كتاب من تأليف موسى نعيم، المفكر والكاتب الصحفي الليبرالي الذي ذاع صيته في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، كما شغل مناصب رفيعة حيث عمل مديرا تنفيذيا للبنك الدولي ووزيرا للتجارة والصناعة في فنزويلا. صدرت الطبعة العربية من الكتاب في العام 2016 عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. يتناول المؤلف ظاهرة اضمحلال القوة وتراجع النفوذ المتولد من مزاولة السلطة، إذ لم يعد تولي مناصب المسؤولية يمنح صاحبه ذلك القدر الهائل من القوة التي يتصورها، فقد أمست قاعدة المنافسة على مناصب السلطة في ميادين السياسة والاقتصاد ومجالات أخرى أكثر اتساعا بسبب ظهور منافسين وفاعلين جدد. فما هي تجليات وأسباب ونتائج تلك الظاهرة؟

أولا: مظاهر تراجع القوة

في المجال السياسي، يشير المؤلف إلى المعطى المتمثل في تراجع نفوذ الأحزاب الأيديولوجية التقليدية من اليمين واليسار لصالح أحزاب صاعدة ذات أساليب واتجاهات فكرية جديدة (كالأحزاب البيئية واليمين المتطرف)، الشيء الذي أدى إلى توزيع القوة السياسية على فاعلين متعددين، إذ أمسى من الصعب على حزب سياسي بمفرده تشكيل أغلبية واضحة تتيح له الحكم بأريحية. هذا بالإضافة إلى تعدد مستويات اتخاذ القرار وظهور سلطات تنفيذية وتشريعية جديدة في إطار اللامركزية والحكم المحلي، دون إغفال صعود عينة جديدة من السياسيين الشعبويين الخارجين عن النموذج النمطي نظرا لافتقارهم إلى صفات الرزانة والتعقل واللباقة في الحديث.

مرورا بالقطاع العسكري، فقد أضحت الحروب الحديثة بهذه الدرجة أو تلك متوازنة بين أطرافها حتى مع فارق الإمكانيات الهائل، كالحالة التي يتواجه فيها جيش نظامي مدجج بأحدث الأسلحة مع ميليشيات غير نظامية تملك أسلحة ذات تكلفة مادية زهيدة ومكونة من مواد بسيطة، ولكنها مع ذلك قادرة على إحداث أذى كبير بخصومها واستنزافهم بسبب إتقانها لتكتيك حرب العصابات، مما يُبرز التغير الذي طرأ على معادلات القوة في الميدان العسكري، فضلا عن بروز دور الشركات العسكرية الخاصة التي باتت تضطلع بأدوار مهمة في الحروب الحديثة.

وصولا إلى عالم الاقتصاد والأعمال، حيث لم يعد في وسع المدراء التنفيذيين للشركات البقاء في مناصبهم لمدد طويلة بسبب الضغوط والانتقادات المستمرة من طرف حاملي الأسهم والمستهلكين، بالإضافة إلى صعود نجم الشركات الناشئة بما في ذلك تلك المنتمية إلى القوى الاقتصادية الصاعدة (البرازيل، الهند... إلخ) التي بدأت تزيح شيئا فشيئا الشركات التقليدية الكبرى وتزاحمها في نشاطاتها. كما أن البنوك لم تعد تهمين على القطاع المالي والاستثمارات كما كان عليه الحال من قبل، إذ ظهرت صناديق التحوط الاستثمارية التي تسيل لعاب المستثمرين.

على مدى القرن الماضي، أصبح الوشاح -ونسخته باللونين الأبيض والأسود على وجه الخصوص- مرتبطاً بشكل وثيق بالقضية الفلسطينية. وبينما ينظر الفلسطينيون إليها كرمز لهويتهم الثقافية والوطنية، ينظر إليها آخرون على أنها تهديد. وطالما ظل الفلسطينيون خاضعين للاحتلالات كشعب، فإن حتى شيئاً بسيطاً مثل الكوفية التقليدية يتحول إلى شيء أكبر من مجرد عرض ثقافي؛ يصبح جزءًا جوهرياً من رحلة مثيرة للجدل نحو التحرر والاستقلال والحرية. لذلك، في حين أن الفلسطينيين لا يزالون يرتدون الكوفية للأغراض العملية للقماش وأهميته الثقافية، فإنهم غالباً ما يرتدونها أيضًا للتأكيد على بيان سياسي. ففي نهاية المطاف، أصبح التعبير عن الهوية الفلسطينية عملاً من أعمال المقاومة في حد ذاته - لتذكير الآخرين بأن هذا الشعب لا يزال موجوداً، والتذكير بقضيته الوطنية وحقوقه السياسية، وتسليط الضوء على نضالاته وفواجعه.

