أنفاستقــديم:
يتميز درس الفلسفة من جملة ما يتميز به، بكونه يضع نفسه دائنا على دوام البداية، و هو وضع يجعل منه درسا متجددا باستمرار، تتملكه حركة دؤوبة تقوده ـ على حد قول ميرلوبونتي ـ من الجهل إلى المعرفة، و من المعرفة إلى الجهل.
درس الفلسفة درس يكشف عن اشتغال العقل في معالجته للإشكالات الفلسفية الكبرى،    و في مواجهته للقضايا الشائكة التي تطرح على الإنسان في علاقته بالعالم،و الآخرين و الذات. يقودنا فعل الفلسفة إلى صلب هذه القضايا و جوهرها، واضعاً إيانا أمام الإجابات التي قدمها الفلاسفة عبر التاريخ، و على اختلاف الحقب و الثقافات. من هنا تكون العودة لنصوص الفلاسفة و كتاباتهم مناسبة بامتياز لولوج عالم الفلسفة. هذا العالم الذي اكتشفه الإغريق، و حلت به شعوب و حضارات تاركة إرثها الحضاري، علامات على انخراطها في هذا الموروث، و كأن لسان حالها يقول: « لقد مررنا من هنا ».
لا يتعلق الأمر هنا بالتفكير في قضايا سبق التفكير فيها، بل هو أبسط من ذلك، و قد يكون أعقد، بحيث طُـلب من فلاسفة الحلول محل التلاميذ،  بالإجابة ضمن شروط تربوية شبيهة بتلك التي تجرى فيها الامتحانات، عن أسئلة فلسفية هي في الأصل موضوعات سبق للتلاميذ مواجهتها  في امتحانات الباكالوريا. نحن إذن أمام كتابة فلسفية على نحو آخر، كتابة تقوم على مساءلة السؤال في حد ذاته، و على تفكيك عناصره، لا من أجل تقديم الإجابة الجاهزة، بل بغية تبيان حركية الفكر و كيفية اشتغاله، إنها كتابة تستمد خصوصيتها بحكم انتمائها لفضاءين متميزين، فضاء المؤسسة بحكم خصوصيته، و فضاء الفكر الفلسفي في تميزه و شساعته.
أنجز هذا العمل، مجموعة من المفكرين و الفلاسفة، من بينهم:
بيير هادو Pierre Hadot فيلسوف، أستاذ بكوليج دو فرانس، متخصص في الفلسفة اليونانية و الرومانية. يدافع عن الفلسفة بوصفها فن العيش، و نمط في الحياة. اهتم بالتجارب الروحية في الفلسفة اليونانية، من مؤلفاته مدخل لدراسة فكر مارك أوريل ( 1992 )، ما الفلسفة اليونانية؟ التجارب الروحية و الفلسفة اليونانية ( 1987 ).

أنفاستمهيد:
قد يبدو الأمر مثيرا للحيرة، حين نحاول البحث عن فكرة "حقوق الإنسان" انطلاقا من التاريخ الفلسفي، خاصة و نحن نعيش في عصر يشهد توظيفا متناميا لحقوق الإنسان، بعد أن تبلورت في المواثيق و معاهدات مؤسسة ترعاها المنضمات الدولية.
فإذا كانت "حقوق الإنسان" تشهد كل هذا الرواج، فما الذي سيضيفه العودة إلى جذور هذه الفكرة؟ أم أن في الواقع ما يدعو إلى الاهتمام بها أكثر، خاصة و أن حقوق الإنسان على الصعيد الواقعي تشهد تشويها و توظيفا إيديولوجيا، مما يجعل من هذه المنظومة مجرد شعار أو ظلت في مستوى "النوايا الحسنة" على حد عبارة كانط.
