أنفاس في المُلتقى العالمي للفلسفة الذي عُقِد بمدينة اسطنبول، ألقى الفيلسوف الإيطالي جانّي فاتيمو (Gianni Vattimo)، مُحاضرة بعنوان استفزازي (كلام فاتيمو) "هايدغر فيلسوف الديموقراطية". وللتدليل على ديمقراطية هايدغر فإنه أجرى مقارنة بين أفكار شيخ الليبرالية كارل پوپر (Karl Popper)، من خلال كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، وبين أطروحات هايدغر انطلاقا من محاضرته "نهاية الفلسفة ومُهمّة الفكر".
وقد اعترف فاتيمو، منذ البداية، بأن الجَمع بين مفكر مثل كارل پوپر مشهور بتعصّبه للنظام الّليبرالي، وبين فيلسوف كاره للديمقراطية مثل مارتن هايدغر هو من الخلف بمكان « خصوصا وأن هايدغر لا يَبدو، طبعا، مفكرا ميّالا إلى الديمقراطية».
أين يَكمُن التوافق بين پوپر وهايدغر؟ يقول فاتيمو بأن « الأسباب التي حرّكت پوپر لمناهضة أفلاطون هي نفسها، وبالأساس، الأسباب التي حرّكت هايدغر في صراعه ضدّ الميتافيزيقا». فاتيمو يعترف، مرة أخرى، بأنه يُفكّر في صُلب المفارقات ويلتجئ إلى ما أسماه بالعنف التأويلي (violenza ermeneutica)، وهذا العنف التأويلي مُتأتٍّ، أساسا، من تقريبه بين مصطلحات ومفاهيم تبدو، للوهلة الأولى، بعيدة كلّ البعد عن بعضها: مثل عبارة پوپر "مجتمع منفتح"  بـ"حدث" (Ereignis) الهايدغارية. ولطمأنة القارئ الرّيبي يقول: « إننا لا نخون أغراض پوپر ولا هايدغر، على الرغم من أنه لا أحد منهما يقبل بهذا العنف التأويلي الطفيف».
فاتيمو يؤيّد موقف پوپر من أفلاطون حينما اعتبره أحد الأعداء الخطرين للمجتمع المنفتح، ذلك لأنّ أفلاطون، كما بيّن ذلك پوپر، لديه « تصوّر مَاهَوي للعالم (concezione essenzialista del mondo)». وطبقا لهذه النظرة فإن كلّ ما هو واقعي يَخضع لقانون مُعطَى كبنية ثابتة للوجود، وبالتالي فإن المجتمع ذاته عليه أن يَنصاع إلى ذاك التصوّر الماهوي. وبما أن الفلاسفة فقط هم الذين يَستطيعون تَعقّل ذاك النظام الدائم للأشياء، فإن مُهمّة قيادة المجتمع تعود إليهم بالدرجة الأولى. هذه المهمّة التي يزعمها الفلاسفة ـ اليوم العلماء وأصحاب الإختصاص ـ مرتبطة وثيق الإرتباط بالإقتناع المبدئي التالي: ألا وهو أنّ بالنسبة للفرد والمجتمع ينبغي عليهما أن يتطابقا دائما مع نظام مُعطى موضوعيا يَصلح أيضا كمِعيَار (Norma) أخلاقي؛ الوحيد الممكن. فاتيمو، على لسان پوپر، يُمعن في المفارقات والإستفزاز، يقول بأن هناك مبدأ محوريا في الحقل السياسي ـ التشريعي مفاده أن « "السلطة، وليست الحقيقة، هي التي تسنّ القوانين"  (auctoritas non veritas facit legem)»، هذا المبدأ ـ يُضيف فاتيمو « كان دائما عُرضة للنقد العقلاني ذي النفس الميتافيزيقي». فالعقلانيون، حسب هذا الطرح، يتعاملون مع أمور السياسة بذهنية علمية، راغبين في التوصل إلى حقائق نهائية وادراك الأشياء كما هي في ذاتها. لكن، حسب أطروحة فاتيمو، هذا هو الخطأ الأكبر الذي يداهم الممارسة السياسية، ذلك لأنه « كُلّما أولِجَ مطلب الحقيقة في السياسة، إلاّ وبرز أخطر أنواع التسلّط (الاستبداد autoritarismo)، أي الإنغلاق الذي حذّر منه پوپر».