يرتدي سكان العديد من المناطق في بلاد الشام والشرق الأوسط الكوفية، لكنها اشتهرت في العقود الأخيرة على أنها رمزاً للهوية الوطنية الفلسطينية، ورمزاً لمقاومة الاحتلال والمغتصب.

ويتم ارتداء الكوفية الفلسطينية من قبل المتظاهرين الذين يضعونها حول أعناقهم، أو لتغطية وجوههم في الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في جميع أنحاء العالم.

الكوفية التي كان يرتديها في الأصل الرعاة والمزارعون البدو، أصبحت اليوم قطعة مميزة من الملابس على مستوى العالم يرتديها الثوار والناشطون المناهضون للاستعمار وما شابه، في حين لا يزال كبار السن والمزارعون في فلسطين وبلاد الشام يرتدونها كأغطية الرأس التقليدية، كما تُستخدم للحماية من الشمس والرمال.

ما هي الكوفية؟

الكوفية - تُكتب أحيانًا باللغة الإنجليزية kufiyya أو keffiyeh- هي وشاح تقليدي يتم ارتداؤه في أجزاء كثيرة من فلسطين. تكون الكوفية عادة إما باللونين الأسود والأبيض، أو الأحمر والأبيض، وتتميز الكوفية بأنماط متعددة وشراشيب على حافتها. الكوفية التي تسمى أيضاً "الحطة أو الشماخ" كان يرتديها الرجال البدو والمزارعين في فلسطين خلال بداية القرن العشرين. كانت الكوفية تصنع غالباً من القطن والحرير والصوف الناعم في القرن التاسع عشر، وتتضمن خيوطاً بيضاء، وسوداء، وخضراء، وحمراء.

كان جميع الناس ـ رجالاً ونساءً ـ يرتدون أغطية للرأس في الشرق الأوسط. وكان القرويين وسكان المدن لديهم أنماط مختلفة من أغطية الرأس عن تلك التي يرتديها البدو. كان الرجال البدو يطوون الكوفية بشكل قطري ويثبتونها على رؤوسهم باستخدام العقال أو حبل للرأس.

بالإضافة إلى كونها علامة بصرية للهوية البدوية، تخدم الأوشحة غرضاً عملياً، فهي تساعد على حماية مرتديها من شمس الصحراء ورمالها الشديدة. فيما الأنماط المنسوجة في كل كوفية، تعكس جوانب مختلفة من أرض فلسطين، مثل شجرة الزيتون وشبكة صيد السمك. واستخدم القادة البريطانيين الكوفية الحمراء والبيضاء كجزء من الزي الرسمي لدورية الصحراء في الأردن، وهي وحدة بدوية من الفيلق العربي. لكن الكوفية بجميع ألوانها يرتديها الناشطون الفلسطينيون والمقاومون. بالإضافة إلى النمط التقليدي الذي يتم ارتداؤه على الرأس، تُرى الأوشحة اليوم أيضاً حول الرقبة وكشالات على الكتفين.

هرب الكاتب الفرنسي التنويري والفيلسوف الساخر "فولتير" Voltaire من باريس إلى إنجلترا عام 1726 بعد أن اتهمه "دوق روهان" Duc de Rohan بالتشهير. وبعد نفي دام ثلاث سنوات، حصل على إذن بالعودة إلى باريس عام 1729. في عام 1734هرب مرة أخرى إلى منطقة "شامبانيا" Champagne الفرنسية التي تشتهر بالكروم، وحيث استبدل رأس المال المتطور والكريه الرائحة بأفدنة من مزارع الكروم المخططة بدقة. ومرة أخرى، اصطدم الفيلسوف ذو اللسان الحاد بالرقابة الفرنسية.