فهل يمكن القول أن الانتهاك الكبير الذي تتعرض له حقوق الإنسان يعود إلى كونها فكرة لم تتأصل بالشكل الكافي و هو ما يعرضها للتجاوز و التحريف؟ و أنها لازالت تحتاج إلى تجذير أو "تأسيس" خاصة و أن التأسيس يعني " الأساس و العماد الذي يقوم عليه البناء بمعنى الركائز و الدعائم"، و التأسيس هو التشييد و البناء ذاته.
بمعنى آخر التأسيس هو البناء النظري و يقابله على الصعيد التجريبي الالتزام؟
 و لكن على ماذا تتأسس حقوق الإنسان؟ هل على الحق الطبيعي أم على القانون الأخلاقي؟
سواء كانت حقوق الإنسان تتأسس على الحقوق الطبيعية للإنسان أو القانون الأخلاقي، فإن ما يمكن التأكيد عليه أن "حقوق الإنسان" حق من حقوقه ، فهي جوهرية جوهرية الذات لأن الإنسان ليس سوى حقوقه. فإذا لم تكن  حقوق الإنسان مجرد ملحق أو فكرة تضاف للإنسان، فإنها ليست ابداع للعصر الراهن، و إنها فكرة الإنسان ذاتها تستبطن فكرة الحقوق. إن هذا يعطي لنا مشروعية البحث في أصل و أساس حقوق الإنسان، حتى نتمكن من الدفاع عنها  كجوهر أصلي. و هو ما يبرر العودة إلى فكر الأنوار حيث عرفت هذه الفكرة مخاضا فلسفيا مع فلاسفة العقد الاجتماعي و فيلسوف الأنوار كانط، حيث بدأت تتأسس فكرة حقوق الإنسان انطلاقا من سؤال "ما الإنسان؟" و هو ما يعني أن التفكير في "حقوق الإنسان" كان بالانطلاق من البحث عن تعريف للإنسان. فأي حقوق؟ لأي إنسان؟
إن البحث في حقوق الإنسان لا يكون إلا بتحديد ما هو الإنسان؟ لذلك سنبدأ بالإجابة عن هذا السؤال؟

أنفاس السؤال عن الحقيقة هو السؤال الحقيقي في الفلسفة ولذلك يطرح بشكل حقيقي إذا ما ربطناه بالسؤال عن الزمن وقلبناه على جميع وجوهه وشرعنا في البحث عن نقيضه أي السؤال عن الخطأ وإذا ما عرضناه وشرحناه على مشرحة التاريخ والزمن ولكن تشريح السؤال عن الحقيقة على محك الزمن هو الذي يوقعه في أزمة ويحوله إلى مفارقة ليس لنا منها مخرج، فكيف سيعمل دولوز على إيجاد حل لمفارقة الحقيقة عندما يستنجد بمفاهيم لايبنتز عن الممكن واللامتجانس واللاتمايزية ويرجها بواسطة المطرقة النتشوية؟
"إذا ما اعتبرنا التاريخ الفكري فإننا نلاحظ أن الزمن كان دائما وأبدا مصدر أزمة تصور الحقيقة.. وما يوقع الحقيقة في أزمة ليست الحقيقة التي تتنوع عبر العصور  وليس المضمون التجريبي البسيط بل الشكل أو بالأحرى القوة المحضة للزمن .
تتفجر هذه الأزمة منذ القديم في مفارقة أشكال المستقبل الحدثي. إذ لو كان صحيحا أن معركة بحرية يمكن أن تحدث غدا فكيف نتجنب أحد النتيجتين الآتيتين: إما أن ينبثق المستحيل من الممكن( لأن المعرفة لو حدثت فانه لا يمكن أن تحدث) وإما ألا يكون الماضي ضروريا ( لأن المعركة يمكن ألا تحدث).
 انه من اليسير أن نعالج هذه المفارقة معالجة جدلية: إذا لم نبين على الأقل صعوبة التفكير في العلاقة المباشرة بين الحقيقة وشكل الزمن فإننا نكون محل اتهام لكوننا أسكنا الحق بعيدا عن الموجود أي في الأبد أو ما يحاكي الأبد. ينبغي أن ننتظر لايبنتز حتى تجد هذه المفارقة الحل الأكثر براعة ولكنه أيضا الأكثر غرابة والتفافا.
