"أغرق نبأ الوفاة المفاجئة للسلطان محمد الخامس الشعب في حالة صمت رهيبة، وأعطت الحِدَاد اليهودي دويّا أكثر عمقا...لم يَعُدِ اليهود المغاربة يتذكرون سوى السلطان الحامِي وقت الشدة، وآلام النّفي، السلطان الذي فرض بالفعل المساواة بين المسلمين واليهود المغاربة... وعبّرت عامة اليهود في كل المدن المغربية عن مشاعرها الروحية دون انتظار أمــر مّا" (R.Assaraf,2009).

بعد الورقة التقديمية العامة التي سبق تخصيصها لكتاب "يهود السلطان تحت سماء الشيوعية" (أنظر نص التقديم المنشور على مجلة أنفاس بتاريخ27 يونيو2023) سياقا، وترجمة، واختيارا للعنوان، ثم نافذة توجيهية قدمها المؤرخ المترجم لكشف حيثيات العمل والكلمات المفاتيح المساعدة على قراءة السردية التاريخية موضوع الكتاب خاصة منها المصطلح "يهودي السلطان" الذي ابتكره المؤرخ "دانييل شروتر"(أنظر الفصل السادس من كتابه يهودي السلطان،المغرب وعالم اليهودِ السِّفَرد،2011،طبعة1) في مباحثه التاريخية حول تاريخ اليهود المغاربة- بعد هذا- نعود لاكتشاف "قصة الشيوعيين المغاربة" وقد صارت خطابا تاريخيا تمتد سرديته ما بين دائرة الزمن القصير الحدثي –البيوغرافي والزمن المتوسط علاقة بتاريخ وطن ونضاله من أجل الاستقلال ثم الزمن الطويل الذي يضع كل أحداث "القصة" في ترابط بتحولات تشمل بلدان الشمال الإفريقي والشرق الأوسط فالمحيط الأوربي والعالمي، وضمن تحقيب ينطلق من بدايات الحقبة الكولونيالية إلى فترات الحربين وما بعدها،نحو العهود الأولى من نشأة الدولة الحديثة، ومخاضاتها العسيرة التي تركت "ندبا خادشا" و"جرحا" لن تنمحي آثاره سوى نهاية الألفية الثانية ومطلع الثالثة.

تبدأ المؤرخة هيكمان نص الحبكة التاريخية، التي استغرقت منها سنوات طويلة ما بين ميلاد الفكرة، وتبلور المشروع، ورعايته حتى يصير أول إنجاز أكاديمي متخصص لها، فترة استمرت من سنة 2009 إلى 2021، بكلمة الاعتراف والامتنان لكل من كان إلى جانبها ومعها في رحلة البحث، سواء بحصر موضوعه أو مجاله، أو بالمساعدة في الاستكشاف الوثائقي، أو مراجعة المسودة قبل تحرير النص النهائي، ولم تتردد المؤرخة في تسمية كل من كان معها في رحلتها تلك داخل الجامعة الأمريكية وخارجها، منهم الأستاذة المشرفة على الأطروحة "سارة أبريفايا ستاين" والمؤرخة الباحثة "جيسيكا مايا مارجلين" وكافة أعضاء الفريق البحثي بجامعة كاليفورنيا، مع الإشارة إلى الجهات المانحة التي دعمت المشروع وساهمت في تمويله يجمع بينها الاهتمام بالدراسات التاريخية ذات الصلة بتاريخ اليهود وذاكرة الطوائف اليهودية .

"بلد كطاولة نردٍ، حكمه الطاعون والمجاعات أكثر مما حكمته الأسر المتعاقبة. بضربة خاطفة كانوا يهزؤون بالجيش والعصبية والقبيلة ويحولون الديار إلى أطلال ودُمن"، بهذا النص يختزل لنا الأديب عبد الكريم الجويطي تاريخ المغرب في روايته الموسومة بـ"المغاربة"، مستحضراً بشكل "حتمي" أثر الكوارث والأزمات الطبيعية في صناعة أحداث المغرب ورسم ملامح ماضيه؛ إذ شكلت المجاعات والأوبئة أحد أهم الكوابح الثابتة في تاريخ المغرب، لما خلفته من تداعيات لامست الاقتصاد والمجتمع والسياسة والدهنيات.

والحقيقة، أن أهمية موضوع الغلاء والمجاعات لا تستمد من طابعه التجديدي على مستوى الكتابة التاريخية فحسب، بل أيضا لكونه موضوعاً راهنياً بالنظر لموجة الغلاء التي يكتوي المغاربة بنارها، إذ يعيش المغاربة اليوم على وقع ارتفاع مهول في أسعار مختلف المنتجات الاستهلاكية، وهي موجة غلاء مرتبطة بشروط دولية وداخلية عصفت باقتصادات بلدان ودول عديدة، كما دفعت بالعديد من المنظمات الدولية إلى التحذير من قدوم أزمات اقتصادية خانقة، تهدد الأمن الغذائي العالمي وتنبؤ بمصاعب اقتصادية من شأنها أن تعمق المشاكل الاجتماعية من فقر وبطالة. هذا الواقع الاقتصادي الراهن يفرض على المؤرخ التفاعل معه، على اعتبار أن المعرفة التاريخية معرفة تنطلق من استشكال الماضي وتنتهي باستيعاب وفهم الحاضر، وذلك من خلال تفاعل المؤرخ مع الحدث في سخونته والانطلاق من الانشغالات والهموم المجتمعية الراهنة.

لقد شهد المغرب عبر تاريخه الطويل موجات غلاء كانت وراء إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية عنيفة، وهي موجات غالبا ما ارتبطت بعوامل طبيعية كان في مقدمتها توالي سنوات الندرة والجفاف وما أعقبها من مصاعب غذائية أرهقت المغاربة وجعلتهم تحت رحمة الجوع، كما ارتبطت في أحيان أخرى بعوامل بشرية كانت الحروب والفتن أهمها.

والواقع، أنه لا يكاد يخلو أي قرن من تاريخ المغرب من أزمات اقتصادية شكل الغلاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية أحد تجليتها الرئيسية، ولعل هذا ما دفع بالبعض إلى نعث الاقتصاد المغربي بـ"اقتصاد السماء" وبكونه "اقتصاداً يقف على حافة المجاعة"، لارتهانه الدائم بما تجود به السماء من أمطار، ولكونه اقتصادا هشا يعتريه عوز تقني ويعتمد نمطاً زراعياً مبنياً على اقتصاد الكفاف، وهو ما يفسر ضعف قدرة الاقتصاد على الصمود أمام سطوة الطبيعة، إذ غالبا ما نتج عن السنوات الرديئة مناخياً حدوث نقص حاد في المحاصيل وفي المواد الأولية الفلاحية، الشيء الذي انعكس على مؤشر الأسعار الذي ظل ينحو منحىً تصاعدياً أرهق جيوب المغاربة وأنذر بانفجار الأوضاع الاجتماعية.

انطلاقا من هذه التوطئة، نقدم للقارئ بعض النماذج لموجات الغلاء التي ضربت المغرب والمغاربة خلال أزمنة تاريخية مختلفة، وهي نماذج وقع اختيارنا عليها لشدة وقعها وما أعقبها من هزات اجتماعية وسياسية وشمت ذاكرة المغرب والمغاربة.

قد يبدو العنوان مثيرا نوعا ما، ولكن الأمر له مسوغاته النظرية، والمنهجية، والسيكولوجية الخاصة بالمؤرخ وهو يقدم على ترجمة إصدار علمي حديث لم تَسلَم صاحبته بجامعة كاليفورنيا من مكابدة البحث فيه، وخوض "لعبة الهوامش المعقّدة"(ص30) في الكتابة التاريخية.
صدر الكتاب مترجما في إطار المشروع الأكاديمي العلمي "المغرب ومحيطه المتوسطي، نصوص وترجمات" والذي يطمح إلى النهوض بأعمال الترجمة ونشر الأعمال البحثية الرصينة بدعم مؤسساتي جامعي عبر-أطلنتي، وبمبادرة من مؤرخين وباحثين مرموقين في الجامعتين المغربية والأمريكية (في لوس أنجوليس).
الكتاب من تأليف أستاذة التاريخ الأمريكية ألما راشيل هيكمان، وقد أعدته قبل سنتين فقط (2021) بمثابة أطروحة خاصة بها بجامعة كالفورنيا حيث تعمل أستاذة مساعدة في قسم التاريخ، وترجمة المؤرخ المغربي خالد بن الصغير(طبعة أولى2023- دار أبي رقراق للطباعة والنشر) عدد صفحاته كاملة 431، ويضم بين دفتيه إلى جانب توطئة المترجِم، مقدمة بفصل تمهيدي، وخمسة فصول، ثم خلاصة، وخاتمة، إلى جانب بيبليوغرافيا ثرية جدا وبلغات مختلفة (من الصفحة409إلى الصفحة428).
عناوين الفصول كما جاءت في الكتاب :
الفصل الأول :
الخيارات: الفاشية ومناهضتها في المغرب بين الحربين، وفيه رصد لمعطيات حول الطائفة اليهودية بالمغرب من الجوانب الديمغرافية، والمهنية، وموقعها ضمن أحداث تاريخية كبرى وحاسمة تمتد من لحظة فرض الحماية(الفرنسية والإسبانية) ومخاض الحركة الوطنية فترة الثلاثينات، والموقف من مسألة معاداة السامية بالنسبة للتنظيمات السياسية المغربية والأوربية (الفرنسية) ومن الفاشية .
الفصل الثاني:
الفرص والاحتمالات: الحرب العالمية الثانية وانتماء المغاربة اليهود، ويشمل تقديما، وتحليلا للأوضاع التاريخية فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وانعكاساتها على المغاربة اليهود (نظام فيشي –عملية الشّعلة –الشيوعية والصهيونية والحركة الوطنية..)