يهرب فولتير مرة أخرى، وهذه المرة هربًا من العاصفة التي أحاطت بنشر رسائل فلسفية (المعروفة أيضًا باسم رسائل تتعلق بالأمة الإنجليزية). وهي سلسلة من المقالات كتبها فولتير بناءً على تجاربه في بريطانيا العظمى بين عامي 1726 و1729. نُشر الكتاب أولاً باللغة الإنجليزية عام 1733 وبالفرنسية في العام التالي، حيث كان يُنظر إليها على أنها هجوم على نظام الحكم الفرنسي وتم قمعه بسرعة.

قام الكتاب المصمم على شكل رسائل بتصنيف الحياة الدينية والسياسية والثقافية في بريطانيا، مشيدًا بالدولة الجزيرة لمناصرة الحرية والتجارة. لقد تطلب الأمر أيضاً أكثر من بضع ضربات شديدة على النبلاء الفرنسيين. تم حرق المجلد غير المشروع، الذي لم يتم مسحه من قبل الرقابة الملكية، من قبل الجلاد الملكي لتراه كل باريس. تم إصدار مذكرة اعتقال بحق فولتير، والتي في حالة تنفيذها، ستؤدي إلى وصوله إلى سجن الباستيل.

وبدلاً من أن يتعفن في زنزانة سجن رطبة، كان فولتير على بعد أكثر من 140 ميلاً، حيث لجأ إلى ملاذ تحت سقف "قلعة سيري" Château de Cirey والحماية التي توفرها العلاقات العائلية للماركيز "فلورنت كلود دو شاتليه" Florent-Claude du Châtelet. على مدى السنوات الخمس عشرة التالية، عاش فولتير في سيري، وكتب سيلاً مستمراً من الرسائل ليظل على اتصال مع أصدقائه في باريس وغيرهم ممن كانوا في الخارج. ساعدت تلك الرسائل في الترويج لمسرحياته وأعماله التاريخية ومقالاته، مع إبقائه على اطلاع بآخر التطورات الفكرية. وقد خاض أيضاً علاقة عاطفية متقدة من القلب والعقل مع "إميلي دو شاتليه" Emilie du Châtelet، زوجة المركيز.

أثناء وجوده في سيري، كتب فولتير ونشر واحداً من أبرز الكتب في حياته المهنية المثمرة للغاية: "عناصر فلسفة نيوتن" Éléments de la Philosophie de Newton، وهو أول تقطير لميتافيزيقا العالم الإنجليزي يظهر باللغة الفرنسية. من خلال إعلان نفسه مؤيداً لنيوتن – وضد "رينيه ديكارت" René Descarte الذي هيمنت آراؤه حول الزمان والمكان والمادة على التفكير العلمي والفلسفي – أشعل فولتير حرباً داخل جمهورية الآداب، وهي التجمع الفضفاض من الرجال والنساء المتعلمين الذين شكلوا المجتمع الفكري في أوروبا.  وانتشرت الرسائل عبر أوروبا والقناة الإنجليزية لتشريح حجج فولتير. وطبعت كتيبات وكتب رداً على ذلك، وأجاب فولتير بالمثل.

كتاب من تأليف الباحث المصري باسم خفاجي، صدر في العام 2005 عن المركز العربي للدراسات الإنسانية، يتكون من مقدمة وستة فصول، بسط من خلالها الدارس أهم السمات المميزة لذهنية الإنسان الأمريكي، إذ أورد الكاتب أن التعرف على تلك الخصائص النفسية يكتسي أهمية بالغة لجهة فهم الدوافع الثاوية خلف السياسات التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية، ومعرفة الوسائل القمينة بالتأثير على دوائر صنع القرار بالبلد الذي يُعد القوة الأولى عالميا.

أولا: سيكولوجية المهاجرين الأوائل

إن تاريخ نشأة الولايات المتحدة الأمريكية يفسر إلى حد بعيد تَكَوُّن شخصية أمريكية ذات خصائص فريدة، إذ تكونت أمريكا أساسا من مهاجرين منبوذين وفدوا من أوروبا لدوافع متعددة، إما هربا من الملاحقة القضائية بسبب الجرائم التي اقترفوها، أو فرارا من الاضطهاد الديني على غرار البروتستانت الذين عانوا من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية، أو طمعا في بلوغ مستوى معيشة أفضل في ظل انسداد الآفاق أمامهم بأوروبا الغارقة في مستنقع الطبقية وقتئذ، حيث كان النبلاء يستأثرون بالمزايا المادية والاجتماعية، ولذلك رأى هؤلاء المهاجرون في أمريكا أرض الفرص والأحلام، متبنين بذلك نظرة واقعية تتطلع إلى المستقبل وتشدد على التخفف من أثقال الماضي.