أنفاسيخلد الفلاسفة بمفاهيمهم، و العلماء أيضا، بل إن العالم يتحول في آخر المطاف إلى إنسان مقترن بمجموعة من المفاهيم صيغت في شكل قوانين. و يخلد المفهوم الفيلسوف باعتبار المفهوم في جوهره تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه، و بالضبط بقضايا الإنسان في علاقته بالإنسان. و التورط و الارتطام قد يكونان بالمعنى الإيجابي و قد يكونان بالمعنى السلبي، و السلبي و الإيجابي يدركان طبعا انطلاقا من شرط من يرى و يدرك. و حين يتمكن الفيلسوف من بناء مفهوم ما بهذا المعنى) وهي عملية في غاية الصعوبة و إلا لكان كثير من الناس فلاسفة (، يولد المفهوم و ينفصل عن صاحبه، و يصبح ملكا لكل قادر على التورط أو إعادة التورط به. و هنا يكمن سر تخليده للفيلسوف الذي أبدعه. أما سر تخليد المفهوم للعالم، فالواضح أنه أشسع من سر تخليده للفيلسوف خصوصا حين يتعلق الأمر بالمفاهيم المرتبطة بقضايا الإنسان، إذ إلى جانب كون المفهوم هنا تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه يستثمره آخرون، فإن المفهوم في العلم يعتبر أداة للكشف و الاستقراء و النبش و السبر و التفكيك )تفكيك الوقائع طبعا( ...، يستمر اعتمادها) الأداة( بالتناسب مع حجم قوتها و فعاليتها، وما دام العلم لم يتمكن بعد من بناء مفهوم آخر أكثر قوة و فعالية.
و القارئ الذي تابع و تفحص الأعمال العلمية الكبرى لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو Pierre Bourdieu ، لابد أن يلاحظ كونها تمحورت حول مفاهيم كبرى اخترقت قوتها الثقافات و التخصصات و الحدود و اللغات، و باتت ملكا للكثيرين خلال حياته و اليوم بعد رحيله )أليست ضامنة لخلوده؟(، و نخص بالذكر مفاهيم "إعادة الإنتاج"La reproduction، و "العنف الرمزي"La violence symbolique، و "الهابيتوس" Habitus،) و مما له الكثير من المعنى أن لا نعثر له على مقابل متماسك في العديد من اللغات و يتم استعماله على نطاق واسع بلغته الأصلية (، و "الرأسمال الرمزي"Capital symbolique ، و "الخيرات الرمزية"Biens symboliques ، و "سوق الخيرات الرمزيةMarché des biens symboliques  ، و "الطبع"Inculcation ، و"النبلاء الجدد"La nouvelle noblesse، و"الميكروكوزم"Le microcosme  و "الحقل"Le champ...
و ما يهمني أساسا في هذه الدراسة هو هذا المفهوم الأخير، أي مفهوم "الحقل".و الحال أنه في غاية الصعوبة الإحاطة بكل المفاهيم التي أبدعها و تورط بها بورديو لأن لكل منها سياق تورطه و منطقه و رهاناته و سيرورة انبنائه .
مفهوم "الحقل" عند بورديو:    

أنفاس"ينبغي أن تظهر عبقرية الفيلسوف في ميزة أخرى غير التي تجعله غامضا ومبهما في نظر معظم الناس"  جورج غسدورف
 
مللنا من  انتظار قدوم الفيلسوف ومن طرح سؤال هل يوجد لدينا فلاسفة الآن أحياء في حضارة اقرأ ؟ وثرنا على من لا يعترف بقيمة هؤلاء المشتغلين بالفلسفة والقضايا الفكرية والمتناثرين في كل الدول العربية و اللاجئين في العواصم الغربية والذين يمارسون التنظير المعرفي والتحليل العلمي للواقع ويمتلكون رؤى مستقبلية فذة. ولكن ما أحوجنا الى إعادة طرح السؤال وتدقيق الصياغة حتى تكون أكثر دلالة ويكون الطرح وجيها ومقبولا فنقول: كم يمتلك هؤلاء الفلاسفة من قراء وجمهور ومنتظرين متلهفين لكتاباتهم ومقالاتهم ومقابلاتهم التلفزية؟
الجواب الذي يعترضنا أن عدد قليل من القاعدة الاجتماعية العريضة هو فقط الذي يكترث بهم ويركز اهتمامه عليهم ويتابع ما ينتجون من معارف وما ينشرون من أفكار جديدة. ولذلك فان هؤلاء الفلاسفة العرب ليست لديهم شعبية تذكر وشهرتهم هي شهرة نخبوية لا غير والإجماع حولهم لم ينعقد وأحيانا يؤلفون الموسوعات ويكتبون المجلدات ويؤثثون المراكز ويملؤون الكراسي في الجامعات ويحالون على التقاعد ويتوفون دون أن يسمع بهم أحد ودون أن يكون ما كتبوه قد قرأ ونوقش على الملأ وبالتالي دون أن يستفيد مجتمعهم من حضورهم وحراكهم الفكري ودون أن تؤثر أفكارهم في عصرهم سلبا أو إيجابا وتهديما أو تأسيسا. وتوجد عدة أسباب وراء هذا التباعد والإهمال أولها النظرة الخاطئة التي