إن دراسة فكرة "وحدة الوجود" بشكل متكامل تحتاج إلى جهود متضافرة ومتعددة تخصص لها، كما تحتاج إلى أن تعالج من زوايا مختلفة، بما أنها من إحدى المقولات الصوفية ذات المرتكزين الاجتماعي الأخلاقي، والمعرفي الفلسفي.
كما أن مقارنة ما ورد عن هذه الفكرة في دوائر حضارية مختلفة يجعل من الصعوبة بمكان الخروج بموقف موضوعي بعيد عن التلفيق، أو الإسقاط المتعسف، أو التقول ونسبة المتأخر إلى المتقدم، أو محاولة معالجة الظاهرة بنوع من التجزيء والتعميم الذي يقضي على جوهر المسألة.
ودراسة وحدة الوجود أيضاً، لا تنفك عن دراستها في صلتها بظاهرتي الزهد والتصوف، وبخاصة ظاهرة التصوف التي تعتبر ظاهرة عالمية، لا ترتبط بالدين تماماً بقدر ما ترتبط بالإنسان، أي أنها ليست ظاهرة دينية في جوهرها بقدر ما هي ظاهرة إنسانية، والدليل على ذلك أننا نجد كثيرا من المذاهب الوجودية المعاصرة في الغرب، والحركات الطقوسية، وجماعات العربدة وغيرها لا علاقة لها بالدين السائد في تلك المناطق، بل هي ظاهرة تشبه دائرة الدروشة الصوفية التي انتشرت في عهود انحطاط التصوف الإسلامي.
كما ينبغي في دراستنا لتطور حركة التصوف وما يتصل بها من أفكار، أن نميز بين التصوف باعتباره سلوكا، وبين التصوف باعتباره موقفا فلسفيا وفكريا، وهذا الأخير يتحول من انفعال بالوسط الاجتماعي والثقافي السائد إلى مشروع فكري ورؤية فلسفية، تحاول أن تقدم تفسيرا وتوجيها للواقع، وتعمل على تغييره وفق هذه الرؤية، كما أن التصوف في هذه الناحية يركز على الجوانب المعرفية أكثر من الجوانب الاجتماعية، وإن كانا لا ينفكان غالبا.
غير أن ما يحدث في التصوف عندما يصير موقفا فلسفيا أن هناك تحولاً قد حدث في الترتيب، فبدل أن يكون المتصوف تابعا للتيار العام أو منعزلا عنه، يصير منظراً وموجها وصائغا لمقولات فلسفية عن الكون والتكوين، وعن الله والعالم والعلاقة بينهما، والبحث في طريق آخر لهذه الصلة، ومصدرا آخر للمعرفة غير ما كان يسلكه الزاهد.
وفي هذا البحث نحاول دراسة فكرة "وحدة الوجود" باعتبارها موقفا فلسفيا، ولكن في صلته بالواقع الاجتماعي، أي ما يترتب عن القول بهذه الفكرة من ثمرات؛ كالالتزام بالأخلاق أو عدمه، والقول بأن هناك مصدرا للمعرفة يتجاوز الحس والعقل معا، والقول بوحدة الأديان والإنسان الكامل، والصيرورة إلى نوع من الجبرية واختلاط المفاهيم... الخ.
ونخصص هذا البحث لدراسة فكرة "وحدة الوجود" بنوع من المقارنة، بين كل من ابن عربي واسبينوزا. مع ملاحظة أنهما لم يكونا متعاصرين. كما يمكن الملاحظة أيضاً أنه في حين كان ابن عربي يلجأ إلى النصوص الدينية لتفسير مذهبيه، كان اسبينوزا يرتكز إلى العقل والفلسفة العقلانية التي وضع أسسها ديكارت، كما أنه كان يشنع على مقولات العهدين القديم والجديد في ما يتعلق بذات الله، وبالصلة به تعالى.
1 - وحدة الوجود اصطلاحا:
إن إعطاء معنى اصطلاحي واحد لوحدة الوجود من الصعوبة بمكان، ذلك أن كل فيلسوف أو متصوف تناول هذه المسألة إلا وله تصور مختلف عن غيره في قليل أو في كثير، ولكن هذا لا ينفي أن يكون لكل التصورات عن وحدة الوجود روابط توحد بينها، ولهذا فإن من أهم ما يجمع بين هذه التصورات المختلفة عن وحدة الوجود، هو اشتراكها في بحث مسائل معينة، هي: الذات الإلهية وصفاتها، والعلاقة بين الحق والخلق، وفيض الله وتجليه وصلته بالعالم، والإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية أو قدم النور المحمدي، والاتحاد بالله، ووحدة الأديان(1). وهي من منظور نظرية المعرفة سعي إلى اختزال المسافة بين الذات والموضوع، كما أنها إلغاء للنظر والاستدلال العقلي، واستناد إلى مصدر غير قابل للتحقق من صدق ما يؤدي إليه؛ وذلك هو الإلهام أو العلم اللدني، القائم على التأمل الذاتي والتجربة الخاصة الموصلة إلى المعرفة الحقة - بتعبير الصوفية - التي هي أعلى من كل المعارف الأخرى، سواء ما كان منها عن طريق الحواس، أو كان بحثا عقليا برهانيا.