وعطفا على ما سبق، آمنت طائفة كبيرة من المهاجرين المتدينين الأوائل بفكرة "شعب الله المختار" التي سوغت لهم ارتكاب جرائم شنيعة ضد السكان الأصليين من الهنود الحمر، إذ اعتقدوا بأنه يتعين استخدام القوة لتحقيق مصالح الأمة الأمريكية، ذلك أن مظاهر السلطة والثراء التي يتمتعون بها تدلل على أنهم يحظون بالعناية والمباركة الإلهية بحسب زعمهم.

ثانيا: مقارنة بين الشخصيتين الأمريكية والأوروبية

لا يميز بعض المراقبين بين الأمريكي والأوروبي اللذين يصنفان معا تحت مسمى واحد هو "الغرب"، والحال أن ثمة فروقا مهمة بين الشخصيتين، إذ يعطي الأمريكي الأولوية لعلاقات القوة والمكانة المادية مقارنة باعتبارات أخرى حاضرة لدى الأوروبيين مثل الانتماء الطبقي والجغرافي، ولئن كان الأوروبيون شغوفين بابتكار الأفكار النظرية، فإن الأمريكيين المشهود لهم بالنزعة العملية والبراغماتية لطالما نجحوا في تطوير تلك الأفكار وتطبيقها تطبيقا مثمرا ومفيدا لهم (الرأسمالية، النظريات الفيزيائية كالنسبية... إلخ).

وإلى جانب ذلك، يميل الأمريكي إلى التمسك بفرديته ورفض أي تدخل فعلي للدولة لضمان الحقوق العامة للمجتمع (مثل فرض ضرائب كبيرة على الأثرياء لصالح الفئات الأقل حظا)، أما الأوروبي فيجنح إلى دعم فكرة الدولة الاجتماعية واستبعاد الفردانية المتطرفة.

ومن جهة أخرى، تُعتبر العلمانية الأوروبية أكثر تشددا في موضوع استبعاد الدين من الحياة العامة نظرا إلى الدور التاريخي السلبي الذي لعبته الكنيسة في إعاقة النهضة العلمية والفكرية بأوروبا، أما في أمريكا فلا يخفى تأثير الدين بهذه الدرجة أو تلك في المجال العام (وهو ما نلمسه في قضايا مثل الإجهاض)، كما يتم توظيف الدين لخدمة أغراض السياسة الأمريكية المتعلقة بالهيمنة على الشعوب الأخرى.