يتعامل بها الرأي العام مع الفلسفة والمشتغلين بها وعدم مجازفة هؤلاء بصنع الرأي العام وتوجيهه نحو تقبل الأفكار الفلسفية ولفت انتباههم إليهم، السبب الثاني هو غياب روابط عضوية بين الفلاسفة وقضايا مجتمعاتهم وعدم تواجدهم في مؤسسات المجتمع المدني وغيابهم عن مراكز صنع القرار وخاصة الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية من أجل الإقناع والتأثير على المترددين  وتحقيق الإضافة النوعية في تلك المجالات،السبب الثالث هو انغماس هؤلاء العلماء في القضايا الفلسفية المجردة واعتناءهم ببحوثهم الأكاديمية وإيمانهم بأن الفلسفة حرفة وتخصص ينأى بنفسه عن الشأن العام مما يخلق جو من التصادم مع عدة أطراف ونفور عدة جهات ثقافية ودينية واقتصادية منهم. السبب الرابع وهو حاسم في رأيي وهو تعامل السلطات السياسية مع الفلسفة والفلاسفة بنوع من الإقصاء والتهميش والمنع والاحتقار وفي بعض الأحيان بنوع من التوظيف والاستغلال والاحتواء والاستقطاب وذلك لإرضاء السواد الأعظم الذي يعيش وفق ما يقوله الرأي بينما الفلسفة تأسست أصلا لمداهمة هذا الرأي والدعوة الى الارتفاع عنه نحو  التعقل والتبصر ثم لإرضاء فئة الفقهاء التي تركز عليها السلطة السياسية لإضفاء المشروعية على ممارساتها وللمحافظة على الإجماع والتأييد ونحن نعلم أن الفقهاء قد ناصبوا الفلسفة والفلاسفة العداء لأسباب نفسية مصلحية ترتبط بصراع القوى أكثر منها أسباب مبدئية وقيمية ترتبط بالحقيقة والثقافة.

أنفاسمقدمة:‏
تهتم هذه الدراسة بمتابعة موضوعات فلسفية تناولها ثلاثة من الفلاسفة الأساتذة، عاشوا في عصور مختلفة، ولكنهم واجهوا مشكلات فلسفية ـ اجتماعية متشابهة، فطرحوا لها حلولاً متشابهة.‏
ونظراً لاتساع الموضوعات التي تناولها كل فيلسوف منهم، خلال تقويمه لمذهبه الفلسفي، الأمر الذي يصعب ـ على دراسة محدودة الأغراض ـ الإحاطة بها، وإيفاؤها بما تستحقه من اهتمام ودراسة. وبما أن فلسفة الفارابي، في الأساس، هي محور هذه الدراسة الرئيس، لذلك سنقتصر على تناول الموضوعين التاليين:‏
1 ـ بيان أثر جمهورية أفلاطون في آراء أهل المدينة الفاضلة، للفارابي.‏
2 ـ بيان مدى التشابه بين نظرية الفيض لدى كل من أفلوطين والفارابي.‏
وقبل البدء بتقديم هذين الموضوعين تبدأ الدراسة بتقديم الفلاسفة والتعريف بهم، وفقاً لزمن ظهورهم، على النحو التالي:‏
ـ أفلاطون.‏
ـ أفلوطين.‏
ـ الفارابي.‏
1 ـ أفلاطون:‏
ولد أفلاطون في العام 428 ق.م لأسرة تميزت بالنسب العريق، ونشأ نشأة شباب أثينا الأرستقراطي، وتعلم على السوفسطائيين وسقراط(2).‏
أسس أفلاطون مدرسة في بستان "أكاديموس" فسميت بالأكاديمية التي جاء تأسيسها حدثاً هاماً في حياته وحياة الفكر الغربي بأسره(3). إذ ظلت قائمة ما يقرب من عشرة قرون إلى أن أمر بإغلاقها الإمبراطور الروماني "جوستنيان" عام 549م(4).‏
كان أفلاطون يهدف من تعليمه في الأكاديمية تكوين فئة من الفلاسفة المستعدين لنشر نظريات اجتماعية ـ سياسية في أنحاء بلاد اليونان.‏
تكون في الأكاديمية مذهب سياسي نظري(5)، أخرج سياسيين ومشرعين، وكان لأفلاطون محاضرات يلقيها في الأكاديمية، ومؤلفات أخرى كتبها للجمهور وتعد محاورة الجمهوريَة أهم كتب أفلاطون لما تتضمنه من نظريات مختلفة ارتبطت معاً لتكون نظرة لحياة الإنسان، كان لها في تاريخ الفلسفة، فيما بعد، تأثير لم ير مثله كتاب من كتب الفلسفة.‏

أنفاس إن دعاوي " نهاية المثقف "، في اطار ما يعرف بخطاب النهايات، لم تفعل سوى أن أكدت، ربما بقوة، على ضرورة الثقافة والمثقفين، ويكمن مصدر هذه الضرورة في ارتباط الثقافة بالهوية خاصة في الثقافات "المغلومة"   "والمهددة " مثلما نجد في العالم العربي والإسلامي. وتتأكد مشكلة الهوية، وبشكل جلي، على صعيد العودة إلى التراث الذي يعد "قضية القضايا"، ويشرح ادوار سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية "ان الثقافة "مصدر" من مصادر الهوية "، اضافة الى انها "مصدر صدامي " كذلك. وهو (أي ادوار سعي) يستخلص هذا المعنى " للثقافة " من حالات "الرجوع " الى الثقافة( ذاتها) والتراث(1).