أما في اللغات الأوربية (والأنجليزية تخصيصاً) فإن وحدة الوجود يقابلها مصطلح (Pantheism) وتعني الله هو الكل ما هو إلا صياغة للعلاقة بين الله والعالم تؤكد على التطابق بين الله والعالم، ولهذه العلاقة عدة أشكال في الفكر الأوربي(2)، أهمها وحدة الوجود الشاملة (Immanentistic Pantheism) التي تجعل من الله جزء من العالم، وهو بالرغم من حلوله فيه، غير منفصل عنه، بل إن قدرته تتصل بكليته، أي بكل شيء فيه، وهذه التي سنراها عند اسبينوزا كما سيأتي لاحقاً عند الحديث عن مذهبه في وحدة الوجود. أما الشكل الآخر فهو وحدة الوجود النافية للعالم (Acosmic Pantheism) التي ترى أن بنية الحقيقة الكلية للعالم هي الله، والعالم مظهر غير حقيقي في ذاته(3)، وهذه الأخيرة سنجدها عند ابن عربي.
وسيتضح المفهوم أكثر عند عرضنا بنوع من المقارنة لتصورات كل من ابن عربي واسبينوزا، والمفهوم الذي أعطاه كل واحد منهما لهذه المسألة، وما يتصل بها من نتائج على مستوى العقيدة وعلى مستوى الشريعة والأخلاق والسلوك.
2 - وحدة الوجود عند ابن عربي:
الحديث عن وحدة الوجود، حديث عن الألوهية، التي عرض لها كل من المتكلمين والفلاسفة والصوفية. وإذا كان المتكلمون الإسلاميون قد حرصوا على إثبات ثنائية الحق والخلق، أو الله والعالم، فإن هذا المسلك الكلامي في تحديد الصلة بين الربوبية وعالم الخلق، والمبني أساسا على التنزيه عن المحايثة والمماثلة، قد شابه نوع من الغلو أحيانا أدى إلى تصور تجريدي مطلق للألوهية، أدى بدوره إلى ردود فعل عنيفة تبلورت ابتداء في دوائر الصوفية التي حاولت -من جانبها - أن تتخطى هذه المسافة الفارقة بين الحق والخلق، بين اللامتناهي والمتناهي، وتنقل التوحيد من صورته العقلية التجريدية والجدلية إلى مضمون روحي، مهما تباينت صوره وأشكاله، فإنما يهدف إلى إشاعة ضرب من العلاقة والوصل بين الوجودين؛ الإلهي والإنساني، والمطلق والمحدود، وتقريب المسافة بينهما بطريقة أو بأخرى(4).
وقد عالج المتصوفة مشكلة الألوهية على طريقتهم، وهي لا تخلو من غموض، يلجأون إلى الرمز تارة وإلى الإبهام تارة أخرى(5). واختلفت المحاولات الصوفية التي عالجت هذا الموضوع، وظهرت عدة تطورات منها ما دعا إلى التوحيد الإرادي (الفناء عن عبادة السوى)، ومنها ما دعا إلى التوحيد الشهودي (الفناء عن شهود السوى)، ومنها ما دعا إلى التوحيد الوجودي (الفناء عن وجود السوى)(6)، وهذا الأخير هو الذي عرف بفكرة "وحدة الوجود".
وفي تاريخ التصوف الإسلامي تقترن فكرة "وحدة الوجود" باسم محي الدين بن عربي، الذي أكسب هذا المصطلح مضموناً جديداً يمكننا أن نرى فيه محاولة جديدة عند المتصوفة الإسلاميين لمعالجة محالية الجمع بين الوحدة المطلقة للذات الإلهية وعدم انفصالها عن العالم(7).
وفي فلسفة ابن عربي الصوفية تتجلى واضحة نظرياته في وحدة الوجود التي تولدت عنها نظريته في وحدة الأديان، ونظريته في الإنسان الكامل، ضمنها كل مؤلفاته، وبخاصة "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية"(8). إذ يلخص فلسفته في طبيعة الوجود وصلة العالم (الممكن الوجود) بالله تعالى (الواجب الوجود) في الفصوص، حيث تتجلى الحقيقة الإلهية - كما يرى - في أكمل مظاهرها في الأنبياء عليهم السلام من آدم إلى محمد، فكل نبي تتجلى فيه صفة؛ فالألوهية تتجلى في الفص الآدمي، والسبوحية في الفص النوحي، والحقية في الفص الإسحاقي... وهكذا إلى أن يصل إلى صفة الفردية التي تتجلى في الفص المحمدي، وهو في ذلك يوظف التراث الغنوصي والفلسفة الأفلاطونية الفيضية في كيفية فيض الصفات الإلهية على العالم. أما في كتاب "الفتوحات المكية" فإنه يذكر تلقيه "الفصوص" عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا رآه فيها، ودوره لا يعدو تبليغها كاملة دون زيادة أو نقصان(9).
ينطلق ابن عربي لتأكيد نظريته في وحدة الوجود من الحديث عن صدور العالم التي مزجها بتاريخ آدم، وقرر أنه وقع فيضان الأول الذي عنه وجدت المادة المستعدة لتقبل الصور، ثم أعدها لقبول الحياة الإلهية، والثاني وهو الذي أنتج الوجودات الشخصية بإظهار الكائنات التي أريدت بهذا الإعداد، وعن الفيض الأول نتجت الجواهر المعينة أو الكليات واستعداداتها المحددة لها في العلم الإلهي، وعن الثاني نتج التحقيق الخارجي لهذه الأشياء، ونتائجها المرادة منها(10).