. ما هي الحداثة؟
" كل ما يمكن قوله ضد الحداثة قد سبق أن قيل أثناءها وفي ظلها."
  العروي عبد الله
رجوعا  إلى البداية، يجبنا " العروي" عن السؤال الأول الذي طرحنا ضمن ما اعتبرناه تمهيدا في المقال السابق (ما هي الحداثة؟). الحداثة ما هي إلا واقع تاريخي ومفهوم مستنبط(1) ، والواقع التاريخي ها هنا بما هو ثورة اقتصادية، ثورة فكرية تعتبر العقل أساسا ومنطلقا لها، ثورة سياسية موجهة ضد كل أشكال الفيودالية (2)والكنسية، وإحياء لتراث القديم في الفلسفة والقانون، إصلاحا دينيا موجه ضد الكنسية واحتكارها التأويل للمقدس، وضد التقليد بما هو تكريس لتأويل واحد. مما يجعل إذا من التفكير فيها أو ضمنها أمرا جادا مستنيرا، بالمعنى الذي يحقق نوعا من الترابط والتكامل بين الثورات الأربعة: الاقتصادية، الفكرية، السياسية، الدينية. (إذ نلاحظ هنا مدى تحفظ وإحجام العروي عن ذكر ثورة اجتماعية/طبقية، ويعود ذلك طبعا إلى خلفيته الليبرالية.)، الثورات الأربعة ذات المجال المختلف والهدف الواحد. فالحداثة كمفهوم يدور في فلكه العديد من المفاهيم من مثال: سلطة الفرد، حرية الفرد، تدبير شؤون الفرد، هيمنة الفرد على الطبيعة... لتصبح هذه المفاهيم في ما بعد؛ أي بحلول الحداثة، مكونات مفهوم مستنبطة بالدرجة التي تجعل من الحرية حرية، من الديمقراطية ديمقراطية، ومن الفردانية والعقلانية والعلمانية/العلمية سبل التجديد.

 في المنوال نفسه؛ يسوق لنا العروي مثلا/تساؤلا توضيحا عن هذا الذي تفتقر له الشعوب السابقة كي تكون مجتمعات حداثية، ويقول متسائلا: في هذا الإطار نطرح سؤالا جرائيا. أن ندعو إلى القيام بتجربة ذهنية: في الميدان التاريخي، ماذا نقص أثينا أو مصر الفرعونية أو روما الوثنية أو مكة الوثنية لتكون مجتمعا حداثيا مع كل ما نعرفه عن هذه المجتمعات من صور نيرة. في الميدان المعلومي الصرف، ما علاقته بالعلم؟ هل هناك علاقة ترابط ضروري أو تناسب اعتباطي؟ هل الحرية تؤدي بالفعل إلى تقدم علمي، والعكس هل التقدم العلمي يؤدي، بعد فترات، إلى لتحرر؟ (3)

" إن الماضي لا يمكنه أن يخدمنا في حل مشاكلنا ولا في إعادة إعطاء الماضي قيمة حقيقة."
   العروي عبد الله
لعل خير ما نستأنس به مقالنا هذا جملة من الأسئلة، ألا وهي: ما هي الحداثة؟ بأي معنى يمكن تحقيق انخراط في التاريخ العام وتلبية نداء الحداثة، في ظل غياب الأسس ودعامات الأولية لهذا الفكر؟ بأي معنى يمكن اعتبار مسألة الإنهاء أو القطع مع التراث عملية تحليلية مؤسسة أو جزافية انتحارية؟ بأي معنى يمكن للمنهج التاريخاني في غياب الأصل، نسج حضارة عربية معاصرة متماسكة البنى؟ بأي معنى يمكن الحكم على الدعوة الحداثية في الوطن العربي، بين دعاة السلفية ومتبني العلمانية أنها لا تزال في مستوى التحليل العلمي الصارم، أم أنها أضحت مجرد تراشق بالدعاوي والأفكار الأيديولوجية لتصفية مسألة الصدارة وصحة في الطرح؟ بأي معنى نطالب بتبني الفكر الماركسي لتحقيق الحداثة، في ظل الاختلاف الثقافي بين الغرب والعرب، بين ما يتبناه الغرب في مرحلة ما وفي ما قد نعتبره اليوم واقعنا؟ هل الحداثة بوصفها فكرا أو موقفا يعبر عن نفسه، يمكن اقتراضها أو لنقول إبداعها إبداعا عربيا؟ هل التفكير في الحداثة يقتضي الانطلاق أوليا من الواقع؟ هل يكفي أن ندرك المفهوم (مفهوم الانبعاث الحضاري) إدراكاً حقيقيا لننفذ إلى ضالتنا أم لابد أولا من كسب مفهوم تاريخي للثقافة ومن ثم نطالب بالانبعاث مستبعدين حقيقته واستمراريته؟ بأي معنى يمكن اعتبار انخراط القدامى العرب في مرحلة ما (القرن الرابع الهجري) انخراطا في حضارة بشرية برمتها؟ وهل من المُحال تكرار نفس الانخراط والمشاركة اليوم؟ وهل يتحقق مطلب بالانبعاث والنهضة في ظل غياب شروطهما، في ظل تشبث بالماضي؟ أيكفي التقدم والتثقيف لصنع حداثة وترسيخ قيمها اجتماعيا، اقتصاديا، سياسيا، فكريا؟ أبمقدور العرب اليوم أن يقولوا أن لهم حضارة/ثقافة إذا ما تمت مقارنة صارمة بين إنجازات الأمس بإنجازات اليوم؟ كيف يمكن أن يبدع العربي اليوم؟ هل الثقافة لا بد لها أن تأخذ صبغة القومية كي تتقوى أو على الأقل مدلولا قوميا؟


وإلى جانب هذه الأسئلة يقع السؤال الكلاسيكي العام: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ والسؤال الجديد الخاص: إذا كان مغرب الأمس لا تربطه سوى روابط ضعيفة واهية بمغرب اليوم – هذا إذا ما كنا نتحدث عن الفن المغربي والحداثة-، فما الحاجة إذا للقطع مع الأمس إذا كانت جسوره ضعيفة في علاقته باليوم؟ كل هذه الأسئلة  التي عبرنا عنها في مستهل الحديث وغيرها ما هي إلا نتاج لقراءات متقطعة لبعض كتابات أستاذنا " العروي".

     تعد إشكالية الحداثة من بين الإشكالات الفكرية ذات الأهمية البالغة، إذ اهتم العديد من المفكرين والفلاسفة بمختلف مشاربهم الفلسفية بمعالجتها والتنظير فيها على الأخص فلاسفة التنوير والفلاسفة المعاصرين، حيث عمدوا بنوع من الحرية إلى خلق فكر حداثي، سماته القطع مع كل أشكال الاستبداد والهيمنة، سواء تعلق الأمر بالقطع مع ما هو سياسي، المتمثل في الأنظمة السائدة والشمولية الكليانية، أو على المستوى الاجتماعي- الديني؛ المتمثل في التعاليم الكنسية، ذلك لخلق فكر فردي متحرر، صانع للقرار، متحكم بالمصير.

 الأمر الذي يدفعنا نحن إذ نقوم باستطراد هذا الإشكال، بالتساؤل عن تجليه وحضوره في التجربة العربية المغربية المعاصرة؛ بأوسع معنى؛ فبالانتقال إلى التجربة العربية، استجاب العرب كذلك لدعوة الفكر الحداثي الذي فرض نفسه لمدة ليست بقصيرة ولا زال، ذلك لما خلفه من نقاشات تكاد لا تنتهي. فتبلور فكر نهضوي إصلاحي يطمح الإجابة عن السؤال " لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟". بالمناسبة والمناسبة شرط، يقيم العروي تعديلا، تصحيحا، تسويغا، لهذا السؤال ليصبح سؤالين: نحن متأخرون بالنسبة إلى ماذا؟ كيف نحقق تقدما مماثلا لتقدم الغرب؟ غير أن القدر - القدر العربي- لم يكن مشابها للحظ الأوربي، فالعديد من الثورات العربية، إن لم نقل مجملها، لم تكن كافية للقطع مع زمن طويل من التخلف والرجعية اللذين ما فتئا يسكنان البنى الاجتماعية العربية. وهذا الفكر الإصلاحي النهضوي ألهم الكثيرين من المثقفين المغاربة على اختلاف تياراتهم، مجتمعين لأجل أمل واحد ألا وهو تحقيق وتأسيس لحداثة عربية - إسلامية. ضمن الجو الفكري نفسه برز فكر المؤرخ التاريخاني المغربي " العروي عبد الله"، الذي خصص لموضوع الحداثة (الصدارة/الغربية) حيزا مهما في مجموع أعماله، حيث ما ينفك يطرحه بصيغ مختلفة من ستينات القرن الماضي.