ومن هنا فإن التراث لا يمثل حافزا من ناحية نسقه النظري الخالص أو مجاله التاريخي المحدود. هناك الفكر العربي،"إشكالاته المتعددة " و"ايديولوجيته المعاصرة " و" نزعاته المادية " و"ثابته ومتحوله " و"وثورته وعقيدته "... الخ، بكلام أخر: هناك الحاضر الذي يلون قراءة التراث أو المجال التراثي المشروط بمقتضياته التداولية الأساسية. الحاضر الذي يؤثر في علاقات القناص الموجبة التي تصل ما بين الماضي والحاضر، أو ما بين تاريخية القارئ وتاريخية المقروء. ثم إن هذا الحاضر. أو "تحدياته "، هو الذي يجعل العودة إلى التراث ذات "معنى ومعنى درامي" كما يقول محمد عابد الجابري أحد أبرز المشتغلين على التراث (2). وفي هذا المنظور فان ما أبدع رجالات التراث، دون أن نغفل ما تعرضوا له من قمع واضطهاد، هو ما عجزنا عن الإتيان بمثله في وقتنا الحاضر الذي اشتد فيه "استئسار الإبداع " و"تحقير العقل "، ومن هنا يمكن أن نفهم تضارب المواقف والنتائج على مستوى قراءة التراث، وعلى مستوى مكانته ذاتها ضمن لائحة القضايا التي تستأثر بالفكر العربي المعاصر. وفي جميع الحالات فإن الموقف الذي يدعو إلى "القطيعة " مع التراث بدعوى "التاريخانية " أحيانا والاندماج في العصر وحركته التقدمية أحيانا أخرى. يظل وعلى أهميته، "ضئيل " التأثير مقارنة بدعاوي العودة للتراث من أجل "تمثل " أفكاره التي نعتقد أنها "تجيب " على أسئلة الهوية / الحاضر. من الجلي إذن أن التراث ليس مشكلا نظريا أو معرفيا. وإنما هو مشكل معقد تتداخل فيه عوامل عديدة مما يجعل من القراءة فعلا تأويليا مركبا دون أن نغفل هنا مدى "التباس " هذا الفعل بالأطر الثقافية والتاريخية لدارسي التراث. بالإضافة الى المتغيرات العالمية التي تتخل بدورها في توجيه القراءة، قراءة التراث التي تعنينا هنا.

أنفاستمهيد:
 يعد ألتوسير L.Altusser من أهم النقاد والفلاسفة الذين عرفتهم فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين الى جانب ميشال فوكو M.Faukault وجاك دريدا J.Derida وجاك لاكان J.Lacan وقد عرف ألتوسير بمحاولاته النظرية المتميزة، الهادفة الى إخضاع الماركسية لنسق المقاربة البنيوية، ومن ثم تخليصها من طابعها الايديولوجي التعميمي.
والحقيقة أن ألتوسير لم يكن سباقا الى هذا النهج، فقد سبقه إلى ذلك مواطنه لوسيان سيباغ L.Sebag الذي تميزت مقارباته بالجذرية، مما أدى به الى طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1965، ومن جملة ما طرحه سيباغ اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وإنكار مبدأ الحتمية في النظرية الماركسية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي أساس الحركة التاريخية، إضافة الى الاعتراف بدور الأنظمة الايديولوجية (الفكر، الدين، الثقافة،...) في حركة التاريخ(١).