ويؤكد ابن عربي أن العالم بالنسبة إلى الله كالمرآة التي تنعكس عليها الصور، فالعالم هو المرآة الذي تنعكس عليها الصفات الإلهية، غير أنه يبقى وجودا معطلا ومبهما ما لم يكن هناك المبدأ النوراني اللطيف الذي أتم به الله الوجود، وبه حقق حقيقته، ذلك أن آدم هو العين التي تبصر الحقائق الإلهية المنطبعة في مرآة الوجود، ولذلك يقول أن آدم "للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، وهو المعبر عنه بالبصر، فلهذا سمي إنسانا، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم. فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي والكلمة الفاصلة الجامعة"(11)، وهذا لا يعطي وجودا منفصلا للعالم أو للإنسان، بل وجوده في حكم العدم، لأنه "ثبت عن المحققين أنه ما في الوجود إلا الله، ونحن وإن كنا موجودين، فإنما وجودنا به... ومن كان وجوده بغيره فهو في حكم العدم"(12)، كما أن الله تعالى –كما يرى ابن عربي- لولا ظهوره في أعيان الخلق وتجليه فيهم لما عرفناه، وكأنه يقول بحلول الحق في الخلق ليُعرف، يقول: "ولولا ظهور الحق في أعيان الخلق ما كانت صفاته وأسماؤه، ولما عرفناه، لأننا إنما نعرفه عن طريق هذه الأسماء والصفات المتجلية في الكون، ولكن ثنائية الحق والخلق ثنائية موهومة زائفة لأنها من أحكام العقل والنظر والحس، والعقل لا يقوى على إدراك الوحدة الشاملة ولا يستطيع إلا أن يدرك التعدد والتكثر"(13).
ويستشعر ابن عربي من أن ما ذهب إليه قد يؤدي إلى وحدة وجود مادية تؤدي إلى حلول الله في الطبيعة أو الواحد في الكثرة، فيضبطه بقوله: "أما وجود الخلق فمجرد ظل لصاحب الظل وصورة المرآة بالنسبة لصاحب المرآة فالخلق شبح"(14)، غير أن هذا يعارضه ما سبق من أقوال، وكذلك يعارضه قوله: "الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا يسعها"(15)، وإذا نظرنا إلى هذا القول الأخير نجد أنه يعود إلى القول بحلول الله في الطبيعة وهو ما يؤكد وحدة الوجود المادية في فلسفته.
ونظرا لورود أقوال متناقضة ومتضاربة فيما يتعلق بمذهبه في وحدة الوجود فإنه يحاول استدراك ذلك وعزوه إلى تعقد هذا المذهب وغموضه، فيقول في شأن هذا العقيدة المعقدة "فما أفردتها على اليقين لما فيها من الغموض ولكن جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبينة، لكنها كما ذكرنا متفرقة، فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها، ويميزها عن غيرها، فإنها العلم الحق والقول الصدق"(16).
والواقع أن هذا الغموض الذي في وحدة الوجود عند ابن عربي راجع في تصوري إلى محاولة الجمع بين الغنوصية الأفلوطينية القائلة بصدور الكثرة عن الواحد عن طريق نظرية الفيض بتراتبيتها المعروفة، وبين القول بأن العالم وجود وهمي وأنه لا وجود له خارج الحق بتعبير الصوفية، وبالتالي القول بحلول الكثرة في الواحد، فأراد ابن عربي الجمع بينهما فقال بهذه الأقوال المتناقضة التي فيها ما يوحي بالقول بحلول الواحد في الكثرة، وفيها ما يوحي بالقول بحلول الكثرة في الواحد، وهذا ما يجعل مذهبه في وحدة الوجود مذهبا فريدا مرتبطا بابن عربي أكثر من ارتباطه بأيٍّ من صوفية الإسلام.
هذا القول بحلول الحق في الخلق وحلول الخلق في الحق، أي أن الناسوت واللاهوت صورتان ووجهان لحقيقة واحدة جعله يقول بأن التنزيه هو عين التشبيه لأنهما أمران اعتباريان، وإلا "فالحق المنزه هو الخلق المشبه"(17) لا فرق بينهما إلا في صفة واحدة فقط هي وجوب الوجود التي ينفرد بها الحق(18). ويصوغ ابن عربي مذهبه في التنزيه والتشبيه بقوله(19):
مذ تألهت رجعت مظهراً *** وكذا كنت فبي فاعتصمو
أنا حبل الله في كونكمو *** فالزموا الباب عبيداً واخدمو
ليس في الجبة غير ما قاله *** الحلاج يوما فانعمو
عز الإله فما يحويه من أحد *** وبعد هذا فإنا قد وسعناه
فهو تارة مظهر للإله، وتارة حبل الله في الكون، وتارة يكون الإله مطلقا منزها لا يحويه أحد، وتارة يسعه خلقه، وكما هو ظاهر من الأبيات فإن ابن عربي لا يدين بما قاله الحلاج في نظرية الحلول فحسب، بل يتجاوزه إلى التماهي بين الحق والخلق في وحدة وجودية واحدة لا فرق فيها بين الحق والخلق. وهو في ذلك يتجاوز ما وصل إليه الحلاج أو البسطامي، إذ لم يختزل كل منهما تماماً المسافة بين ثنائية الحق والخلق، كما أن صاحب وحدة الشهود وإن غلا في موقفه، فإن الحق ألهاه عن الخلق، أما ابن عربي فإنه يتجه إلى وحدة بين الحق والخلق، بما أن الحق هو الوجود الحقيقي والموجودات وجود وهمي ووجودها عدم. وفي ذلك يقول أيضاً:
لما أراد الإله الحق يسكنه *** لذاك عدّ له خلقاً وسوّاه
فكان عين وجودي عين صورته *** وحي صحيح ولا يدريه إلا هو
فالوجود حقيقة واحدة، وما الأشكال المختلفة للخلق إلا صور لتجلي الحق، وهي في حقيقتها تجليات للحق الواحد وليس هناك تعدد ولا كثرة في نظره، لأن هذا التعدد وهذه الكثرة من حكم العقل القاصر والحواس القاصرة، والعارف وحده هو الذي يدرك بطريق الذوق وحدتهما(20).