 لقد ذكر لايبنتز أن المعركة البحرية يمكن أن تحدث أو لا يمكن حدوثها ، غير أن هذا لا يحدث في عالم واحد، أي يمكن حدوثها في عالم ولا يمكن حدوثها في عالم آخر، وهذان العالمان هما ممكنان ولكنهما لامتجانسان مع بعضهما البعض. ينبغي أن نختلق التصور الرائع عن اللامتجانس (المختلف عن المتناقض) لكي نحل المفارقة التي تنقذ الحقيقة.

أنفاسلعل ما حققته علوم الطبيعة من نجاحات باهرة سيما في مجالي الفيزياء والكيمياء كان مدعاة للتراجع الحاصل في مضمار الفلسفة بعد ان كانت هذه الاخيرة امأً للعلوم والمحدد لها في النظام العام للفكر الانساني .. لكن ـ منذ القرن التاسع عشر ـ طفقت تلك العلوم تنفصل عن امّها حتى قال اغيست كونت : (( آن الاوان لنحد من غرور الفلسفة )) ، وحجم عملها واناط بها فقط مسؤولية تنظيم العلوم وتنسيق نتائجها .. غير ان تلك المهمة ما برحت تنحسر بعد ان استبدل (( الانجلوسكسونيون )) الفلسفة بالمنطق واطمانوا الى تقليده تلك المهمة.
 يمكن القول ان استقلال العلوم عن الفلسفة نجم عن اعتماد هاتيك العلوم على الرياضيات التي لا تحتاج الى علل ما ورائية لكي تكون يقينية .. بخلاف ما كان ما يظنه (( ارسطو )) من (( ان حقيقة الموجودات تكمن في عللها القصوى )) .
       من هنا ميز (( كانت )) بين الاحكام الرياضية والاحكام الماورائية واسبغ المشروعية على الاولى فيما وصم الثانية بالسببية في تكوين في تكوين اوهام العقل ، وبقول آخر فان العلوم تهتم بالكيفية التي تجري بها الاحداث لا باسبابها وعللها القصوى التي هي مركزالبحث الفلسفي المبني دائما على السؤال : لماذا ؟ .
       كانت الابستمولوجيا في الماضي تعرف بكونها خطابا فلسفيا حول العلم أي مجرد كلام حول اصول العلم ونتائجه ، فيما صار معناها بعد انفصال العلوم عن الفلسفة الى خطاب علمي حول العلم او دراسة علمية للعلم او تسمى (( علم العلوم )) .
       فيما خلصت النظرة العلمية الجديدة الى اسباغ معنى اكثر جدوى على الابستمولوجيا عندما وسمتها بانها بحث نقدي في مبادىء العلوم واصولها واهدافها وعلاقتها بالانسان والمجتمع والطبيعة .. لكننا يجب ان نستدرك فيما اذا عتبرنا الابستمولوجيا ـ كنظرية منطقية تضبط اسس وقواعد علم ما ـ هي ذاتها علم ، لانها والحال هذه تحتاج بدورها الى نظرية اخرى تضبط اسسها وقواعدها وهكذا دواليك .. الامر الذي يمنعنا من دراسة العلوم بذات رموزها وقواعدها لان محاولاتنا هذه تضطرنا الى تجاوز اسس ذلك العلم للاحاطة بالظروف والمشكلات الناجمة عنه .