السرد الوطني شرط أساسي للاستقلال الحقيقي. تخلق معظم الأمم والشعوب قصة تأسيسية، سواء كانت تاريخية أو أسطورية، كمصدر للكرامة والقوة والفخر التي تعتمد عليها في بناء الهدف والهوية. لم يتم بعد تقديم تاريخ فلسطين الطويل وتراثها الغني برؤية متماسكة للاستمرارية الثقافية، لأسباب اجتماعية ودينية وسياسية.
واجهت الرواية الفلسطينية تحديات كبيرة، داخلية وخارجية. داخلياً، يشكل الانقسام بين حركتي فتح وحماس عائقاً كبيراً. أما خارجياً فإن الاحتلال الإسرائيلي وقمع الأصوات الفلسطينية تعيق إمكانات حركة المقاومة الفلسطينية التي تناضل من أجل التحرير تحت وطأة آلاف السنين من السيطرة الاستعمارية. ومن أهم شروط التحرر، الارتقاء بالخطاب الفلسطيني على المستويين المفاهيمي والوطني في كافة المجالات، وخاصة في فترة الجمود السياسي.
كتاباتنا هي تجاربنا وجزء من ذاكرتنا الوطنية الذي سيشكل تاريخنا الذي سيؤثر على تحديد هويتنا الوطنية. إن "التاريخ بالنسبة للأمة بقدر ما تكون الذاكرة بالنسبة للفرد. فكما أن الفرد المحروم من الذاكرة يصبح مشوشا وتائها، لا يعرف أين كان ولا إلى أين يتجه، كذلك الأمة التي تحرم من تصور ماضيها تصبح عاجزة عن التعامل مع حاضرها ومستقبلها. وباعتباره وسيلة لتحديد الهوية الوطنية، يصبح السرد، والكتابة وسيلة لتشكيل التاريخ.
في السياق الفلسطيني، التاريخ ليس مجرد مقدمة، بل هو متأصل بعمق وينتقل بين الأجيال، مما يشكل مشاعر وعناصر متبادلة والتي تشكل الهوية الوطنية بشكل تدريجي. إن جذور الهوية الفلسطينية تسبق ظهور وعي فلسطيني عام بهذه الهوية، حيث بدأ سكان فلسطين ينظرون إلى أنفسهم كوحدة سياسية متميزة في أوائل القرن العشرين. وحتى يومنا هذا، يمكن القول إن الهوية الفلسطينية لا تزال تتطور وتشهد تغيرات بسبب عوامل مثل الاحتلال الإسرائيلي، والنضال من أجل الوحدة الوطنية، والتغيرات الإقليمية والعالمية، والخوف من فقدان مستقبل هذه الهوية أو تشويهها.

اقتحم الشعبويون اليساريون المشهد السياسي في أوروبا خلال العقد الأخير، وتمكنوا أيضاً من إدراج أجنداتهم الاشتراكية الصريحة في برلماناتهم وإحداث تغيير جوهري سيظل مطبوعاً في الثقافة السياسية لأوروبا. ومن المثير للدهشة أن الأكاديميين لم يعيروا هذا الأمر سوى القليل من الاهتمام. فكيف أصبحت الحركات والأحزاب الشعبوية اليسارية بارزة في أوروبا خلال السنوات العقد الماضي؟ وإلى أي مدى لعب الركود الاقتصادي والأزمة المالية الكارثية عام 2008 دوراً في إثارة هذه الحركات؟

كانت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، إلى جانب نظيراتها من يمين الوسط، هي المهيمنة في السياسة الأوروبية. PSOE في إسبانيا، وحزب العمال في المملكة المتحدة، Labor Party والحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا SPD ، والباسوك في اليونان PASOK . كانت جميع الأحزاب السياسية من يسار الوسط بمثابة قادة اليسار بلا منازع. لكن أدى تراجعهم إلى انقسام في الجانب الأيسر من الطيف الأيديولوجي.

فبعد "الطريق الثالث" الذي تبناه "توني بلير" Tony Blair  بدأت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الأوروبية في تبني المزيد من جوانب الرأسمالية، وأداروا ظهورهم لعدم المساواة في الدخل وإخفاقات السوق الأخرى مثل عمليات الإخلاء العشوائية.

وقد خلق هذا، فضلاً عن صعود "انقسام العولمة"، مرحلة حيث أصبحت الأحزاب الشعبوية اليسارية قادرة على تلبية احتياجات الناخبين الذين ظلت نوعية حياتهم على حالها أو انخفضت بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

على الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظي به صعود الحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا، إلا أن الشعبويين اليساريين لم يخضعوا لقدر كبير من التدقيق. تتميز الشعبوية على نطاق واسع بخطابها المناهض للمؤسسة والذي يمكن رؤيته في كل من الشعبوية اليمينية واليسارية. وإلى جانب هذه الخاصية، لم يتفق الأكاديميون على الصفات الشاملة التي تربط بين معسكري الشعبوية اليميني واليساري.

وبالنظر على وجه التحديد إلى الشعبوية اليسارية، جاءت معظم الأبحاث كرد فعل على استكشاف أمريكا اللاتينية للشعبوية اليسارية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فإن الشعبوية اليسارية "تُعرّف العدو من حيث حاملي الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، ونادراً ما يكونون مجموعات معينة.