ولهذا فإن وحدة الوجود كما يصورها ابن عربي "تعطي للإلوهية معنى مجردا غير مشخص، ولا يكاد يوصف، وصفة الإله الوحيدة هي الوجود، وقد تضاف إليها صفة العلم، ولكنه علم مقصور على ذات الله. وهذا معنى لا يتفق مع العقيدة الأشعرية السائدة، ولا يتمشى مع النصوص الدينية التي تثبت لله صفات كالقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام"(21).
وإذا كان المتكلمون يؤكدون "مخالفة الله للحوادث" فإن ابن عربي يجعل من ثنائية الحق والخلق واحدية لها وجهان؛ الباطن (الحق) والظاهر (الخلق)، وهذان الوجهان لا يؤديان إلى ثنائية الله والعالم، وإنما العالم مرآة تنطبع عليه صفات الله، والعالم ظل لله - برأيه - وليس له وجود مفارق، بل وجوده المفارق وجود وهمي من صنع العقل، و"العقل لا يعطي شيئاً"(22). وتختلط عنه الحقيقة الإلهية بالخلق، فتراه يجعل من العبد ربا ومن الرب عبداً، بل ويتبادلان الأدوار(23):
فنحن له كما ثبتت *** أدلتنا، ونحن أن
وليس له سوى كوني *** فنحن له كنحن بن
فلي وجهان: هو وأنا *** وليس له أنا بأن
ولكن فيّ مظهره *** فنحن له كمثل أن
فيحمدني وأحمده *** ويعبدني وأعبده
في حال أقرّ به *** وفي الأعيان أجحده
فيعرفني وأنكره *** وأعرفه فأشهده
فوقتا يكون العبد رباّ بلا شك *** ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
فإن كان عبداً كان بالحق واسعاً *** وإن كان رباً كان في عيشة ضنك
لا ينكر أحد أن هذا الشعر مكون من ألغاز وألفاظ مركبة تركيبا يخالف معهود العرب من سوق الكلام وإعمال المجاز، ومؤداه مذهب خاص في التنزيه والتشبيه يرى فيه أنه "لا يخلو تنزيه عن تشبيه، ولا تشبيه عن تنزيه: قال تعالى ليس كمثله شيء فنزه وشبه، وهو السميع البصير فشبه"(24) وهو يشير إلى قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"(25).
ونعود فنقول أن ما أوردناه من أقوال لابن عربي، والتي في مجموعها تمثل صورة كاملة للقول بوحدة الوجود، فإنه بالقوة نفسها يمكن أن يجد قارئ ابن عربي نصوصا كثيرة تنفي قوله بوحدة الوجود، وهذا ما أدى إلى الاختلاف في الحكم عليه بأنه من أصحاب وحدة الوجود، أو أنه من الملتزمين بالشرع ظاهرا وباطنا وأنه لم يخرج في كل كتاباته عن منهج الحق ومعهود العرب من الكلام.
وهذا في رأيي يؤكد صحة نسبة الفكرة إليه من جهة، كما يؤكد صحة نسبة الأفكار الأخرى إليه من جهة أخرى أيضاً، ووجود هذه النظريات المتناقضة عنده لا يؤدي إلى نفيها عنه، بقدر ما يجعل منه صاحب مذهب معقد الفهم، متشعب المداخل، متعدد المآلات. وهذا ليس من ميزة أصحاب الأفكار البناءة، ولا ميزة الذين يحملون علم النبوة، فينفون عنه تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين. وهذا لا يتوفر في فكر ابن عربي، وخاصة إذا نظرنا في مآلات الفكرة التي قال بها على مستوى الأخلاق والسلوك والالتزام بآداب الشرع، وعلى مستوى اضطراب المفاهيم، وإسقاط المسؤولية، بل والوقوع في الجبرية.
فابن عربي يرى "أن العالم الذي هو تجلي الحق الدائم أزلي كما هو أبدي... وأن النهاية في العالم غير حاصلة، والغاية من العالم غير حاصلة، فلا تزال الآخرة دائمة التكوين عن العالم. وليس دوام تكون الآخرة عن العالم إلا أنها اسم لفناء صور الموجودات عندما تفنى، كما أن العالم اسم لبقاء صورها عندما تبقى"(26).
فهل معنى هذا أن العالم قديم غير حادث، أم أن الموت ما هو إلا تحول للنفس من طور إلى طور؟ كما يقول هو نفسه "فإذا أخذه إليه سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها وهي دار البقاء"، فهل هذا تناسخ، أم ماذا؟، في الحقيقة إن كلامه هنا يحتمل أكثر من وجه، ولا يمكن أن نقرأ من قوله هذا أنه يقول بقدم العالم كما ذهب إلى ذلك أحد الباحثين(27)، غير أن ما يؤدي إلى الشك في مقصده وترتيب القول بقدم العالم عليه، أنه في أحد أقواله التي أوردناها سابقاً يصرح بأن العالم وجد مع الله وأن الله كان وجوداً مبهما حتى خلق الخلق.
