرفض أفكاره واعتبارها مُجرّد نزوات فرديّة لا تتقاسم همومها الإنسانية جمعاء.