شهدت دولتان أوروبيتان على وجه التحديد صعود الشعبوية اليسارية بطريقة قوية ومتشابهة بشكل خاص: اليونان وإسبانيا. كان لدى كل من البلدين نظام حزبين يتوازن بين يسار الوسط ويمين الوسط قبل أزمة عام 2008، وتعرضت صناعاتها المصرفية لأضرار بالغة، وبلغت البطالة مستويات قياسية، وخلقت إجراءات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي وضعا اقتصاديا لا يطاق بالنسبة للبلاد مما أفقرالمواطنين.

بسبب أوجه التشابه العديدة في حالتي اليونان وإسبانيا، سنقارن صعود الشعبوية اليسارية في كلا البلدين ونبحث في آثار الانهيار الاقتصادي عام 2008 على صعود هذه الحركات. أجد أن أزمة 2008 لعبت دورا حاسما في صعود الشعبويين اليساريين في كلا البلدين، ولكن بقدرات مختلفة. في اليونان، دفعتهم الصعوبات الاقتصادية التي واجهها الأفراد إلى التصويت لصالح حزب جديد يرفض تدابير التقشف. ومع ذلك، في إسبانيا، كان التصور الاقتصادي السيئ للبلاد هو الذي دفع البعض إلى التصويت لصالح انتفاضة الشعبويين. وفي كلتا الحالتين، ساعد الشك في وحدة أوروبا في صعود هذه الأحزاب، لكنها فعلت ذلك بشكل أكبر في اليونان مما كانت عليه في اسبانيا. هذه النتائج مهمة لأنها تظهر أن الأزمة المالية لعام 2008 كانت حافزاً للشعبويين اليساريين الذين جلبوا عدم الاستقرار السياسي إلى أوروبا وساعدوا في تعزيز المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي.

كتاب من تأليف الباحث في العلاقات الدولية كرار حيدر سالم السعيدي، صدر في العام الحالي (2024) عن دار الورشة للطباعة والنشر ببغداد. انصرف هذا المؤلف إلى بسط أهم السياسات التي اتبعتها روسيا في أفق استعادة دورها الريادي في النظام الدولي، مع التطرق إلى السيناريوهات القادمة المرتبطة بتلك المكانة، وبمستقبل النظام الدولي الذي يقر العديد من المراقبين أنه يعيش مرحلة انتقالية تسير به نحو اتخاذ صبغة جديدة تخلع عنه رداء التوجه الأحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

أولا: الاستراتيجية العسكرية الروسية والطموحات الجيوسياسية للكرملين

اتخذت استراتيجية روسيا الأمنية خلال ولاية بوتين الأولى (2000 - 2004) طابعا دفاعيا إزاء التهديدات المتنوعة التي كانت تحيق بها (النزعات الانفصالية في الداخل كما حدث في الحرب الشيشانية، النزعة التوسعية لحلف شمال الأطلسي... إلخ). ولكن في الفترة الرئاسية الثانية (2005 – 2009)، ما لبث أن سلكت السياسة الروسية نهجا أكثر حدة وجرأة كرد فعل على تهميش دورها ومصالحها القومية في ظل السياسات الأمريكية الأحادية المنزع (مثال العراق وكوسوفو).

أ) آسيا الوسطى والقوقاز:

تكتسي جمهوريات آسيا الوسطى (أوزبكستان، تركمانستان، كازاخستان، طاجكستان، قيرغيزستان) أهمية بالغة بالنسبة للسياسة الروسية لما تزخر به تلك الدول من موارد وثروات طبيعية كالبترول والغاز والذهب واليورانيوم، كما أنها تعتبر سوقا للصادرات العسكرية الروسية، دون إغفال توفرها على خطوط نقل الطاقة الروسية إلى الخارج، كما أنها تُعد منطقة عمق استراتيجي لروسيا لصَدِّ تَمَدُّد الناتو إلى تخوم روسيا. وينسحب ما سبق أيضا على دول القوقاز (جورجيا، أرمينيا، أذربيجان) التي لها نفس الثقل الاقتصادي والعسكري الذي تملكه جمهوريات آسيا الوسطى، فضلا عن توفرها على منافذ بحرية تعطي متنفسا لروسيا، وقد تجلى ذلك بوضوح في الغزو الروسي لجورجيا سنة 2008.