ارتأينا في مقالنا هذا العودة إلى كتاب مفهوم الإيديولوجيا عند عبد الله العروي في نسخته العربية، لما يحتله من أهمية في تشكيل التصور الحداثي، مركزين بالدرجة الأولى على مسألة التحديث في الثقافة العربية، لأن هذه المسألة بلغة العروي تنير الحداثة، برغم أن الكتاب يطرح جملة من النظريات حول  نظريات مختلفة عن الإيديولوجيا: الإيديولوجيا كوهم، كنظرة كونية، علم ظاهر. متوسلين بالدرجة الثانية بمجموعة مقالات نشرت له في هذا الصدد، نخص بالذكر هنا المقالات الآتية: " عوائق التحديث (مجلة مدارات فلسفية: 2006)، منهج الفكر المغربي المعاصر، (مجلة الثقافة الجديدة المغربية 1974) "، المضمون القومي للثقافة (1986). بغية مساءلة موقف الأستاذ العروي الذي يطرح جدلا واسع في الساحة الفكرية العربية المعاصرة.

فمن خلال اختيارنا للموضوع ضمن الأعمال التوجيهية داخل وحدة " مسارات فلسفية في الفكر المغاربي"  التي يشرف في تدريسها أستاذنا " بن عدي يوسف"، نرمي من مقالنا هذا تسليط بعض من الضوء عن النقاط الآتية رفقة العروي: في الإيديولوجيا، مسألة التحديث الثقافة العربية، الحداثة واقعة تاريخية، في النقد الأيديولوجي، في أنماط الوعي بالحداثة الغربية: بين خصوصية الحداثة وكونية تأثيرها، التراث والأصالة، الاغتراب والمعاصرة، الابداع والنبوغ، الحل والشروط.

  • في ما نعتبره تمهيداً:

يتمحور مقالنا حول مفهوم الإيديولوجيا، كمفهوم ضمن السلسلة المفاهيمية، والأصح ضمن سلسلة نقد المفاهيم، التي وضعها العروي لمقاربة إشكال الحداثة. تجدر الإشارة أولا إلى الأهمية التي يكتسيها التأصيل النظري للمفاهيم ضمن كتابات العروي، إذ يعتبر المفهوم الدعامة الأساسية لإستقامة كل فكرا فكر(1). إذ كلما التبست الدلالة لغويا أو تاريخيا، إلا وكثر الخلط بين المدارس والاتجاهات، فنتج عن ذلك فكرا فضفاضا يفتقر للموضوعية  وللصياغة المحكمة، وهو ما شاع حسب المؤلف بكثرة في ثنايا الكتابات العربية المعاصرة (2) ، فالمفاهيم منتوجات تاريخية ذات حمولة ثقافية سياسية اجتماعية تكشف عن بنى فكرية عميقة، إذ لا وجود لمفهوم قائم بذاته، مستقل عن الوقائع التاريخية المنتجة له، يقول العروي: المفهوم هو وليد تطور تاريخي وأطبقه على مادة أفترض أنها سائرة إلى التطابق معه.(3)

انفتاحا على مفهوم الإيديولوجيا، يعتبر العروي هذا المفهوم من المفاهيم الغير بريئة، إذ هو بمثابة الطعم الذي يذهب بحامله إلى اعتناق اختيارات فكرية كانت أو سياسية إيديولوجية سواء بالوعي أو بدون وعي. إنه مفهوم كما جاء على لسان العروي يمثل «تراكم معان»، لهذا ينبه العروي لضرورة الاحتراس من استخدامه خصوصا من طرف المثقفين، المثقفين الحقيقيين الغير متقاعسين، لكونهم الوسيلة لتجاوز التخلف والرجعية التي يتخبط بها الوطن العربي، وولوج بوابة الحداثة، التي لم يعد بمقدور المواطن العربي تجاوزها.

تم النظر إلى مفهوم الإيديولوجيا، أو كما جاء في تعريب العروي «الأدلوجة» بمعان مختلفة، فقدت بموجبها دلالتها الفرنسية الثورية، فمع الفلسفة الألمانية «الرومانسيون»، تم النظر إليه باعتباره منظومة فكرية تعبر عن الروح التي تدفع حقبة تاريخية ما إلى هدف محدد ضمن حركة التاريخ العام. وقد تعمق التصور بشكل أوسع مع الفيلسوف الألماني "هيغل"، الذي اعتبر أن روح التاريخ واحدة، لأن قصد التاريخ الإنساني العام واحد هو تحقيق الحرية. إلا أن المفهوم لن يظل في صيغته المثالية، ليتعرض لتغيير شامل مع "كارل ماركس، فريدريك انجلز" من خلال مؤلف "الإيديولوجية الألمانية"، إذ ستصبح الأدلوجة مجرد وهم وقناع يخفي حركة التاريخ. فقد طمح كل من الفيلسوفين (ماركس وانجلز) خلال مشروعهما إلى نقد الفلسفة الألمانية باعتبارها مجرد أدلوجة تعيق الفرد عن إدراك الواقع كما هو، وكذا نقد الاشتراكية الألمانية، الاشتراكية الحقيقية.

بهذا تأرجح مفهوم الإيديولوجيا من تأويل إلى تأويل مغاير، من حمولة مثالية (ميتافيزيقية) مطلقة إلى حمولة مادية نفعية (ماركسية -انجلزية)، بهذا شكل النقد الإيديولوجي نسفا لمجموع القواعد والضوابط القائمة، فعمل على تحويل بوصلة العلم نحو ما هو نافع، ضمن «المتاح البشري»(4)، بغية تحقيق المصلحة العامة. نفس الأمر نجد المفكر العروي يرمي إليه من خلال كتاباته الفكرية، حيث يدعو لضرورة إحداث انقلاب جدري على مستوى الإيديولوجيا العربية التقليدية، أي التحرر كما جاء على لسان المؤلف من «الأصالة الموهومة»، فلا سبيل إذن للتخلص من التخلف والانحطاط الذي يعيشه العرب، إلا في إحداث مثل هذه القطيعة. كما يدعو المواطن العربي إلى الانخراط الجاد والفاعل في التاريخ العام وخروج من قوقعته الثقافية؛ أي يجب إجراء حسم صارم في مسألة الاختيار، إما السلفية أو إما العلمانية، لا خيار ثالث، ولا بين بين.

بهذا يمكن اعتبار إشكال الحداثة إشكالا تاريخيا كونيا، ينظر إليه صاحب سلسلة نقد مفاهيم باعتباره واقعة تاريخية حدثت في ظرفية تاريخية معينة من العالم ولا تزال تنسحب بالتدرج على البقية؛ بهذا فالعرب ليسوا مخيرين في الانخراط أو عدم الانخراط بل هم مجبرون على ذلك، وسنعود إلى التفصيل في هاته المسألة في نقط أنماط الوعي بها. من هنا يدعو العروي، لتبني النهج التاريخاني، باعتباره بوصلة عبور شط العصرنة؛ ولأنه أيضاً المنطق الوحيد القادر على القطع مع كل أشكال التخلف والرجعية، سيما أن الظرفية الراهنة لا تسمح بالمزيد من الثورات النسبية من مثال ما يعرف بالربيع العربي؛ فالحاضر يفرض بقوة القطع النهائي، طي الصفحة، مع كل أشكال التقليد والاتباع، باختصار مع التراث؛ فلا الواقع- حسب العروي- يتغير بالتمني والتخيل، وإنما يتغير بالواقعية، وهو الدرس الذي يمكن استخلاصه من دروس التاريخانية. التاريخانية التي تسمح بأن تمد يد العون للماركسية، الماركسية التي يعتبرها العروي، هي كمخرج ومدخل لتعميم القيم الليبرالية في المجتمع، هي الوحيدة القادرة على خلق نظام ملائم يخرج الوطن العربي من دائرة التخلف والرجعية السائدين، وإن الأمة العربية محتاجة في ظروفها الحالية إلى الماركسية بالذات لتكون النخبة المثقفة قادرة على تحديثها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، تم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويقوي نفسه بنفسه.(5)

  • من هنا يمكن تبين الأهمية التي يكتسيها المؤلف، حيث يسلط العروي من خلاله الضوء على قضية من قضايا الراهن العربي، إذ يعيد طرح السؤال الكلاسيكي: كيف نحقق تقدما مماثلا لتقدم الغرب؟ بصياغة مبتكرة تنفتح وتواكب مستجدات الركب الحداثي. وعليه، تشكل نقطة راهنيه الموضوع الأهمية التي يمثلها الكتاب وما يحتله من مكانة داخل في ما بين الإيديولوجيا والحداثة من اتصال ونقد.