أنفاس"ينظر الفلاسفة إلى الأهواء التي تختلج في صدورنا على أنها رذائل نقع فيها بمحض إرادتنا ولذلك فقد تعودوا مقابلتها بالسخرية والعتاب واللوم بل وباللعن أيضا حتى يظهروا بمظهر الطهارة والعفة... وفعلا فإنهم لا ينظرون إلى البشر على حقيقتهم وإنما على نحو ما يرغبون."[1]
ربما لاحت صورة الفيلسوف زمن العولمة مفارقة لما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد على السواء، فهو لم يعد ذلك النسقي الذي يتدرج من منزلة إلى أخرى ولا ذلك المفكر الذي يتبع منهجا ويقود فكره بنظام، انه خارج مقولتي النسق والمنهج وقريب من تجربتي الحرية والترحال على طول مسطح المحايثة برا وبحرا وجوا، انه يعشق المبادأة ويتبع أسلوب الشذرة ويفضل الركض خلف السلحفاة تماما مثل أخيل الذي لا يلتحق أبدا، كما أنه لم يبق ذلك المربي الذي يملئ الدنيا ويقعدها وعظا ونصحا وإرشادا ولا رجل العلم الزاهد في استنباط القانون والمختص في إنقاذ الظواهر ولا ذلك الفنان عاشق الطبيعة والحريص على إظهار مسحة من الجمال في جميع آثاره ولا ذلك الناسك المتصوف الغارق في تأملاته والمبحر في موج اعترافاه بل أصبح هذا الطبيب السياسي المنقب عن العلل والمفتش عن الأمراض والشاعر الذي ينهمك في قص الوضعيات الحدية التي يعاني منها النوع الآدمي.
ربما يوجد هذا السارد المتفجع بالقرب من المدينة ويجعل من فكره شكلا من التجذر والالتزام بقضايا عصره، انه يفكر أكثر من كونه سيد تفكيره أو سيد التفكير بالنسبة للأجيال المتعاقبة وينزل إلى الشارع ويقابل الغرباء والمهمشين ويتفحص المارة ويشخص الأحوال ويلتفت إلى الأشياء المعروضة على قارعة الطريق ويهتم بالتجارب اليومية متلقطا المعنى وظافرا بالدلالة ومحددا المقصد، انه الباحث دوما عن الحقيقة المتخلي عن أكوام الأجوبة القديمة المفلسة، والمفتش عن الأسئلة الجديدة والباعث من الرماد للأسئلة الجديدة طالما أنها أسئلة الكينونة.

أنفاسمع تباشير ظهور عالم جديد .. ومع طوفان العولمة العاتي الذي يجتاح العالم بدفقات معرفية وتقنية متواصلة برفقة ضغوطات اخضاعية .. ديدنها الانسان،يمكن القول ان ثلاثة عوالم باتت تتجاذب     الانسان - لكل منها هويته ومركز استقطابه -  تؤلف مايمكن تسميته بثالوث الاصولية والحداثة والعولمة : فالاصولية تشتمل على العالم القديم باصولياته الدينية وتصوراته الماورائية .. وهو عالم قد استنفد قدرته على الابداع والابتكار منذ قرون خلت .. لاينتج الا بالاجترار كل تكرار ومعاد .. لذلك ماعادت تنفع محاولات استيعاب العالم وفهمه وتوجيهه بقيم الاصولية ووسائلها وادواتها ، والحداثة تشمل العالم الحداثي بطروحاته العلمانية  وتمجيده للعقل وادلجته الاممية  وتهويماته الانسانية القائمة على((الانسنة))التي تعطي للانسان مركزية الكون وسموه .. وبالتالي تسخير هذا الكون لمصلحته . ان ادوات المقاربة واشكال العقلنة وخطط التغيير ووسائل التعديل التي انتجتها الحداثة لم تعد تجدي في فهم العالم وهذا بالضبط مايشكل الاشكالية الكبرى .. اشكالية النهايات التي باتت تشكل مرحلة مفصلية - لافاصلة -  بين الحداثة  وما بعد الحداثة .. مرحلة الانتقال من الحداثة الى عصر العولمة التي تؤسس لعالم في طور التشكل ((اي عالم العولمة بفضائه السبراني ومجاله الاعلامي ، بانسانه العددي  ومواطنه الكوكبي )).. العولمة التي تنتقل بالانسان من عصر ((الانسنة)) الى عصر ((الكوننة)) التي تعني ان الانسان احد موجودات الطبيعة ومسؤول عن الحفاظ عليها .. ذلك العالم - العولمة -  الذي ((يخضع لتحولات تنقلب معها القيم والمفاهيم ، وتتغير المشروعات والمهمات ، بقدر ماتتجدد القوى  والوسائل والمؤسسات )).