لكن الأخطر في نتائج نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي هي ما أدت إليه من ضرب المفاهيم في بعضها، وإفراغها من محتواها الشرعي، فالعذاب لم يعد عذاباً بل صار عذوبة، فإن الله - كما يرى ابن عربي - لما اتخذه مظهراً له وصورة لإحدى تجلياته وفيوضاته، فهو الذي يفعل ما ظن أنه من فعل ابن عربي، فلا مسؤولية.
فإذا كان الرب يصير عبداً أحياناً، وأحياناً أخرى يصير العبد رباً، فلا مسؤولية، بل إن العبادة نفسها تصير بغير معنى، كما أن الجنة والنار يصيران متساويين، بل هما وجهان لحقيقة واحدة، فإن المعذبين يتلذذون بالعذاب لأنه "يسمى عذاباً من عذوبة لفظه وذاك له كالقشر والقشر صائن"(28).
كما أن الكافر ليس هو الجاحد لوجود الله سبحانه، وإنما هو مأخوذ من الكفر، بمعنى الستر والتغطية، فهو قد ستر ما وقف عليه من العلم الاتصالي الشهودي، ذلك الذي أراه الوجود على ما هو عليه، ووقف به على سر القدر(29)، وبهذا فقوم نوح، كانوا في تكذيبهم له على حق، لأنه دعاهم بلسان الظاهر، ولم يفطن إلى ما هم عليه من حقيقة الباطن وما يرونه من حقيقة الكشف، وأن ذلك هو ما أراد الله منهم بناء على ما أعطته أعيانهم الثابتة في الأزل(30).
أما فيما يتعلق بالعلاقة بين النبوة والولاية، فإن ابن عربي يوغل في ضرب المفاهيم المستقرة في العرف الشرعي، حيث يجعل من الولي في مكانة الرسول إن لم يعلوه، فإن الرسول محجوب غير سعيد لأنه لم يتحقق بالوحدة الكاملة، والوحدة الكاملة تكون من غير واسطة، وهذا مذهب في المعرفة يسقط النبوة من الاعتبار ويقلل من أهميتها، ذلك "أن كلام الله ينزل على قلوب أوليائه تلاوة، فينظر الولي ما تلى عليه مثل ما ينظر النبي فيما أنزل عليه، فعلم ما أريد به في تلك التلاوة كما يعلم النبي ما أنزل عليه فيحكم بحسب ما يقتضيه الأمر"(31). ومعلوم ما بين التلاوة والتنزيل من فرق درجة.
والقول بالولاية يقلل من النبوة ويطعن في ختمها، فإنه يجعل من النبوة غير ذات أهمية لتساويها مع الولاية، بل إن الولاية أرفع منها، حيث أنها صلة بلا واسطة، بينما النبوة صلة بواسطة، وما كان بغير واسطة فهو موصول، وما كان بواسطة فهو محجوب. كذلك فإن القول بالولاية يطعن في ختم النبوة ذاته، ويجعل منها مستمرة استمرار وجود الأولياء.
وهناك أمر آخر يترتب على القول بوحدة الوجود، وهو الدعوة إلى وحدة الأديان، وليس الأمر متعلق بحوار بين الأديان لمعرفة دين الحق منها من دين الضلالة، حيث أن وحدة الأديان ترى أن الأديان كلها في الحقيقة صور مختلفة لتجلي الحق الواحد، فلا مكان لإنكار عقائد الكفار والمشركين، بل ليس هناك كافر ومشرك وهناك موحد، ففي الجوهر كلهم موحدون، ولهذا لا ينبغي أن يرتبط الإنسان بمعبود خاص في الظاهر، فالعبرة بالباطن، "لأن صاحب المعبود الخاص جاهل بلا شك لاعتراضه على غيره فيما اعتقد... أما الإله المطلق فهو الذي لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء"(32)، ولهذا يشنع ابن عربي على من يحد نفسه بمعتقد خاص في الله، ويرى أن ذلك من اصطناع أصحاب الأديان، والأصل أن "دين الحب" لا يعرف الحدود، ولهذا فإنه كما قال(33):
عقد الخلائق في الإله عقائداً *** وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
بل إنه يصحح كل العقائد الأخرى، وكما يقول(34):
لقد صار قلبي قابلا كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قرآن
ويحتج ابن عربي لهذه العقيدة، بأن الجاهل هو الذي قيد نفسه بعقيدة مخصوصة فحجب نفسه عن صور تجليات الحق في الأديان الأخرى، بينما العارف هو من تحقق بالوحدة في الوحدة، ونظر الوحدة في الكثرة فوضع الألوهية أو وضع معنى الحق في مكانه، أي في الواحد المعبود في صور جميع الآلهة المعبودين، والجاهل هو الذي وضع الألوهية وقيدها في صورة خاصة حجراً كانت أو شجرة أو حيوانا أو إنساناً(35).
ويصل ابن عربي إلى تعطيل العبادات والشعائر، فيرى أن أرقى درجات العبادة هي التحقق بالوحدة الذاتية، وهذا مقام العارف. فالمعرفة هي التي تفاضل بين الناس وليس العبادة والالتزام بالشعائر، فإن ذلك ارتباط بالرسوم، وتقييد للعبادة الحقة في رسوم ظاهرة. وكأن هذا يقصد منه أن المعرفة هي أرقى درجات العبادة بل هي العبادة، وفي الحقيقة فإن هذا الموقف هو النتيجة التي سنجدها عند اسبينوزا أيضاً، عندما يصل إلى اعتبار المعرفة بالله أرقى درجات العبادة. لأنك حينها "تتجاوز الصور إلى التحقق بأنك أنت هو، وهو أنت... أنت هو من حيث صورتك... وهو أنت بالعين والجوهر، فإنه هو الذي يفيض عليك الوجود من وجوده"(36). لأن كل صورة من الصور ناطقة بألوهية الحق مسبحة بحمده، وكل معبود من المعبودات وجه من وجوهه(37).