الإيديولوجيا ما هي؟ هي التعبير غير المطابق للواقع، بسبب حدود موضوعية تحد رؤية الفرد.(6) عادة ما يكثر استعمال لفظ ايديولوجيا اليوم بشدة، إذ يمكن أن يدل على مجموع المعارف والمعتقدات التي تفكر بها أو من خلالها طبقة اجتماعية معينة، ويمكن أن تأخذ معنى قدحيا فتعني نواة النوايا المضمرة الهادفة لتحقيق هدف ما أو مصلحة معينة. من هنا تختلف معاني مفهوم الإيديولوجيا في حقل الآراء الغير مؤسسة. هذا بالضبط ما يهدف مفكرنا إلى تجاوزه، إذ مقاربته التحليلية هذه لا تهدف فقط تعريف المفهوم بل تخليصه من كل الحمولات الدلالية التي أكسبت له، ولابأس أن نرد قولا للعروي يؤكد ما قلناه بصدده: حاولت في هذا البحث أن أرسم الخطوط العريضة لخلفيات المفهوم متوخيا توضيح المعاني المضمنة فيه والتي تستولي على ذهن كل من يستعمله اليوم، حتى ولو لم يكن واعيا بها.(7)

إن الفكر الإيديولوجي لكل أمة هو المعبر عن روحها والمتحكم في منطق تصورها الخاص، فالإنسان غير حر خاضع لوضع تاريخي اجتماعي معين يحيط به إذ هو الذي يدفع به إلى اعتناق أهداف ومقاصد، فالتاريخ هنا يعمل على خلق إمكانيات مختلفة، وفعالية ايديولوجية ما نابعة من اشتغالها ضمن هذه الإمكانيات، كما أن الإنسان جزء لا يتجزأ من وسطه الاجتماعي المادي، وبالتالي فإن حريته إذن هي نتيجة لتفاعله مع هذا الوسط.

 وبتفحصنا محتوي الكتاب، لا نعثر على تعريف جاهز لمفهوم الإيديولوجيا، إذ ذهب العروي إلى تقصي جذور هذا المفهوم انطلاقا من حدث الثورة الفرنسية إلى حدود الزمن المعاصر، في ذات السياق يذهب العروي إلى تقسيم معاني المفهوم إلى معان، هي: الأدلوجة /قناع، الأدلوجة/نظرة كونية.

  • الإيديولوجيا بين هيغل وماركس.

مع كل حدث أو واقعة أو موضوع جديد يعيشه التاريخ الإنساني، تنبثق مفاهيم تؤطر لنظرة وتوجه جديد، ومع حدث الثورة الفرنسية وما صاحبها من فكر إصلاحي نهضوي، انبثق حلم جديد، حلم الحداثة. فذهب الغرب لتحقيق ضالتهم من خلال اعتماد منهج المساءلة والنقد، نقد وتحليل الوضع القائم في مختلف تجلياته سواء في شكل الأنظمة القائمة (سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا)، أو في شكل الاستبداد الكنسي، باعتبارهما السبب الرئيسي في طمس أو إقبار الوعي الفردي واستفحال الطبقية.(8) بهذا كان تحقيق الفكر الحداثي مرهونا بقيام ثورة شاملة تقتلع جذور التخلف، فلا حداثة بدون ثورة ثقافية،(9) فالظروف المعاشة أنذاك بفرنسا مارست نوعا من التأثير على الفكر ككل، إذ جعلته يرى الأشياء طبقا لمنطقها هي لا طبقا لمنطق الأشياء. بهذا طمح الفكر الإصلاحي التنويري القطع مع أي فكر إيديولوجي يتخفى وراء ستار المصلحة. فلم يكن أثر حدث الثورة الفرنسية حبيس الوسط الفرنسي فقط، بل تعداه ليشمل مجتمعات أخرى في مقدمتها المجتمع الأوروبي ككل، تبعا لذلك أصبح مفهوم الإيديولوجيا محملا بتأويلات وترجمات جعلت منه دخيلا أو غريبا في لغته الأصلية(10)، إذ تراكم المعاني من ترجمة لأخرى غيب المعنى الأصلي وحرفه حسب العروي.(11) في حين أنها مع الفلسفة الألمانية وفيلسوفها الأعظم " فريدريك هيغل (1770-1831)" اتخذت، أي الإيديولوجيا، طابعا خاصا إذ يذهب الفيلسوف إلى اعتبار مجموع الأفكار والقيم تعبر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخية ما إلى هدف أو غاية مرسومة في خطة التاريخ العام، كما أن لكل مرحلة في التاريخ لها عقلها أو روحها الخاصة، ليس هناك فكر عام لكل البشر أو سلوك كوني.

من هنا يدعو "هيغل" إلى ضرورة المزج بين وعي الفيلسوف للتاريخ الكوني ووعيه بتاريخ أفكاره الفلسفية والنظر إلى لحظة الفيلسوف-الزمن الحاضر-بما هي أسمى لحظة، لكن مع ضرورة تفادي محاكمة أي مرحلة بمنطق المرحلة القائمة، فكون روح عصر ما هي العبودية والرق وروح عصر أخرى هي التحرر، لا يعني محاكمة الأولى بمنطق الثانية، ذلك لكون الإمكانيات المتحققة للثانية لم تكن متاحة للأولى. ليكون التحليل بمنطق المحاكمة المحاسبة يجعل من التحليل تحليلا جزافي وقد يصبح خلافيا؛ فإبقاء على خصوصية كل مرحلة مرحلة يجعل من مسار التاريخ مسارا متفرقا لا يمكن الوصل بينه، بهذا نكون قد طعنا في منطق التاريخ التراكمي.

يلجأ "هيغل" لحل هذا الإشكال إلى نظرية «التمثل»(12)، أي استحضار روح ذلك العصر وفهمه كما هو داخل إمكانياته الخاصة وشروط تحققه دون إصدار حكم قبلي، فالنقد حسب "هيغل" يجري على العصر المعاش فقط. التمثل من شأنه تقريب هوية أو خصوصية ذلك العصر ولو أن المسألة صعبة جدا، فإدراك هوية الأنا أصعب، إذ الوعي الذاتي يبنى فقط من خلال تعرف النفس على نفسها عن طريق الأخر بوصفه متماهيا معها، فعلى أساس قاعدة الاعتراف المتبادل(13)– أي علاقة السيد بالعبد-، تمكن معرفة هوية الأنا انطلاقا من هوية الأخر المتعلقة من جانبها باعتراف ذلك الأخر الذي يعترف بي.(14) بهذا فهوية الأنا عند "هيغل" هوية العام والخاص في ألآن الواحد، بينما الروح هي انبثاق جدلي لهذه الوحدة وتحديدا لهذه الكلية. وانطلاقا من التحليل الهيغلي لهوية الأنا نتساءل سؤالين يفرضان نفسيهما: هل بإمكان الحضارة العربية تحقيق هوية خاصة في ظل غياب أو رفض اعتراف الأخر بها؟ هل لا يزال الحق قائما في ظل اعترافها هي بالأخر إلى حد التماهي معه؟

عايشت الأمة العربية ظرفية بزوغ الفكر الحداثي، بالرغم من عدم تحقق شروط هذا الفعل فكانت مطالبة بالانخراط ضمنه، ما جعلها أمة ذات هوية ملغية أو مقبرة محكوما عليها بالصمت إن لم نقل باللاوجود. فما الذي حال دون تحقق هذه الهوية، هل استهانة المثقف العربي بأصالته وخصوصيته الثقافية، واعتبارها غير قادرة على خلق فكر حداثي خاص بها، أم أن قوة الحدث كان أكبر من ذلك؟

انفتاحا على موقف أستاذنا العروي ومحاولة منا لتحليل إشكال تحديث الحضارة العربية، يكون لكل مرحلة تاريخية عربية روحها الخاصة، إذا فنشوء الفكر السلفي الأصولي وتشبعه بالطابع التراثي، موقفا أفرزته إمكانية تلك الفترة، وتوفر إمكانية جديدة في فترة لاحقة هو ما أنتج الفكر الليبرالي. من هنا نسائل الموقف التاريخاني الممجد للحظة الراهنة، بأي معنى يمكن محاسبة الفكر السلفي من خلال زاوية الفكر الليبرالي الأوربي؟ إلى أي حد تكون هذه العملية متوافقة مع مقتضيات التاريخ العام؟ إلا أن ارتقاء أية حضارة إنسانية مرهون بظهور المتضادات في مجتمعها، التناقض إذا هو ما يدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام ونقصد هنا الثالوث الهيغلي: الوضع، فالنفي، فالتركيب، التصادم يحصل في ظرفية ما، بين الجديد والقديم، لكن سرعان ما يتم الامتزاج بينهما، فكل دور من أدوار التاريخ يسعى إلى الارتقاء والكمال ليصل درجة الرقي. ووفقا لما أوردنه أنفا في ما يخص التأثير الهيغلي، يكون الفكر الإيديولوجي عند "هيغل" هو المعبر عن روح عصر ما في إطار غاية تحقيق هدف التاريخ، لتكون بذلك الإيديولوجيا هي خطة واعية بذاتها. بما أن لكل مرحلة روحها أو عقلها الخاص ألا يحق أن نتساءل: هل سيكون منطق التاريخ وفيا للأطروحة الهيغلية أم أن المرحلة الجديدة ستجري على "هيغل" ما أجراه هو على سابقيه؟