لابد من القول ان الثقافة الجنائزية لم تبارح سيرورة الحداثة ، اذا لم نقل انها كانت تغازلها حتى تطارحها الهوى تارة وتنعاها وتبكي ايامها الاخيرة - نهاياتها- تارة اخرى .. وكانت الثقافة الجنائزية التي انتجتها الحداثة تشير الى تحولات نوعية ، وتعبر عن سرعة  التغير والانتقال في كل مستويات العصر الحديث .. وهي اذ تقيم مآتمية ((الموت والنهايات )) فانها تعكس ازمة الحداثة الدورية من جهة وتظهرالتحول الدوري المستمر في بنيات الحداثة من جهة اخرى .. ((كما تعكس فكرة اساسية تجمع بين كل هذه النهايات والموتات،  وهي غياب الفاعل المفرط او غياب الفاعل المطلق وسيادة السيرورات والصيرورات )) ..

أنفاس" ان معنى العقل في اللغة العربية وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق"[1]
محمد عابد الجابري
هناك تنافر حسب الرأي السائد بين الدين والعقل لاسيما وأن الدين يفيد الإيمان والاعتقاد والتسليم والطاعة والتقليد والنقل والتقديس بينما العقل يفيد التفكير والشك والرفض والحرية والإبداع والبرهان والتنسيب. زيادة على أن الدين ينطلق من فرضيات غير مثبتة وغير قابلة للعرض على محك التجربة ويفترض حقائق ماورائية وعوالم وكائنات غيبية في حين العقل يتحرك في فضاء السؤال ويشتغل على الوقائع والأحكام ويترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ويبني الحجة بالارتكاز على الحجة ويعتمد كليا على المنهج. لكن إلي أي مدى يجوز لنا الإقرار بوجود تنافر في المطلق بين العقل والدين؟
ألا يمكن أن نعثر على قرابة وتواشج بين ما يشرعه الله وما بحوزة الإنسان؟ ماذا نفعل أمام مصطلح عقل ديني عند أركون ودين في حدود العقل كما يقول كانط؟ هل أي دين حق ؟ متى أصبح العقل هو معيار الحق؟ وكيف شرع الإنسان في إعمال عقله من أجل البحث عن الدين الحق؟ هل يدعم الدين العقل أم يحد منه؟  وهل يثبت العقل الدين أم يشكك في صحته ويبطله؟ ماذا نعني بالدين؟ وهل هناك دين بمعزل عن العقل؟ كيف يمكن إيجاد معنى للعقل؟ وهل هناك عقل بمعزل عن الدين؟
 وماذا يحصل للدين لو نظرنا إليه من جهة العقل؟ وماهو مصير العقل لو حكمنا عليه من منظور الدين؟ هل يجوز الحديث عن دين عقلي وعقل ديني أم أن الدين هو لاعقلي بالضرورة والعقل هو لاديني من حيث الجوهر؟
ليس رهاننا هاهنا الدفاع عن الدين فهو قد جعل وسيلة من أجل الإنسان ويدافع عن نفسه بنفسه من خلال حاجة الإنسان إلى وجوده إلى جانبه ولكن غرضنا التشجيع على تعقل الوجود وإعمال العقل لأننا مقصرين في هذا المطلب رغم علمنا أن ذلك واجب ديني وطريق نحو رقينا وعزتنا.