هذه في نظري هي الصورة العامة لفكرة وحدة الوجود؛ فهي موقف فلسفي، واتجاه في المعرفة يقصرها على التأمل والقول بالعلم اللدني، ومحاولة لتجاوز الإشكال الموهوم الذي أوقع فيه نفسه من خلال محاولة ربط المطلق بالمقيد، والتحقق بالمعرفة الحقة، وما يترتب عن هذا التصور من نتائج تؤدي إلى نقض الشرع المنزل ذاته، والحط من قدر صاحب الشرع بحجة أنه محجوب، بل والوصول إلى تصحيح كل العقائد وصور الشرك، وما ذلك إلا التزام بالقول بأن كل الوجود هو تجل لصفات الله تعالى، وصور الوجود كلها تجليات ووجوه للحق، ولهذا فالقول بوحدة الأديان نتيجة منطقية لالتزام ابن عربي بمقولات فكرته، والتزام بما تؤدي إليه "عقيدة الحب" من اتباع الهوى.
3 - وحدة الوجود عند اسبينوزا:
ولد باروخ اسبينوزا في أمستردام سنة 1632 م وتوفي بها سنة 1677 م وهو في الخامسة والأربعين من عمره، وقد ولد من أسرة يهودية هاجرت إلى هولندة من إسبانيا فراراً مما كان اليهود يلقونه فيها من اضطهاد على يد الكاثوليك بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها. ذلك الحكم الذي كان يوفر لهم الحماية والأمان، فلما سقطت غرناطة في 1492 م تعرض اليهود لما تعرض له المسلمون على يد محاكم التفتيش الرهيبة، فهاجرت أسرة اسبينوزا فرارا من الاضطهاد.
وما يهمنا في هذا المقام هو يهوديته، إذ أنه لم يكن يؤمن بالتثليث النصراني، كما أنه رفض كثيرا من تحريفات اليهود للتوراة، واعتبر التوراة الحالية تأليفا إنسانيا وليست وحيا، ولهذا اتهم بالخروج على العقيدة اليهودية وحكم عليه بالطرد، فكان يعاني من النفي المزدوج؛ النفي من قبل المسيحيين الذين يرونه يهوديا، والنفي أو الطرد من قبل اليهود باتهامهم له بالهرطقة. والأمر الثابت تاريخيا، أن سبب طرده والنفي المزدوج الذي تعرض له أنه أول من دشن النقد الباطني لنصوص العهد القديم، وانتهى إلى رفض معظم التوراة والعهد القديم بحجة أنها لا تصمد أمام المنهج الذي قام بتوظيفه في نقد نصوصهما، كما أنه رفض ادعاءات العهد الجديد (الإنجيل) في المسيح، وصرح اسبينوزا بأن عيسى لا يعدو أن يكون إنسانا كسائر الناس(38).
وترجع فلسفة اسبينوزا إلى روافد عديدة بالإضافة إلى الروافد اليهودية النابعة من الثقافة اليهودية والفلاسفة اليهود في العصر الوسيط، وخصوصا موسى بن ميمون وابن جبرول، وهؤلاء بدورهم أخذوا وتأثروا بالفلاسفة الإسلاميين الذين جمعوا في تصوراتهم للخلق والكون والله بين الإسلام والأفلاطونية المحدثة والفلسفة المشائية(39). كما أن اسبينوزا كان ديكارتيا في فلسفته، غير أنه كان ناقدا أيضا لفلسفة ديكارت، وذلك في كتابه (مبادئ فلسفة ديكارت) الذي نشره سنة 1663 م. فقد خالف ديكارت في مبدأ الانطلاق، فإذا كان ديكارت يبدأ من الفكر، فإن اسبينوزا يبدأ من "الله" ثم تنزل فلسفته إلى سائر الموجودات، وهو من جهة أخرى يوافق ديكارت، بل يعد ديكارتيا من خلال مبادئ فلسفته التي في أساسها تقوم على الهندسة ومبادئ الميكانيكا(40). ويوظف اسبينوزا أيضاً الطريقة الهندسية (More Geometrico) في عرض أفكاره، إذ يبدأ بالتعريف، ثم يذكر النظرية، ثم يتلوها بالبرهان عليها، ويستعمل التعبيرات المستخدمة في علم الهندسة والرياضيات لعرض مذهبه الفلسفي(41).
وما يهمنا في هذا المقام من مذهبه الفلسفي هو رأيه في الصلة بين الله والطبيعة، وقوانين العالم، وتفسيره لرأيه في الخلق، وفي الوجود، والتي فيها عناصر من فكرة وحدة الوجود التي رأيناها عند ابن عربي، وفيما يتعلق بنظريته في وحدة الوجود فإننا نستطيع أن نعقد صلة بين آراء ابن عربي واسبينوزا من هذه الناحية(42). حيث أن اسبينوزا له آراؤه الفلسفية التي تعالج العلاقة بين الله وبين العالم، أو الله والطبيعة (God and Nature). وينطلق اسبينوزا من ثلاثة اصطلاحات محورية هي: الجوهر، والصفة، والعرض(43)، فالله هو الجوهر، أي موجود بذاته، وهو واجب الوجود بذاته ولا يحتاج إلى شيء آخر. أما الصفة فهي التي عن طريقها يدرك العقل الجوهر، لأن الصفة تحدد طبيعة الجوهر، وأما العرض فعن طريقه يمكن إدراك مشاعر وعواطف الجوهر، أو بعبارة أخرى فهو ما يكون في الشيء ويمكن إدراكه من خلاله(44).