أنجز ألتوسير كتابين هامين في سياق قراءته الجديدة لماركس، وهما «قراءة رأس المال» Lire le Capital و«من أجل ماركس» . Pour Marx ويرى عمر مهيبل ان ألتوسير نزع الى هذه القراءة بدافع سببين:
1 - شعوره بالنقص النظري للفلسفة الماركسية في فرنسا، بفعل انصراف الماركسيين الفرنسيين الى السياسة.
2 - الرد على النزعة الانسانية التي روج لها بعض الماركسيين الفرنسيين أمثال جارودي  R.Garaudy ، والتي رأى فيها ألتوسير إفقارا للماركسية، وتجاوزا لطابعها العلمي.(٢)
القراءة المنهجية لرأس المال:
يعد منهج ألتوسير من المناهج البنيوية المغرقة في الصرامة العلمية، لقد انتهى الى تقسيم مسار ماركس الفكري الى مرحلتين كبيرتين:
مرحلة الشباب التي كان فيها متأثرا بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ومرحلة الكهولة والنضج التي قطع فيها ماركس مع ماضيه الايديولوجي والمثالي، ليبلور مقاربة علمية، تبدو بصورة واضحة في كتابه «رأس المال».
من خلال هاتين المرحلتين، يبدو ماركس قد حقق قطيعة ابستيمولوجية ونقلة معرفية من الممارسة الايديولوجية الانسانية الى الممارسة العلمية والنظرية، ومن التأثير الهيغلي- الفيورباخي الى الوعي الأصيل بضرورة قراءة الأشياء قراءة نسقية، تكشف عن بنيتها الخفية ونظامها الهيكلي، بدل الاكتفاء بالتأمل الفلسفي.

أنفاس لم يخلف الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر مبحثا في علم السياسة. غير انه بسبب السياسة نفسها أمسى موضوع جدل لم ينقطع منذ ما يربو على نصف قرن. فهايدجر، وكما لا يخفر، كان نازيا، بل وعلى ولاء النازية لم يتورع بسببه عن الوشاية بزملاء له في الحقل الاكاديمي، وانكار فضل آخرين رعوه في مطلع حياته الفكرية واسبغوا عليه من الاهتمام ما يحتاجه كل ذي موهبة. ولم يكن انكار الهؤلاء او وشايته بأولئك الا لكونهم يهودا او لانهم لم يظهروا من الولاء "للامة الالمانية " ما لم يتوان هو عن  اظهاره.
واذ تسوغ هذا المفارقة امرا فإنها تسوغ النظر الى المسافة الفاصلة ما بين إعراض الفيلسوف عن الكتابة في علم السياسة على غرار ما ذهب اليه عدد كبير من الفلاسفة وما بين انضوائه عضوا في الحزب النازي، كمبعث جملة من الشكوك والتساؤلات لم تبرح تظهر كلما أشير إليه من قريب او بعيد: امن الاحق الربط ام الفصل ما بين الموقف السياسي لهايدجر وما بين فلسفته؟ فهل كان للسياسة موقع في فلسفته؟ وما طبيعتها وعلى اي وجه تكون وما اثرها العام على مشروعه الفلسفي، وهو، على ما يزعم، صاحب مشروع فلسفي راديكالى؟ ولم أعرض الفيلسوف عن وضع مؤلف في السياسة طالما انه لم يتوان عن الالتزام بحزب ساسي؟
سؤال الكون
والحق فإن الفيلسوف الالماني الكبير لم يستنكف من الكتابة في السياسة او في اي من حقول المعرفة الاخرى كتابة مستقلة الا لان في ذلك استباقا للسؤال الاساسي الذي شاء العودة اليه من جديد، أي سؤال معنى الكون، او ما ه معنى ان تكون؟
ولقد رأي هايدجر ان ثمة مفهوما لكون كافة الكائنات يكمن في مجمل ادراكنا للواقع. صير الى نسيانه عن قبل الفلسفة الغربية منذ افلاطون وارسطو والانشغال عنه بما ينشق عنه من اسئلة اخرى.وكان ارسطو قد ميز ما بين معان كثيرة للكون كثرة الكينونات المتوافرة بما اشارع الظن بأن الكون هو ان تكون هيوليا فضلآ على المقولات التسع الاخرى. التي ارسي الفيلسوف اليوناني القديم اسسها، والصفات الملازمة للهيولى. وعلى منوال ارسطو سارت الفلسفة الغربية متناسية البحث عن معنى موحد لكون سائر الكائنات.
وبخلاف الفلسفة الانطولوجية التقليدية التي سلمت بداهة بأن ما يعين او يعرف كون الشيء، او كيانه. هو جوهره الموضوع الثابت، رأى هايدجر ان ثمة تداخلأ ما بين الذات المفكرة والواقع. الموضوعي بما خلص به الى القول ان نظرنا هو الذي يعزو الدلالة الى الموضوع، ولكن شريطة ان يكون الموضوع قابلأ لحمل هذه الدلالة. فعلى هدى فلسفة علم الظهور (الفينومينولوجيا) التي امتاز بها استاذه ادموند هوسيرل.