في وقت ما تعرف "كارل ماركس (1818-1843)" على مفهوم الإيديولوجيا في إطار حمولته الدلالية المزدوجة بين المعنى الفرنسي والمعنى الألماني، في هذا الأفق كان "ماركس" مطالبا بالكشف عن أبعاد المفهوم دون السقوط في خطأ تمجيد حدث الثورة أو الوقوع في ضيق المثالية، لكنه في الحقيقة لم يستطع التحرر بشكل كلي عن الفلسفة الهيغلية، فاستوحى من أستاذه الفكر الجدلي غير أنه لم يبق عليه كما هو، بل عمد إلى قلب المنطق الهيغلي إذ نقد فكرة الإطلاقية، فمثالية الموقف جعلت منه بعيد عن ما هو قائم بالفعل، فامتثالا لهذه الفكرة هو إلغاء مباشر لتاريخ الواقعي الراهن وتكريس لفكر وهمي زائف.

 في ذات السياق؛ يعترضنا موقف لودفيج فيورباخ (1804-1872)، إذ يعُد من أكثر فلاسفة اهتماما بفلسفة "هيغل"، بحيث دأب إلى اعتبار فلسفته لا تمثل حقيقة الواقع الإنساني، مبررا ذلك بكون ففلسفة "هيغل" تحلق في الهواء في مقابل فلسفته الثابتة بقدميها على الأرض.(15) فقد عُرف "فيورباخ" بفلسفته المعادية للاهوت المسيحي، إذ يعتبر التعاليم الكنسية مجرد فكرا إيديولوجي زائف يرمي إدغام الحقيقة، من هنا اعتبر المثالية ضرب من ضروب اللاهوت، لهذا يجب القطع معها وتأسيس دين الإنسانية متحرر من أي بعد ثيولوجي.(16) ليواصل "ماركس" انتقاده في متبعا الموقف الفيورباخي إذ يعيب على "هيغل" تمجيده لحدث الثورة وتحمليه أكثر مما يستحق؛ فقياس أحداث فرنسا على ألمانيا كان في نظره جهلا للتاريخ العام، فالمهم حسب التصور المنادي بتغير العالم لا تفسيره، ليس الكشف عن الظروف الباعثة عن المشكل بقدر أهمية معالجته من زاوية كون التاريخ تطور واقعي، لهذا كان الأجدر البحث عن العلاقة بين الفلسفة الألمانية وواقعها بدلا من تنزيل الأحكام النظرية المجردة البعيدة عن الواقع المعاش، فواقع فرنسا يختلف عن واقع ألمانيا، إلا أنه يخضع بوعي أو بدون وعي لمنطق تطور عام.

في هذا الإطار يؤكد "ماركس" على ضرورة النظر إلى التاريخ من زاوية نظر عالمية كونية غير اختزالية قومية، من هنا فالفلسفة الألمانية حسبه أدلوجة أو بعبارة أخرى إيديولوجيا حالت دون إدراك الفرد لأي جزء من أجزاء الواقع التاريخي. لذلك عمد "كارل ماركس" إلى تبني مفهوم الاستلاب أو الاغتراب(17) من خلال المعادلة القائمة بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني، إذ يذهب "ماركس" إلى ضرورة أن يتجاوز الكائن البشري استلابه وأن يتحرر منه ليحقق إنسانيته. فالتعاليم الكنسية والأخلاق السائدة هي سبب استلاب الفرد ونزعه من نفسه، فالأنظمة السياسية وغيرها جعلت منه مسترقا، مستغلا، مستخدما كوساطة من طرف الدول، فما على الفرد هنا إلا المطالبة بتجاوز استلابه الذي هو مرهون بتخطيه للملكية الخاصة. مثال ذلك حال: البروليتاريا. فحسب "ماركس" هي وحدها القادرة على الإنهاء مع الاستلاب كونها تعيشه هي قادرة على التحرر وتحرير المجتمع ككل. ونيته في ذلك خلق بروليتاريا صاعدة متحررة من القيم الوهمية، متمتعة بالقيم الخاصة، قيم يحتاجها الفرد البروليتاري أكثر من احتياجه للخبز اليومي. إذا فالمادية الاجتماعية هي التي تحدد وعي الفرد، غير أن الإيديولوجية في نظره تقلب الواقع ولا تقدم صورة الحقيقية عنه. من هنا يبرز دور الموقف الماركسي في التاريخ الإنساني إذ يهدف إلى تحرير الطبقة المستغلة المستضعفة من سلطة ايديولوجية الطبقة المسيطرة، طامحا خلق حداثة تقلب ميزان المعادلة الاجتماعية.

وأمام هذا الزخم الفلسفي الممجد للفكر الحداثي، ألا توجد مواقف فلسفية تعارض الفكر الحداثي؟ من خلال هذا السؤال يحضر فكر الفيلسوف "فريدريك نيتشه (1844-1900)" الذي يعد إلى جانب "هيغل" الحدين اللذين يتحرك بينهما الحدث الأصلي لتاريخ الفكر الألماني في القرن19، فهيغل يمثل البعد ونيتشه القرب، هيغل الإكتمال ونيتشه البداية الجديدة، هيغل حدد في كتاباته معالم الحداثة في حين نيتشه سعى إلى تجاوز الميتافيزيقا منبأ بما بعد الحداثة، هيغل يمثل الماضي التاريخي في الفكر الفلسفي ونيتشه يمثل حاضره ومستقبله الراهن.(18)

يذهب "نيتشه" إلى اعتبار العدمية مرض أوروبا الخفي، فالثقافة الأوربية حسبه هي ثقافة المستضعفين، وتاريخ أوروبا منذ المسيحية يظهر فكرها الرامي إلى اختراع مفاهيم المساواة، الخير، الضمير...،كي تتستر وراء ضعفها، خبثها، رغبتها في الانتقام من السيطرة الممارسة عليها كما انتهى من خلال بحثه الأركيولوجي في أصول هذه المفاهيم انتهى إلى أن مفاهيم هذه الثقافة ذات دلالة مغلوطة ثم تحريفها لتوافق منطق المصلحة؛ مثال ذلك: خرافة الضمير والحرية والمسؤولية هي انبثاق عن ضعف الثقافة الأوربية. إذ أن هذه الأخيرة تذهب إلى الاعتقاد أن هذه الأخلاق ستحميها من منطق الغريزة السائد التي كانت تعتبره سبب شقائها ليتبين لها فيما بعد أن هذه الأخلاق هي الشقاء الأكبر، لأن الغريزة في نظر" نيتشه" هي الوحيدة المتحكمة بالفعل الإنساني، فالضعيف لوعيه بضعفه يلجأ إلى اختراع مفاهيم التعاون ليغطي على ضعفه. هكذا يكون صاحب المطرقة ضد الفكر الحداثي، فهو السبب في نظره لالتباس القيم وهونها، لأن الثقافة الوحيدة الحقيقية في نظره هي ثقافة القوة.

نظر مجموع هؤلاء الفلاسفة لنظرية الإيديولوجيا كقناع/وهم للكشف عن الأفكار التلفيقية التي أفرزها المجتمع الأوربي لتضليل مسار الحقيقة، غير أن دور هذا التلفيق لم يغير حركة التاريخ التطورية، فكل من "هيغل"، "ماركس"، "نيتشه" نبهوا على رغم كون الإيديولوجيا وهم وقناع، إلا أنها تأثر في التاريخ كحقيقة، كأفق ذهني لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه.

كي ننهي ما نحن بصدده في هذا العنوان، لابد أولا من الإشارة إلى ما حملته الأنوار بصدد هذا المفهوم. اكتفت فلسفة الأنوار بتأطير لنظرية الإيديولوجيا، كقناع، متوقفة عند ما حققه المشروع الإصلاحي من إنجازات محلية، لتظل منحصرة في حيز التاريخ العقلاني المجرد، مجهضة لكل لإمكانيات أخرى كونية. هذا تماما ما نجد الفيلسوف الألماني "هيغل" يحاول تجاوزه مستعينا في ذلك بأطروحة "يوهان هردر (1744-1803)"حول التاريخ الكوني إذ يذهب إلى اعتبار ما وصفته فلسفة الأنوار بالأحكام المسبقة والأفكار المتجاوزة هو ما يؤسس للثقافة البشرية؛ فالفرد لا يمكنه الخروج عن وسطه الاجتماعي ولا أن يتعالى على شروط وجوده. هذا الموروث هو ما يحدد مستقبله لأن التراث هو التقاف الذي يتوقف عليه تقويم طبائع الأفراد وتوجيه تصوراتهم وسلوكاتهم، فيما العقل يشكل الثقافة(19)، يجب النظر للتراث من زاوية كونية دون تضخيم حدثا عن حدث أخر.