أنفاسلماذا، عندما بدأ الإنسان
يعمل لكي يصبح إلها،
بدأ يعلو،
وعندما وصل إلى ما ظن أنها غايته،
أخذ ينحدر؟


أدونيس، من ديوان ليس الماء وحده
جوابا عن العطش

توطئة حول سؤال الحداثة في السياق الإسلامي
كثيرا ما يثار السؤال حول تأخر العرب والمسلمين التاريخي في "دخول الحداثة". وهذا سؤال في الحقيقة سؤال سيّء الطرح، لأنه يسلّم ضمنيا بوجود فضاء منجز للحداثة، وما على العرب والمسلمين إلا شحذ الهمة لدخوله، ضاربا صفحا عن مسار كامل للتاريخ الثقافي والحضاري الإسلامي. هذا الفضاء الحداثي المقصود هو الفضاء الأوروبي والغربي بوجه عام. على العرب الدخول إليه كما يقومون بزيارة لمدينة أوروبية، أو يختارون الإقامة فيها. بينما المشكل هو أن الإقامة في الحداثة لا تتأتى إلا لمن بنى حداثته بنفسه، لأن الحداثة الأصيلة ليست غزوا من خارج، بل فتحا وبناء من الداخل، حيث تعتمد كما نبه إلى ذلك آلان توران في "نقده للحداثة"، على ركيزتين هما الفرد (أي بناء مفهوم الإنسان الحر) والعقلانية، وهما يحيلان ضرورة إلى معنى البنائية التي لا تكون في الآخِرِ إلا ذاتية. وهذا يعني أن الحداثة ليست مجرد نتاج يوفره الآخر لنا كما يوفر لنا أي مادّة استهلاكية، بل هي بالأساس تمشٍّ واعٍ ونشط من أجل التحرر من الاستلاب الميتافيزيقي والثقافي اللاعقلاني، مقدمةً ضروريةً لسيادة العالم الطبيعي من قبل العقل العلمي المتجدد، ومن أجل التحرر من الاستلاب السياسي والاقتصادي شرطا ضروريا لسيادة الدولة من قبل إرادة الأفراد التفويضية المؤقتة، تتجدّد وفق قواعد اللعبة الديمقراطية.
فيصبح السؤال الأكثر أهمية هو: لماذا لم يفلح المسلمون في إنجاز حداثتهم بعدُ وكيف يتسنى لهم القيام بذلك؟

أنفاسيبدو أن الهم المركزي الذي يشغل الأستاذ طه عبد الرحمان هو التفكير في كيفية الخروج من دائرة التكرار والاجترار والتقليد والنقل إلى زمن الإبداع الفلسفي. ذلكم الإبداع الذي زان الإسهام الفلسفي العربي في اللحظات المشرقة من تاريخنا الفكري.
         هذا الإبداع يريده الأستاذ طه على ثلاث مستويات متداخلة:
1- مستوى فهم التراث
2- على مستوى الكتابة الفلسفية
3- على مستوى الترجمة
        1 – على مستوى فهم التراث يلاحظ الأستاذ طه بأن المعالجات التي اشتغلت بالتراث على إسقاط مفاهيم منقولة من التراث الفكري الغربي، جرى نقلها دون تمحيص ودون تبيئة، ودون مراعاة للمقتضيات الأساسية التي يفرضها المجال التداولي العربي والتي هي العقيدة واللغة والمعرفة.
وقد أدى هذا النقل إلى معالجات إيديولوجية قوامها النظرة التجزيئية للتراث، وتغليب الاشتغال بالمضامين على فهم الآليات. بينما يدعو الأستاذ طه إلى النظرة التكاملية للتراث نظرة معرفية تستهدف كشف الآليات كطريق إلى فهم المضامين. فهو يعارض المحاولات السابقة في هذين العنصرين: التجزيئية والنزعة الإيديولوجية المسيسة. لكن معارضته الكبرى تتجه لا فقط نحو هذه الطرائق، بل نحو طبيعة وماهية نهج المقاربة ذاته. فهو يدعو إلى إقامة ابستمولوجيا ذاتية مستقاة من التراث ذاته، وكأن الطريق الأمثل إلى فهم التراث هي المرأة الداخلية للتراث نفسه.