كما أن اسبينوزا يؤكد أنه لا يوجد جوهر آخر سوى الله، لأنه حاز كل الصفات المطلقة الأزلية، كما أنه وحده موجود ضرورة، وهذا يعني أن أي جوهر بجانب الله فإنه يحوز على بعض صفات الله، وهذا يؤدي إلى وجود جوهرين يحوزان على نفس الصفات، وهذا يستحيل، ولهذا لا يمكن أن يوجد جوهر سوى الله. ومنه نستنتج بوضوح؛ أولاً أن الله واحد، كما أنه في الطبيعة لا يوجد إلا جوهر واحد، وهو مطلق وأزلي، وثانياً ندرك الامتداد والفكر إما صفات لله أو أعراض لصفاته(45).
ويرفض اسبينوزا الذين يتصورن الله مجسدا له طول وعرض وشكل، ويرفض هذه المحايثة، فالذات المقدسة ترفض هذا التجسيم، فإن في التجسيم تحديد، وبهذا التحديد يكون الله قابلا للتجسد والحيثية، وهذا يخالف صفاته المطلقة الأزلية، ويجعله حادثا، غير أن البرهان يثبت أن الجوهر مطلق غير مخلوق، بل إن الامتداد أحد صفات الجوهر الذي هو الله(46).
وينتقل اسبينوزا إلى البرهان على أن من ضرورة الطبيعة الإلهية تصدر أعداد لا متناهية من الأشياء بطرق لا متناهية، وهذا يعني أن الله (الجوهر) له صفات لا متناهية، كل واحدة منها تعبر عن ماهية ممتدة غير متناهية(47)، كما أن الله الذي تصدر منه كل الموجودات اللامتناهية هو السبب الأول لها وهو العلة الأولى لكل شيء(48). إضافة إلى أن هذا الجوهر اللامتناهي الإلهي، لا يقبل القسمة، وهو واحد، أزلي أبدي. والوجود والماهية في الله أمر واحد(49).
إذن، فإن الله - هذا الجوهر اللامتناهي - له صفتان يمكن إدراكهما، هما: الامتداد والفكر، أما سائر الصفات الإلهية فلا نستطيع أن نقول عنها شيئا لأننا لا نستطيع أن نعرفها حسب قوله. فاسبينوزا ينعت الله بأنه امتداد وفكر معا، إنه نظام ممتد مكاني من الموضوعات الفيزيائية بقدر ما هو نظام لا مادي ولا ممتد من الفكر، وكأنه يريد أن يقول بأن الله لا يمكن تحديده، أو بعبارة أوضح؛ لا يمكن تشخيصه مثلما هو حال الأديان السماوية التي ترى فيه إلها مشخصا، بل هو روح العالم. فهو الطبيعة ذاتها، ولكنه ليس الطبيعة المطبوعة وإنما هو الطابعة(50).
وفي حديثه عن علاقة الكون بالله فإن اسبينوزا يرى أن وجود الكون ضرورة منطقية، فوجود الكون وطبيعته ناتجان عن طبيعة الله، كما أن وجود الدائرة وتساوي أنصاف أقطارها ناتجان عن طبيعة الدائرة(51).
ويمكن أيضاً أن نلحظ شبها كبيرا بين فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي وفكرة وحدة الوجود عند سبينوزا في هذه المسألة؛ فهما يقرران معا أن الله والعالم شيء واحد، ويقولان بألوهية شاملة تستوعب الكون بأسره. وهذا العالم خاضع لقانون الوجود العام كما قال ابن عربي، أو لضرورة الطبيعة الإلهية كما قال اسبينوزا(52).
والحقيقة التي تبدو مما ورد عند اسبينوزا أنه وإن كان لدى ابن عربي كثيرا مما يذكرنا باسبينوزا كما يرى نيكولسن(53)، فإن هناك اختلاف بين الرجلين في المنطلق، والمسلك، وحتى في تصور وحدة الوجود، وإن كان هناك بينهما تشابه واشتراك في التصور العام للفكرة.
فاسبينوزا لا ينطلق من مرتكز صوفي بقدر ما ينطلق من فلسفة عقلية ذات عمق ديكارتي، يمجد الفكرة ويجعل لها المقام الأعلى في الاعتبار، حتى لا يعدو في الوجود سوى الفكر مرتكزا، ولذلك فإن المعرفة التي توصل إلى الله هي معرفة عقلية وإن كانت تلتقي مع تصوف ابن عربي في القول بأن معرفة الله هي أرقى مقامات العبادة بل أن العبادة معرفة.
4 - خاتمة:
من خلال ما أوردناه من تحليل لتصورات وحدة الوجود عند كل من ابن عربي واسبينوزا فإننا نقول أن هذه التصورات تجعل من وحدة الوجود فكرة تكاد تلغي الكون، ولا تفسر التغير، ولا تحل مشكلة الواحد والمتعدد- وصعابها الدينية لا تقل عن صعابها الفلسفية، فهي تقول بإله مطلق مجرد لا نهائي، في غنى عن البرهنة عليه وإثبات وجوده، ولكن أين الإنسان؟ وأين مسؤولياته وواجباته؟ إن في القول بوحدة الوجود ما يقضي على الأخلاق والتكاليف(54).