أنفاس ترى حنا أراندت أن العنف, كمفهوم وكظاهرة, لم يجلب اهتمام الفلسفة السياسية بصفة رئيسية حيث إنها لم تسع إلى استجلاء معانيه ودلالاته, بل ما كان يهمها هو مدى تأثير العنف على الإنسان والمجتمع, وكيف يمكن احتواؤه أو توظيفه. على أن هذا التساؤل الذي طرحته على نفسها واصطدمت به وأرق مضجعها هو الآتي: كيف يمكن تفسير العنف لما يصل إلى أقصاه, إلى حدود غير متوقعة, ويتحول إلى ما أسمته بالشر الراديكالي أو الشر المحض (Le mal radical)؟
إن الفلسفة السياسية, حسب ليوستروس, تهدف إلى الإمساك "بالأشياء السياسية"(1) وإلى فهم معانيها, بحثا عن ماهيتها وحقيقتها, وهي كذلك تفكير وتأمل في القيم الإنسانية, وهي قيم سياسية وأخلاقية, كالمساواة والعدالة والحرية والوحدة الخ…(2) وبالتالي تتمحور الفلسفة السياسية حول الغايات المتوخاة من السلطة بصفتها الأداة الضرورية لتحقيق القيم(3). فما هي مكونات هذه السلطة وما هي طبيعتها؟ إن تحديد هذا التساؤل يبدو ضروريا منذ الوهلة الأولى حيث أن القيم السياسية والأخلاقية, تبقى رهينة بطبيعة السلطة التي يتعين عليها ترجمتها على مستوى الواقع. ولما نحاول معاينة السلطة والإحاطة بها انطلاقا من التاريخ ومساره نصطدم، بصفة تكاد تكون حتمية، بظاهرة العنف.
ذلك أن العنف يبدو كأنه يحوم حول السلطة بل مرتبط بها، ولعله كان كامنا فيها. ونراه يهدد وجودها واستمراريتها في ذات الوقت. وهنا تتمثل المفارقة الأولى!
وإذا أخذنا بالفكرة القائلة بأن العنف يمثل إحدى مكونات السلطة وهو لصيق بها, فكل القيم الأخلاقية والسياسية تبقى مرتبطة بشكل أو بآخر بالعنف. فبناء "المدينة الفاضلة" بمعنى آخر, يوجب نظريا اللجوء إلى العنف ما دام العنف محايثا للسلطة, أيا كانت هذه السلطة. العنف إذن من أجل الحكمة والفضيلة! وهنا تكمن المفارقة الثانية!
هذا المأزق النظري يدعونا إلى التساؤل عن حقيقة العنف. هل هو بالفعل ملازم للسلطة، لصيق بالعمل السياسي ومرتبط بكل اجتماع بشري؟ كما ذهب إلى ذلك عدد كبير من المفكرين المحدثين كماكس فيبر وكارل سميت وجوليان فروند وغيرهم… أم هو ظاهرة تاريخية, متغيرة وعارضة مرتبطة بطبيعة السلطة وبأهدافها وببنية التركيب الاجتماعي؟
تبعا لما سبق سنقوم بتقسيم هذه الدراسة إلى شقين:
القسم الأول يحمل العنوان الآتي: التعارض الأنطولوجي بين العنف والسياسة.
أما القسم الثاني فيحمل العنوان الآتي: التلازم العضوي بين العنف والسياسة.