وقد سبق لي أن أبديت في قراءة سابقة لكتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" ملاحظات تساؤلية عن مدى علمية دعوى قراءة وتقويم التراث انطلاقا من مرآته الخاصة.
قد تكون هذه القراءة الداخلية ممكنة، بل ضرورية في مستوى أول، لكن قراءة هذا التراث وتقويمه تقويما علميا تكامليا لا يمكن أن تكون مهمة وافية وعصرية إلا عندما تقرؤه على ضوء المستجدات التي حملتها العلوم الإنسانية المعاصرة من لسانيات وسيميولوجيا وعلم النفس وأنثروبولوجيا... إلخ.

أنفاس"إن عقلانية باشلار ما فوق عقلانية. وهو يعرف كيف يُعلم العلم والحلم معاً".جان فال
مقدمة:
بدايةً، لا بُد من الاعتراف باستحالة الإحاطة بمشروع باشلار (Gaston Bashlard) المعرفي بجوانبه الإبستمولوجية، والعلمية، والتاريخية، والشاعرية في مقالة أو حتى في كتاب، ولكننا سنحاول في هذه المقالة عرض خيط رفيع من هذا المشروع العابر لجدلية: العلم والفلسفة، الاتصال والانقطاع، العقل والوجدان، الخيال والواقع، الحدس والتجريب، الموضوع والذات، وذلك بهدف تقديم مقاربة مغايرة لموضوع المعرفة العلمية، هذه المعرفة التي يُمكن رؤيتها من خلال منظورين: الأول، منظور عقلي-تجريبي، حيث المعرفة العلمية تخضع للتجربة والقياس المنطقي، وكل ظاهرة قابلة لأن يُعبَّر عنها بمعادلة رياضية دقيقة، وقد أفرز هذا المنظور اتجاهات تقتنع بموضوعية المعرفة العلمية وإمكانية فصل المعرفة عن الذات العارفة، ويُعد جاليليو (Galileo) وديكارت (René Descartes) من الآباء الروحيين لهذا المنظور، والثاني منظور يرى أثر العوامل النفسية والشروط الاجتماعية والمعتقدات الشخصية على النظريات العلمية، حيث أن هناك عناصر من الخيال والحدس تساهم في عملية تكوين المعارف العلمية أو صياغتها، ويُعتبر باشلار أهم دليل على هذا المنظور.إذن، في هذه المقالة سنتطرق إلى المشروع الباشلاري، كمشروع علمي- معرفي-فلسفي، تأسس على عقلانية علمية حاورت تجريبية بيكون (Francis Bacon) ووضعية كانط (Immanuel Kant)، متنقلاً من عقلانية تطبيقية إلى عقلانية صوفية انفتحت هذه الأخيرة على أشعار بودلير (Charles Pierre Baudelaire)، وريلكية (Rainer Maria Rilke)، ورومانتيكية نوفاليس (Novalis).  لقد وضع باشلار مشروعه في مراحله الأخيرة تحت راية التحليل النفسي وطاقات الشعر العالية.  ومن يعرف باشلار عالماً عقلانياً من خلال قراءات مؤلفاته الأولى: تكوين العقل العلمي، فلسفة اللا، العقلانية التطبيقية،... الخ، قد يستغرب من هذا الرجل العقلاني وضع مشروعه بعيداً عن عقلانية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بكل يقينياتها، والدخول فيها إلى مختبرات الشعر في كل ما تحمله من لايقين، ولكن نظرة باشلار للعقلانية تختلف عن نظرة عصر التنوير والفلسفة الوضعية، التي اعتقدت بفصل العقل عن اللامعقول، بفصل العلم عن الأدب، وقللت من دور الحدس والخيال في الوصول إلى المعرفة، ولم تعترف بالعلاقة الجدلية بين الوعي واللاوعي، وبين الحلم والواقع، على العكس فباشلار يرى أن تركيبتنا النفسية يشتبك فيها الواقع بالحلم، والوعي باللاوعي، والعقل بالخيال، لذلك فهو كثيراً ما كان يعثر على "نظرة ذات أعماق متكافئة من عنصري العقل والخيال، فالعلم والشعر لدى باشلار هما حدسان كامنان في الإبداع البشري، وهما الرغبة الكامنة لإضفاء معنى وجمال ما على العالم" (محمود، 2005: 7).  ولهذا، كان مشروع باشلار في مراحله الأخيرة يهدف لتوجيه العقل نحو المباهج الأخرى للرضا الفكري-مباهج العلم- تأسيساً على تحليل نفساني للمعرفة الموضوعية، حيث يُعتبر العلم بالنسبة له جمالية العقل، فلا فصل بين الواقع والحلم، بين الأدب والعلم، بين العقل والوجدان.