ليعيب في هذا الصدد "هردر" على الفلسفة التنويرية نظرتها المجردة وتقديسها لحدث الثورة الفرنسية، فاعتبرته حدثا كونيا ينسحب على باقي الدول الأخرى، فحكمت بذلك على الحقب السالفة من وجهة نظرها هي لا على ما هي عليه. بينما يطالب "هردر" المؤرخ في هذا السياق، بالانتقال الذهني إلى الوسط الثقافي المدروس والعمل على استيعاب خصائصه عوض ترجمة كلام تلك الفترة إلى منطق الزمن المعاش؛ وإنها لحماقة أن نقتلع فضيلة من فضائل الحضارة المصرية من أرضها وزمنها، لنعبر عنها بمقياس زمني أخر؟ لنترك الإغريقي يقول الترهات عن المصري والشرقي يعادي المصري، مهمتنا نحن هي أن نضع كل من هؤلاء في محله.(20) فلهذا؛ فما على المؤرخ نفي معيار عقله في تلك اللحظة ليستعير معيار الحضارة التي يدرسها، أي نبذ النقد العقلاني وتقمص الحقبة المراد فهمها. انطلاق من هذا نلاحظ رغبة "هردر" في تأسيس لمفهوم التاريخ الكوني الذي يشكل الفرد ضمنه دور الوسيلة أو أداة من أجل السير بالعقل من مرحلة البساطة إلى لحظة المطلق.

تبعا لهذه الخلاصة نسائل موقف المفكر عبد الله العروي عن مدى أحقية فكرة طي الصفحة مع التراث العربي التي ينادي بها، أو ليس ذلك التراث هو ما شكل البنية أو الأرضية لإفراز هذا الحاضر، كيف يمكن التبرؤ منه فقط لانتهاء إمكانيات عصره؟ أو ليس من الخلافي الحكم عليه انطلاقا من إمكانيات الراهن؟

مع الفكر الحداثي تم تحويل المجتمع الغربي من مجتمع صناعي إلى مجتمع استهلاكي مرتكز على التبادل، بهذا سيتم تشيئ الفرد ونزعه الخصوصية الذاتية فيتحول بذلك من ذات فاعلة حرة إلى ذات استهلاكية مسيرة بمنطق الرغبة، فتشيئ الفرد حسب "ماركس" هو ما يضمن حركية الاقتصاد إذ كلما ارتفع مستوى الحاجة إلى البضاعة وبشكل أوتوماتيكي تنمو حركية التبادل التي لا تكتمل إلا باليد العاملة. من هنا عمل "ماركس" على انتقاد علم الاقتصاد ولتفسيره لحركية الاقتصاد، إذ فسرها بمنطق أزلي ميتافيزيقي بعيد عن الواقع، في حين أنها نتيجة لتطور تاريخي اقتصادي، ومن تم سيصبح مجرد ايديولوجية تبريرية أو كما يسميها العروي الأداليج.(21) فلا يكفي حسب "ماركس" النظر إلى ظاهر الأشياء وإنما وجب البحث عن قانونها التاريخي المؤطر لها؛ فالإيديولوجيا سابقة للعلم لكونها تصف الظواهر القائمة ومهمة العلم هنا هو نقدها ووضعها داخل إطارها التاريخي الخاص. ما يكشف كون المفاهيم هي إفراز مباشر لحركة التاريخ الفعلية، فمثلا المفاهيم المجردة بسبب تجردها تصلح لفهم الظروف التاريخية التي أفرزتها.

  • مساءلة فكرة تحديث الثقافة العربية.

در التديلي: التراث الموازي Parallel Heritageدر التديلي: التراث الموازي Parallel Heritage

دون أن يتيه كلامنا عن قصدنا، تجدر الإشارة أولا في هذا العنوان إلى أننا سنركز بالأساس على مسألة تحديث والثقافة العربية وما يرتبط بهما. إن مشكلة الثقافة لا تنفصل في مجملها عن الصراعات السياسية والتنافس الاجتماعي، الأمر الذي يجعل من الخطأ في ميدانها أكثر خطورة وضررا على الأمة بأسرها، بحيث يتعلق الأمر فيها بنوع من الاستدراك لعقود وقرون ظلت ضائعة، فقد تكون الضربة القاضية على الأمة بحسب العروي. فمادامت كل ثقافة إنما هي مجموعة التعابير في مجتمع معين فاذا بالضرورة كل مجموعة إنسانية، أكانت قومية أو أدنى من مستوى القومية، تعبر(ولا يمكن إلا تعبر) عن كنهها.(22) غير أن السؤال المطروح هنا هو « في المضمون القومي للثقافة العربية وإمكانيات تحديثه أو لا إمكانيات/استحالة تحديثه، بين أنصار التجديد الثقافي على أرضية الفنون الشعبية وبين أنصار التجديد الثقافي على أرضية معاصرة: اقتصادية/سياسية/اجتماعية.» في حين أن الثقافة الإنسانية بشكل أعم تشكل مجموعة من الوسائل الفكرية والنفسانية والعملية والأدبية...، التي من خلالها تعبر الجماعات المختلفة عن كنهها وعن وجودها، والتي من خلالها تقيم نظرتها للكون وللحياة. بل وأكثر من ذلك، فقد عرف مدلول وشكل الثقافة تطورا طول مسيرته النضالية، إلى درجة أن أصبح العالم شطرين، شطر (جامد) وشطر متحرك، الأول يشاهد ويعبر عن ما يرى، والثاني يرى ويعبر عما يرى، لأول من الخارج، والثاني من الداخل، داخل ثقافته/مجتمعه. بينما تتعدد النظريات حولها (الثقافة) إذ يقع اختلاط فيها بين ما هو معقول ومكتوب، بين ما هو لا معقول ومروري. الأحرى في نظر العروي، أن نقول أن الثقافة تنحصر في ما هو تعبيري واعي ولا تتداخل في ميدانها العناصر التلقائية الغير واعية، إلا في حالة واحدة، هي عندما تصبح مادة للتعبير بشكل واع، لكنها في الحقيقة أشد تعقيدا من هذا، لما تطرح الثقافة مضمونا وشكليا، لما كانت عليه في الماضي ولما أصبحت عليه اليوم، حيث كانت تعبر عن كونها واحدة عالمية موحدة، أما الآن فقد غدت متعددة ومتنوعة إلى درجة أنها ألبست للباس الاختلاف والتفرد.

ما الذي يشكل مضمون الثقافة العربية؟ يرى البعض في نظر العروي، أن الإسلام هو ما يشكل مضمون الثقافي للثقافة العربي، مما يطرحا تناقض، ألا وهو كون الإسلام كمعتقد وكتنظيم اجتماعي وكنفسانية، لا يختص به فئة خاصة ولا مجموعة بشرية فقط وإنما له مغزى عام مما لا يسمح له بأن يكون أو يعبر عن قومية فئة على فئة أخرى، ذلك لكونه أيضا – الإسلام كمضمون ديني- لا يمكن أن يكون إلا طرف من الأطراف المكونة لشخصية القومية. وفي هذا السياق نرد قول للعروي يبرز فيه هذه المسألة أكثر: (..) رغم ذلك لا يمكن للمضمون الديني في عموميته أن يمثل أكثر من جانب واحد بين جوانب الشخصية القومية.(23)

كما قد يحلو للبعض أيضاً  في نظر العروي أن يعتبروا اللغة ما يشكل مضمون الثقافة. في الحقيقة إن المضمون القومي لا يمكن أن نتوصل إليه عن طريق لغته وإنما بمعاكستها؛ والمعاكسة ها هنا تعنى أن تخلقها من جديد، أي اللغة. لأن في عدم معاكسة اللغة في رأي العروي، تعبير عن واقع اللغة لا عن الواقع الذي يعيشه المرء، ويعني كذلك نوعا من الاحتفاظ والبحث في ما هو مختزن ومكتنز فيها من تجارب السابقين، أي البقاء في دائرة ما استحوذت عليه اللغة من تجارب القدامى، وبالتالي فلا يمكن لعنصر اللغة واحده أن يشكل مضمون قومي. ولهذا وذاك نجد العروي ينفي ذلك بقوله، إن اللغة في حد ذاتها لا يمكن أن تكون عنصر التمييز القومي، وبالأحرى أن تكون مضمون الثقافة القومية.(24)

لنخلص في الأخير مع العروي إلى القول بأنه لا الدين الإسلامي( كمضمون) ولا اللغة العربية (كحاملة لتجارب سابقة) ولا الواقع الطبيعي والنفساني ولا الفلكلور يشكلون الثقافة القومية العربية، فما هي إلا جوانب من الشخصية القومية العربية الإسلامية، تجعلنا أكثر ارتباط بالغير، أكثر مما تميزنا عنه.