أنفاسما الذي يمكن أن نكتشفه بعد الآن عن هيجل ؟ ألم تكتب عنه مئات بل آلاف الكتب في مختلف اللغات ؟ وهل بقي شيء لكي يقال،أم "هل غادر الشعراء من متردم "، كما يقول شاعرنا الجاهلي ؟ ومع ذلك فهذا هو التحدي الذي يطرحه على نفسه الباحث الفرنسي جاك دوندت أحد كبار المختصين في الدراسات الهيجلية، فقد نشر سيرة ذاتية كاملة عن الفيلسوف الألماني الكبير. وزعم بأنه أتى فيها بأشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل، وكل ذلك بفضل الوثائق والارشيفات التي اكتشفت مؤخرا عن هيجل وفترته. وقد عدل من الصورة الشائعة عن هيجل، وخصوصا تلك التي تقول بأنه كان ثوريا في شبابه ثم أصبح محافظا في كهولته ونضجه، فهو يبرهن على أن هيجل بقي وفيا لمبادئه الليبرالية الأولى التي اعتنقها في مرحلة الشباب، ولم يصبح منظرا للدولة البروسية الاستبدادية أو الرجعية كما يزعم خصومة مهما يكن من أمر فإن كتاب البروفيسور جاك دوندت يستحق الاهتمام على أكثر من صعيد. فقد أمضى عمره المديد في دراسة هيجل وفلسفته. وأصدر عنه على مدار الثلاثين عاما الفائتة مجموعة كتب متواصلة أصبحت مراجع مهمة في المكتبة الفرنسية. نذكر من بينها: هيجل في زمنه (1968)، من هيجل الى ماركس (1972)، هيجل والفلسفة الهيجلية (1982)، هيجل السري (1985)، هيجل، فيلسوف التاريخ الحي  (1987).. هذا يعني أن شهادة شخص مثل جاك دوندت تستحق كل اهتمام. يفتتح المؤلف كتابه بمقطع من شعر هولدرلين، صديق هيجل الحميم، قبل أن يغطس في بحر الجنون يقول هذا المقطع:"أحس في داخلي بحياة لم تخلق من قبل أي إله،حياة لم تولد من قبل أي انسان. أعتقد أننا نوجد بأنفسنا وأننا لسنا مرتبطين بالكل ( او بالاله) الا عن طريق رغبة حرة...»(1)
سوف نرى فيما بعد نوعية العلاقة بين هولدرلين وهيجل، وكيف أنهما ناضلا كل على طريقته، من أجل المثالية والحرية في، كل ما نعرفه عن طفولة هيجل هو أنه ولد في مدينة شتوتجارت عام 1770م في عائلة متواضعة من الناحية المادية. وقد أصيب بعدة فواجع في طفولته، ففقد أمه التي كان يحبها كثيرا في الحادية عشر ة. وقتل أخوه في الحرب، وجنت أخته التي كان متعلقا بها أيضا كثيرا. تضاف الى ذلك مأساة طفله غير الشرعي الذي سبب له متاعب عديدة طيلة حياته كلها. وبالنسبة للفيلسوف المقبل، فقد تضافرت الصدفة والضرورة لكي تصنعا منه أكبر فيلسوف في ألمانيا، وربما في العصور الحديثة كلها، فقد بلغ سن النضج (أي 18 سنة) عندما بلغت فرنسا نضجها السياسى بأندلاع ثورتها الكبرى عام 1789. وكان مساره  الفلسفي متساوقا مه مسار هولدرلين الشعري، أو مع مسار بيتهوفن الموسيقي، ومع مسار نابليون السياسي... فلم يكن نابليون فاتحا في مجال الحرب والسياسة بأكثر مما كان هيجل فاتحا في مجال الفكر والفلسفة. ويبدو أن التعاليم الأول لم تؤثر عليه كثيرا من الناحية الفكرية.

أنفاسإن أي دراسة للحضارة الغربية لا تأخذ الأبعاد الفكرية والفلسفية التي بُنيت عليها ستكون حتما دراسة قاصرة، وغير ناجعة، لفهم ما آلت إليه هذه الحضارة من تيه وضياع، ومن بين مظاهر هذه الحضارة الآن التطور التكنولوجي المذهل الذي يسابق الزمن، وحصر مفهوم التقدم في الأشياء المادية دون الأخذ بالاعتبار الأبعاد الربانية والإنسانية للإنسان، وكان الأولى أن يكون هذا التطور والتقدم نعمة على الإنسان، وفي خدمته، إلا أن النقمة لاحقت الإنسان، وجعلته يتحسر على الزمن الماضي.. زمن البساطة والسهولة.
الحياة في هذا الزمن ( الصعب ) تسير إلى العدم، والكون يتجه إلى الانتحار، وهذا كله نتاج العقل الإنساني العبثي، الذي طلق الوحي الإلهي، وآمن بالعقل، وكل ما يتوصل إليه في حل المشكلات التي تواجه الإنسان في حياته، وجعل أولى أولوياته الربح المادي.. هذا العقل العبثي الذي أعلن موت الإله، هو نفسه الذي قرأ تراتيل النهاية على الإنسان.
موت الإله: المتتبع لتاريخ الفكر الغربي يجده قد مر بالعديد من المراحل، ولعل أبرزها الصراع الكبير بين العقل والدين/ الكنيسة، هذا الصراع لا يرجع إلى اعوجاج في آليات التفكير العقلي فحسب، بل إلى التناقض الفادح بين المبادئ التي تؤمن بها الكنيسة، وتدعو لها، وتطبيقاتها على أرض الواقع.