كما أن في القول بوحدة الوجود خطر تعطيل العمل والتدبر، وتهديد لمناشط الحياة بأن تفرغ من محتواها، حتى أن النظر العقلي يصير ترفا، لأنه حسب صاحب القول بوحدة الوجود، فإن العقل محجوب. ويتفق كلا منهما على أن أرقى مراتب العبادة، بل إن المرتبة الحقة هي مرتبة المعرفة. فالسعادة لا تكمن في التحقق بأمر الله وترجمته في خضوع للشرع، وأداء للشعائر، بل إن كل ذلك من عمل المقطوعين، أما الواصلون فشأنهم الالتذاذ بالمعرفة، فبقدر معرفة العبد بالله بقدر ما يكون أرقى، ويتمتع بالوصل، ويدين بالحب العقلي لله كما قال اسبينوزا، أو الديانة بدين "الحب" كما قال ابن عربي.
كما أن من أخطر ما تؤدي إليه هذه الرؤية - رؤية وحدة الوجود - هو اضطراب المفاهيم، ونسبيتها، وعدم وجود معيار موضوعي للاحتكام إليه، إذ يصير الأمر إلى التذوق، والذاتية، وإلى نظرة جوانية غير مبرهن على صحتها، بل من الصعب تعميمها أو البناء عليها. والله أعلم.
الهوامش:
1 - نضلة أحمد نائل الجبوري: فلسفة وحدة الوجود، أصولها وفترتها الإسلامية، ط. 1، البحرين 1409 هـ، ص 31.
2 - المصدر نفسه، ص 18- 19.
3 - نفسه.
4 - عرفان عبد الحميد فتاح: نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، ط. 1، دار الجيل، بيروت 1413 هـ - 1993 م، ص 175 - 179.
5 - إبراهيم مدكور: في الفلسفة الإسلامية، سميركو للطباعة والنشر، ج 2، ص 71.
6 - عرفان عبد الحميد فتاح: المصدر السابق، ص 179 - 185.
7 - حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ط. 5، دار الفارابي، بيروت 1985، ج 2، ص 271.
8 - عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، دار الفكر العربي، ص 494 - 495.
9 - ذكر ابن عربي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان في دمشق وأعطاه كتاب الفصوص وقال له أخرج به على الناس، فقام بتبليغه، ولم يقم بصياغته هو بزعمه. انظر، الفتوحات المكية، ج 1، ص 373.
10 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 498.
11 - ابن عربي: فصوص الحكم، فص حكمة إلهية في كلمة آدمية، ص 48 - 49.
12 - المصدر نفسه، ص 50.
13 - ابن عربي: الفتوحات، ج 1، ص 263.
14 - المصدر نفسه، ج 1، ص 119 - 120.
15 - ابن عربي: فصوص الحكم، فص حكمة فردية في كلمة محمدية.
16 - ابن عربي: الفتوحات، ج 1، ص 47 - 48.
17 - المصدر نفسه، ج 1، ص 119 - 120.
18 - عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص 502.
19 - ابن عربي: الفتوحات، ج 2، ص 320 - 321.
20 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 503 - 504.
21 - إبراهيم مدكور: في الفلسفة الإسلامية، ج 2، ص 73.
22 - ابن عربي: فصوص الحكم، ص 125.
23 - المصدر نفسه، ص 83 - 90.
24 - المصدر نفسه، ص 182.
25 - سورة الشورى، الآية 42.
26 - ابن عربي: الفتوحات، ج 1، ص 338.
27 - عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص 511.
28 - ابن عربي: الفصوص، ص 170 - 174.
29 - إبراهيم هلال: التصوف الإسلامي بين الدين والفلسفة، دار النهضة العربية، القاهرة 1979، ص 179 - 180.
30 - ابن عربي: الفصوص، ص 82 وما بعدها.
31 - المصدر نفسه، ص 62 - 64، والفتوحات، ج 2، ص 298 وما بعدها.
32 - ابن عربي: الفصوص، ص 255.
33 - المصدر نفسه، ص 191 وما بعدها.
34 - نفسه، والفتوحات، ج 3، ص 21.
35 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 520.
36 - ابن عربي: الفصوص، ص 191 وما بعدها.
37 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 520.
38 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 144.
39 - المصدر نفسه، ص 138.
40 - Yirmiyahu Yovel: God and Nature in Spinoza’s Metaphysics, E. J. Brill, Leiden 1991, p. 3.
41 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 138.
42 - إبراهيم مدكور: المصدر السابق، ج 2، ص 73.
43 - Great Books of the Western World, Editor in Chief: Philip W. Goetz, Encyclopedia Britannica, Inc, Chicago, V28, p. 589.
44 - Ibid., p. 589.
45 - Ibid., p. 593 - 594.
46 - Ibid., p. 594.
47 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 139.
48 - Great Books, V 28, p. 596.
49 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 139.
50 - نفسه.
51 - Great Books, V 28, p. 594.
52 - إبراهيم مدكور: المصدر السابق، ج 2، ص 74.
53 - Nicholson: Legacy of Islam, London 1949, p. 226.
54 - إبراهيم مدكور: المصدر السابق، ج 2، ص 74 - 75.
د. بدران بن الحسن
جامعة باتنة