إلى جانب هذا، فإن مسألة الرُقي بمستوى الثقافة، يجب أن ترفع عنه المقاييس مهما كانت النتائج: صائبة أم خاطئة، أو تافهة أم ابتدائية تدربيه، لأنه في الكثرة تكمن إمكانية النبوغ(25)، تفاديا بذلك الوقوع في «على قدر حالنا» علينا أن نقنع في الميدان الثقافي أو نبدع فيه بما يناسب تطورنا الاقتصادي والفكري، لأن هذا إقبار للطموح، ومن فقد الطموح، فقد النبوغ وأصبح يغوص في دروب التخلف. كما يعارض العروي بشدة مسألة مزج الفلكلور بالثقافة وبأن يكون هو ما يشكل لب الثقافة العربية/المغربية، لأن ذلك احتقارا للحاضر أولا وللماضي ثانيا. وبالتالي فإن موقف العروي في هذا الصدد يتلخص في رفضين لتراثين، الأول: تراث الثقافة التي تسيطر بشكل كلي عن عالمنا الحاضر، وهي ثقافة مسيطرة تدعي العالمية إلى حد مطالبتها لنا بالالتزام والضغط، وهي في نظر العروي تقليد لا يفتح لنا السبول، سوى سبول التقليد ولا اعتراف بالقصور. الثاني: تراث ثقافي وجداني، الذي يدعو إلى ضرورة تكرار نفس تجربة عهودنا الماضية، وهو في نظر العروي تراث ثقافة الماضي، لم يعدِ يمس ويعبر عن كل جوانب حياتنا النفسانية اليوم.

إذا ما تأملنا مجمل أعمال الأستاذ عبد الله العروي، نجده لا يفتأ يكرر مسألة ضرورة «تحديث»(26)، تحديث الثقافة العربية، هذا المطلب الذي لن يتحقق حسبه إلا بالقطع والحسم مع الموروث الثقافي العربي (الكلاسيكي)، ولابد أيضاً من نهج طريق أو اتجاه ثالث، قائم على التجربة والمخاطرة، محاولين البدء ولانطلاق من أشكال الثقافات العالمية، من خلال إبراز مدى لا عالميتها إذ تنقصها تجربتنا العربية كي تكون على الأقل ذات مدلول عام، وهذا التجربة يجب أن تتبلور في شخصية جديدة، في موقف جديد، في إحساس جديد وفي تعبير جديد..(27) تجربة تستلزم شروط محددة. فمثلا في الأدب، الاكتفاء بمعرفة معطيات الثقافية الحديثة والأخذ بها أليا (كتقنية وشكليات)، يحُل بين التعبير السليم والتطرق للواقع كما هو، فالأجدر في اعتقاد العروي هو البحث عن مضامين تنسجم مع هاته الشكليات الحديثة. ومثلا في التاريخ، وجب معرفة تجربتنا التاريخية في مظاهرها بشكل شامل، نظرا لكونها التجربة التي تعكس العمود الذي يشد الواقع. كما أن في المسائل التي لها ارتباط أكثر بالوعي، ينبغي إذكاء الوعي فيهما، من خلال الحرص على معرفة الثقافة العالمية معرفة دقيقة والاطلاع على معطيات تجربتنا التاريخية على ضوئه. ليكون هدف ثقافتنا في آخر المطاف، إسهام في الرفع من مستوى الإنسانية جمعاء. لأن مفهوم الثقافة بمعنى ما، هو تعميق مقدورات الإنسان إلى حد تعبير أستاذنا العروي.

 في منوال غير هذا المنوال؛ يطالب العروي باستمرار مجحف المواطن العربي بالانخراط ضمن الركب الحداثي، ذلك باستيعابه لمكاسب التاريخ المعاصر، إذ أن العربي حسبه لا يمكنه تعرف معالم الحداثة إلا عبر الفكر الغربي فهو الوسيط الذي لا غنى عنه بينه وبين العالم الخارجي وحتى بينه وبين أنفسه/ثقافته؛ فبإزاء الأخر يعرف العرب أنفسهم(28)، هو السبيل لتفهم/استيعاب الراهن الرجعي الذي نحن عليه.

من هنا نسائل الأستاذ العروي عن مدى مشروعية المناداة بالقطيعة، كيف يمكن تجاهل أو إنكار دور العرب في التاريخ الإنساني، أو لم يكن لهم الفضل في خلق هذه الحداثة، ألم يكونوا الوسيط الحتمي بين الغرب واليونان حتى أصبح وجود الطرفين مرهونا على وجوده، كيف يمكننا تناسي أو إجهاض كل فترات التاريخ العربي التي كان العرب فيها في أوج عطائهم حتى صار الآخر يخشاهم!؟ في حين أن تساؤلنا هذا لا يغدو أن يكون مجرد انطباع تمخض عن قراءات لما كتب عن الرجل، وأمام سؤالنا الانطباعي لن يبقى العروي مكتوف الأيدي بل يبادر بالإجابة. ليذهب إلى تبرير موقفه، معتبرا الماضي العربي خاصة التراث السلفي لم يعد قادرا على مجاراة أحداث الراهن، من هنا يدعو العروي إلى نقد مجمل الأفكار والاعتقادات التي تنبني عليها الثقافة العربية، كونها ايديولوجية لا بد من تجاوزها، فأفكار الشيخ - السياسي- التقني هي ما حالت دون استيعابنا أو على الأقل دخولنا الحداثة. وإلى الانفتاح على الواقع العالمي والسير ضمن إمكانيات، ضمن المتاح للبشرية جمعاء، كوننا جميعا نبدع وننتج ضمن ظروف حتمية واحدة؛ لأن الهدف واحد هو تحقيق المصلحة العامة في إطار واحدية التاريخ الإنساني.

يتوسل العروي لتحقيق ضالته بالمنهج التاريخاني- ليس كما هو متعارف عليه في الفلسفة وإنما يخضعه العروي لجملة لقوالب- كما يدعو العرب لتبنيه خصوصا في ظرفية افتقادهم لمنهج يؤطرهم، لأن مسألة المنهج ليست مسألة شكلية، مسألة مراجع ونقاش أراء بكيفية منتظمة، بل هي قبل كل هذا مسألة قطيعة مع مضمون التراث(29)، لأنه في نظره المنهج الأجدر إذا ما أردنا ولوج بوابة العصرنة والتحديث.

إن المنهج التاريخاني يقوم على تمجيد اللحظة الراهنة المعاشة فقط، فالعقل البشري حسبه لا يمكنه إدراك إلا ما يصنع، فكل شيء نسبي غير مستقر والحقيقة ما هي إلا حقيقة الزمن الحاضر، إذ أن هذا الأخير وحده المالك لمفاتيح التاريخ عن طريقه يمكن حدس وفهم الماضي، ذلك لكون كل حقيقة هي مغزى الزمان الحاضر، الحاضر هو الذي يعطي للماضي معناه الحقيقي(30)، وعن طريق الحاضر نؤسس ونؤصل للماضي، وبواسطة «التمثل» نستحضر كل فترة وحدث على حدا للملمة أشلاء المبعثر تاريخيا وقطع مع كل نظرة إطلاقيه للتاريخ، دليل ذلك وكون المؤرخ هو من يستطيع أن يدرك مباشرة وبداهة كل فترة من فترات الماضي.(31) كما أن التاريخ في حد ذاته ليس قانونا نهائيا مطلقا بل هو خاضع لمنطق الإرادة الفردية، والإنسان صانع لتاريخه، لهذا يجب عليه تجاوز صفة القدرية التي يلبسها لواقع تخلفه، ليمضي قدما نحو توفير إمكانيات تجاوزه، أي ضرورة الخروج من القدرية، لأن الفكرة التي رسخت في معظم الكتب التاريخية الإسلامية خاصة المتأخرة منها: تفسير كل حادثة بالإرادة الربانية لأن التاريخ يصبح حينئذ قسما من علم الكلام.(32)

إن السؤال كل السؤال هنا هو إذا كان المنهج التاريخاني هو تمجيد للحاضر وتأسيس للماضي، كيف يمكن القبول بهذه المعادلة في ظل اختلاف إمكانيات ومبررات كل فترة على حدا، أهل يعقل استجواب ومحاكمة المتهم في غير حضرته؟ يلجأ العروي لإتمام معالم أطروحته حول الحداثة إلى تبني منهج «التاريخ المقارن»، فيعتبره الأداة الضرورية لقراءة تاريخ الأمة واستيعابه، وعن طريق مقارنة الحضارة العربية بالحضارات الأخرى نتمكن من تلمس الخلل الموجود في حضارتنا، لكن يبدو الأمر متعذرة، سيما وأن كل ثقافة تنهل وتتشكل وفق التموقع/التموضع الجغرافي وواقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالدرجة الأولى.