أنفاستمخضت حقوق الإنسان و التي تبدو اليوم، في غالب الأحيان، وكأنها مسألة بديهية وتلقائية، عن تحول عميق طال مفهوم طبيعة الحق. والذي امتد عبر مدة طويلة، منذ أفول العصور الوسطى إلى الثورة الفرنسية. هذا التحول هو الذي ولد، في جميع الميادين، ما يعرف بالحداثة.
في المجال الحقوقي، ما هي الخطوط العريضة، لما كان عليه مفهوم الحق قبل ً الحداثة ً؟ إن ميشال فيلي، وهو نموذج للمفكر أو الفقيه الروماني التائه في نهاية هذا القرن ( الروماني الذي، ربما، أعيد تكوينه جزئيا، لكن ذلك لا يغير في شيء من طابع تفكيره الروماني ) يقول إن الحق، حسب التصور التقليدي الذي نضج في روما بصفة خاصة، هو معرفة بالوقائع وقياس لها، و علاقة 1 **. وهذا الحق يوجهه قاض محايد، نزيه و متمثل لفكرة العدالة. فالحق ليس مطلبا ذاتيا بكل وأي شيء كان. كما أنه ليس أبدا - كما ُيعتقد اليوم – أمرا صادرا عن ً السيد ً و نتاجا للإرادة.  إنه اكتشاف بارع ومتأن   ودقيق للنسبة القائمة بين كمية الأشياء الموزعة و الكيفيات المختلفة للأفراد، ولتلك القائمة بين الأشياء المتبادلة. إن الحق هو تحقيق لعدالة تعرف كلاسيكيا بكونها تقوم على إعطاء كل ذي حق حقهius suum cuique tribuere  . وهو أمر تقوده الحكمة العمليةPrudence؛ وهي تدبير عملي يتعلق بقاعدة الاختيار، والذي لا ينصب على الاختيار بين خير وشر مطلقين، بل نسبيين و ملموسين. ولتحقيق ذلك، لا مجال هنا للصيغ الفضفاضة. بل يتطلب الأمر حضور معنى الوسط العادل ورأي القاضي المستنير بالمناظرة و التشاور، حيث يتطور الجدل لينتهي عبر الآراء المتضاربة إلى اكتشاف حل محتمل. وهو حل لا يدعي بلوغ كمال وهمي أو مفارق، بل يعبر فقط عن إرادة متواضعة للتطابق مع الواقع.
لا شك أن الإنسان كان حاضرا في تفكير القدامى، ككائن متميز باللوغوس، أي بالنطق والعقل والقدرة على الاختيار. ومتمتع بكرامة ذات قيمة سامية، رغم أن العبودية كانت أمرا مسلما به. لكن ما كان غريبا عن الفكر القديم، هو فكرة الحقوق الذاتية، أي تصور حق أساسي مرتبط بالفرد و مستنبط من طبيعته2…