فتصرفات رجال الكنيسة، وتضييقهم الخناق على العقل، والفكر الحر، وتواطؤهم مع ذوي السلطة والمال، على حساب الطبقات الكادحة، هي التي ولدت الكراهية والامتعاض ضد الدين وتعاليمه، مما أدى بالكثير من الفلاسفة والمفكرين أن يتبنوا أفكارا مناهضة للدين، وقراءات مناقضة للوحي الإلهي، هذه الأفكار والقراءات كانت بمثابة إعلان عن انتصار الإنسان على الإله، وانتصار العقل على الدين، وطلاق الأرض من سلطة السماء..
"فالله قد مات" كما أعلن نيتشه، و"الدين أفيون الشعوب" كما قال ماركس، لهذا لابد للعقل أن يأخذ زمام المبادرة، دون الحاجة إلى تعاليم السماء، حتى ولو أدى ذلك إلى عقد ميثاق مع الشيطان، والتعاون معه من أجل اكتساب العلم والمعرفة كما فعل " فاوست ".
مفهوم موت الإله: لقد أعلن فيلسوف العدمية الشهير فريدريك نيتشه " موت الإله " في كتابه " هكذا تكلم زرداشت " بصرخته المرعبة " يا قوم، لقد ماتت القيم، لقد مات الدين المسيحي في أوروبا، ومات الإله " علما أن الإله الذي يهاجمه نيتشه، ويعلن موته هو غير إلهنا الذي نعبده، وندعوه، ونوقره، وعالم نيتشه الروحي غير عالمنا الروحي الذي نحياه ونعيشه.
والسؤال المطروح لماذا أعلن نيتشه موت الإله؟.

أنفاسالمسلمون يقولون بالتوحيد بل إن عنوان دين الإسلام هو لا اله إلا الله ولكن الفلاسفة وعلماء الكلام فلسفوا هذا التوحيد وبحثوه بحثا كلاميا وعمقوه تعميقا جدليا وأضفوا عليه صيغا منطقية ومصطلحات فلسفية وعدد الذين شكوا في وجود الله ووصلوا إلى مرتبة الإلحاد والزندقة يعدون على الأصابع، فمعظمهم ينطلق من أن الله صانع العالم ومبدع الكون ويقيم أنساقا معرفية ومناهج فلسفية كلها تبرهن وتثبت وجود الله لكن إن اتفق المسلمون أن الله تعالى واحد اختلفوا في علاقة ذاته بصفاته وعدد أسمائه الحسنى و قالوا أن كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تنسب إلى الله العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام فهل هذه الصفات هي أسماء زائدة أم عين الذات؟ بعبارة أخرى هل الأسماء مجرد صفات أم عين للذات الإلهية؟ ثم ما الفرق بين التصور الاعتزالي والتصور الأشعري للذات الإلهية؟ ألم يقع التصور الكلامي برمته في خطأ منهجي هو قياس الغائب الإلهي على الشاهد الإنساني؟
1-   الله عند المعتزلة:
يقصد المعتزلة بعلم التوحيد العلم بأن الله تعالى واحد لا شريك غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه والإقرار به وهذا الحد الذي يستحقه هو عندهم التنزيه المطلق للذات الإلهية ونفي المثلية عنها بأي وجه من الوجوه وفي إطار هذا التنزيه المطلق نشأت عندهم مباحث متعددة كمبحث الذات والصفات. إن معرفة الذات الإلهية عند المعتزلة واجبة لما تؤدي إليه من الالتزام بحدود الشريعة الذي هو غاية وهدف الدين الإسلامي ولأن المفهوم الاعتزالي للإيمان والذي أساسه العمل يستوجب معرفة الحقيقة الإلهية والاقتناع بها مما يدفع إلى كمال العقل والتشبث بالطاعات العملية ولذلك فان شيوخ الاعتزال وجهوا جهودهم إلى تركيز حقيقة التوحيد في النفوس واستعملوا في ذلك مختلف الأساليب والمعطيات الفلسفية والطبيعية هادفين إلى أن يصل التصديق بهذه الحقيقة إلى مرتبة الدفع إلى العمل وأجمعوا على أن الله واحد ليس كمثله شيء وأنه ليس بجسم طبيعي أو حيواني وأن ذاته ليست مؤلفة من جوهر ذي أعراض تدركها الحواس وأنه منزه عن عوارض المادة وخواصها وأنه بسيط يستحيل عليه التجزؤ ولا يحيط به المكان ولا يجري عليه الزمان ولا تحدده الحدود والنهايات ولا تحيط به الكميات، انه تام الكمال بحيث لا يتصور له شبيها ووجوده أزلي لا شاركه في الأزل أحد،فالله واحد لا شريك له من أي جهة كانت ولا كثرة في ذاته البتة وهو خالق الجسم وليس بجسم ولا في جسم ومحدث الأشياء وليس بمحدث منزه عن كل صفات الحدوث.