ب) أبعاد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط:

إن الشرق الأوسط لا يقل أهمية في منظور صانع القرار بروسيا بسبب توفره على ثروات هائلة ومنافذ بحرية حيوية (كالبحر المتوسط) وأنابيب نقل الغاز الروسي، بالإضافة إلى الاعتبارات الأمنية المتمثلة في التصدي لخطر الجماعات المتطرفة التي تهدد أراضيها، وهي العوامل التي تفسر إلى حد بعيد التدخل العسكري الروسي في سوريا سنة 2015. وفي نفس السياق، تبدو روسيا حريصة على نسج علاقات متينة بقوى إقليمية متعددة داخل الشرق الأوسط، ومن أبرزها إيران ودول الخليج العربي وتركيا.

مصطلح الكوسموبوليتانية مشتق من الكلمة اليونانية kosmopolites، والتي تعني "مواطن العالم". تم استخدامه لأول مرة من قبل المتهكمين ثم الرواقيين لاحقاً، الذين استخدموه لتحديد الأشخاص على أنهم ينتمون إلى مجتمعين متميزين: المجتمع المحلي والمجتمع الأوسع "المشترك". هذا الفهم للكوزموبوليتانية لا يشير إلا إلى واحد من معانيها. ومفهومه اليوم واسع، ولا يكفي تعريف واحد ليشمل كل معانيه. ويمكن التمييز بين العالمية الأخلاقية والسياسية؛ يمكن فهم العالمية باعتبارها منظوراً للعدالة العالمية وكمفهوم يتم من خلاله الحديث عن حقوق الإنسان ونظرية العدالة. ويمكن أيضاً فهم الكوسموبوليتانية على أنها موقف أخلاقي، حيث ينخرط الأفراد مع الآخرين في الحوار والتفاهم من أجل تجاوز ضيق الأفق. كما يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه يتم التعبير عنه في الظواهر الثقافية، كما هو الحال في أنماط الحياة والهويات. الكوسموبوليتانية هي وجهة نظر معيارية يمكن من خلالها تجربة العالم وفهمه والحكم عليه، وهي أيضاً حالة يتم من خلالها إنشاء القوانين والمؤسسات والممارسات التي يتم تعريفها على هذا النحو.
تشمل الكوسموبوليتانية أربع وجهات نظر متميزة، ولكنها متداخلة: (1) التماهي مع العالم أو مع الإنسانية بشكل عام والذي يتجاوز الالتزامات المحلية. (2) موقف الانفتاح والتسامح تجاه أفكار وقيم الآخرين المتميزين. (3) توقع الحركة التاريخية نحو السلام العالمي. و(4) موقف معياري يؤيد الأهداف والأفعال العالمية.
للكوزموبوليتانية جانب جماعي مثل نظريات عالم الاجتماع الفرنسي "ديفيد دوركهايم" David Durkheim حيث كان الكثير من أعمال دوركهايم معنياً بكيفية الحفاظ على سلامة المجتمعات وتماسكها في الحداثة، وهو العصر الذي أصبحت فيه الروابط الاجتماعية والدينية التقليدية أقل عالمية بكثير، وظهرت فيه مؤسسات اجتماعية جديدة. لقد أرسى مفهوم دوركهايم للدراسة العلمية للمجتمع الأساس لعلم الاجتماع الحديث، واستخدم أدوات علمية مثل الإحصائيات والمسوحات والملاحظة التاريخية في تحليله للسلوك الاجتماعي في الجماعات الكاثوليكية والبروتستانتية. وللكوزموبوليتانية جانب يتمحور حول الفرد، وقد طورها الفيلسوف الألماني التنويري "إيمانويل كانط" Immanuel Kant بشكل خاص. يعتقد كانط أن العقل هو مصدر الأخلاق، وأن الجماليات تنشأ من ملكة الحكم النزيه. كانت آراء كانط الدينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظريته الأخلاقية. لقد رسم كانط تشابهاً مع الثورة الكوبرنيكية في اقتراحه للتفكير في موضوعات الخبرة باعتبارها تتوافق مع أشكال حدسنا المكانية والزمانية وفئات فهمنا، بحيث يكون لدينا معرفة مسبقة بتلك الأشياء. وقد أثبتت هذه الادعاءات تأثيرها بشكل خاص في العلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، التي تعتبر الأنشطة البشرية موجهة مسبقاً بواسطة المعايير الثقافية.