قبل هذا كله: ما التاريخانية؟ ما التعريف الذي يقدمه لها العروي؟ إن التاريخانية حسب العروي، هي الفكر وتصور الواقعي الوحيد القادر على تحقيق نهضة العرب، لهذا يجب - حسبه - الأخذ بأبرز تجليات هذا الفكر الذي هو الفكر الماركسي. لأن الماركسية الموضوعية في نظره هي التيار الوحيد المرن القادر على التأقلم مع خصوصية الثقافة العربية الإسلامية. وكأن واقع العرب أو المغرب اليوم هو نفسه واقع فرنسا قبيل اندلاع الثورة الفرنسية؟، وقد أتينا سلفا على تحليل خطورة الإسقاط لما في ذلك لإجهاض لإمكانيات وخصوصية كل ثقافة، من مثال: ما حدث حين ثم إسقاط الواقع الفرنسي على الواقع الألماني. واذا ما افترضنا جدلا امكانية نجاعة الفكر الماركسي في مساعدة العرب على تجاوز تخلفهم، كيف يمكن لنا أن نغض الطرف أيضا عن المبادئ التي تقوم عليها الماركسية؟؛ فهذه الأخيرة تقوم على الاعتقاد بأن البنية الاقتصادية هي المتحكمة في منطق تطور وازدهار أي حضارة، بهذا حين يتم القيام بالثورة على النظام الاقتصادي السائد لابد ضرورة أن يصاحب ذلك ثورة على الأنظمة الاجتماعية والسياسية وأخطر من ذلك العقائدية الدينية أيضاً، لأن هذه الأنظمة كانت تساير القديم ولا تستطيع مسايرة روح النظام الجديد (هذا كذلك ما جاء في تعريف التحديث الذي أوردناه). من هنا نسأل العروي ملتمسين له العذر غير مصدرين لأي حكم قيمي-قبلي، كيف يمكن لنا أن نتبنى الفكر الماركسي دون المس بأي أصل من أصول الثقافة العربية أو السقوط في الدعوة لأفكار قد تفهم على غير محملها. في تصرح للمفكر السوري الماركسي "ياسين حافظ"، عن دور فكر العروي في تطوير وعيه السياسي الإيديولوجي، يرد قائلا: العامل الأكثر أهمية في هذه المحطة من تطور وعي الإيديولوجي السياسي كان كتابات عبد الله العروي وتحديدا "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" "العرب والفكر التاريخي" العروي الذي ساعدني على وعي البعد التاريخي للواقع العربي وشد نظري إلى دور الإيديولوجيا السلفية في عرقلة التقدم العربي.(33) من هنا نحسن الظن بموقف العروي وندعو إلى إحسان الظن بأسلافنا وعدم نسيان أنهم في لحظة من اللحظات كانوا ركيزتنا وسندنا للوصول إلى حاضر اليوم، فكما استطاعوا في فترة من الفترات تحقيق المجد للأمة ستكون هناك إمكانية مشابهة تنتظر تحقق شروط بزوغها محققة لحداثة عربية محلية نكون فيها المتبوعين وليس التابعين.

نكون بهذا قد أتينا على نهاية الشق الأول من مقالنا غير واضعين لخاتمة له ظنا منا أن درب التفلسف أو التأمل هو دائما مفتوح على مصراعيه لاستقبال كل قلق، كل استشكال؛ ففي الفلسفة لا نستطيع البرهنة في هكذا الإشكالات، وأن نقول بوجود الأجوبة النهائية القطعية؛ فدائما هناك ما يظل متواريا منتظرا للحظة الاستئناف والتجديد.

الهوامش:

  • عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، الطبعة الثامنة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص 160.
  • المصدر نفسه، 160.
  • ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، مفهوم العقل، مقالة في المفارقات، الطبعة الأولى، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1996)، ص17.
  • بمعنى أن الفرد يتحرك أو يبدع أو ينتج وفق الظروف الحتمية المتاحة له، وليس خارج المسار التاريخي العالمي. نجد العروي يعبر عن هذا المفهوم في كتاباته ب"مكاسب التاريخ المعاصر" أو " مكاسب الحضارة الغربية السائدة "، فيدعو إلى تبنيه من خلال التسليم التاريخي بالمآل الراهن.
  • عبد الله العروي، أزمة المثقفين العرب تقليدية أم تاريخانية؟ ترجمة: د. ذوقان قرقوط، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973)، ص131.
  • ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، " منهج الفكر المغربي المعاصر"، مجلة الثقافة الجديدة المغربية، العدد 1 (1 مارس 1974)، ص8.
  • ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، مفهوم الإيديولوجيا، الطبعة الثامنة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص6.
  • المصد نفسه، ص33.
  • كمال عبد اللطيف، أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب، الطبعة الأولى، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 2003)، ص 50.
  • عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، الطبعة الثامنة، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص9.
  • عبد السلام بنعبد العالي، التاريخانية والتحديث، الطبعة الأولى، ( الدار البيضاء: دار توبقال للنشر،2010)، ص 16.
  • يورغن هابرماس، العلم والتقنية كـ«إيديولوجيا»، ترجمة حسن صقر، الطبعة الأولى (منشورات الجمل، 2003)، ص 14.
  • المصدر نفسه، ص 16-32.
  • المصدر نفسه، ص16.
  • أحمد عبد الحليم عطية، " الجدل اللاهوتي بين هيغل ونيتشه فيورباخ راهنا "، مجلة الاستغراب، العدد 3(ربيع 2016)، ص3.
  • وفي ذلك تأثر بموقف أرنست رينان الداعي إلى الإبقاء على دين المسيحية دون عقائده، المصدر نفسه، ص 6.
  • هنري لوفيجر، الماركسية، ترجمة حبيب نصر الله نصر الله، الطبعة الأولى، (طريق المعرفة، 2012)، ص 42.
  • أحمد عبد الحليم عطيه، " الجدل اللاهوتي بين هيغل ونيتشه فيورباخ راهنا "، مجلة الاستغراب، العدد 3( ربيع 2016)، ص13.
  • محمد شوقي الزين، " فلسفة التاريخ وتكوين البشرية عند يوهان هردر: من نظام المعرفة إلى نظام الحقيقة "، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المملكة المغربية الرباط، العدد11/ 569(8 يناير 2022)، ص10.
  • عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، الطبعة الثامنة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص68.
  • مصطلح يصدره على العلوم الإنسانية التي تدعي حيازتها للحقيقة والموضوعية التامة.
  • عبد الله العروي، " المضمون القومي للثقافة "، مجلة آفاق، العدد2(1 أبريل 1969)، ص16.
  • المصدر نفسه، ص20.
  • المصدر نفسه، ص22.
  • المصدر نفسه، ص28.
  • التحديث عملية أو مجموعة من العمليات التراكمية التي تطور في مجتمع ما، قوى الإنتاج، وكذلك يرتبط التحديث بمفهوم الإنماء والتطور من حيث البنى المعرفية والعقائدية المتصلة بالعلوم والإيديولوجيا والدين، يعني ذلك أن حركية التحديث تتأسس على جملة الإنفصالات تجعل من الآنية الفاعل الحقيقي في الذات والمجتمع. مأخوذ عن دراسة أكاديمية للماستر: الحداثة في العالم العربي المعاصر محمد سبيلا أنموذجا.
  • عبد الله العروي، " المضمون القومي للثقافة " ، مجلة آفاق، العدد2(1 أبريل 1969)، ص29.
  • ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، الطبعة 1 (بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر، 1970)، ص 28.
  • ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، مفهوم العقل، مقالة في المفارقات، الطبعة الأولى (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1996)، ص 11.
  • ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، مفهوم التاريخ، الطبعة الرابعة ( الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، ص358.
  • المصدر نفسه، ص 553.
  • عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، الطبعة الرابعة، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1997)، ص29.
  • محمد شاويش، " نقد نظرية العروي عن الأيديولوجيا والأدب في المجتمع العربي المعاصر"، مجلة التجديد (يوم 20/20/2003).

كتاب من تأليف المفكر المغربي العروبي المعاصر عبد الإله بلقزيز، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2010. وكما يدل على ذلك عنوانه، انصرف بلقزيز في هذا العمل إلى نقد الفكر القومي العربي بدافع الرهان على تجديده وتمكينه من الاستمرارية والصمود، وبذلك فهو نقد بالمعنى الإيجابي البناء لا بمعنى النقض والنسف، أملاه طغيان الجانب الإيديولوجي على المعرفي في ذلك الخطاب محل النقد، دون أن يعني ذلك التشنيع على الإيديولوجيا أو النظر إليها من حيث هي وعي زائف، فهي تستمد مشروعيتها من واقع أنها تعبر عن مصلحة جماعة اجتماعية ما (في هذه الحال مصلحة العرب في الوحدة). وعليه، يدعو الكاتب إلى وجوب إعادة تأسيس الفكرة القومية العربية على قاعدة نظرية ومعرفية متينة، على نحو يسمو بها عن متاهات الخطاب الدوغمائي الشعبوي المشحون بجرعات مفرطة من الاستنقاع الإيديولوجي.
على أن المؤلف لا يجحد ما أحرزته الأنظمة القومية العربية – بشقيها الناصري والبعثي – من إنجازات نوعية (الإصلاح الزراعي، التصنيع الثقيل، تطوير التعليم، تقليص الفوارق الطبقية، التصدي للمشروع الصهيوني والأحلاف الاستعمارية...)، وهو ما وفر لتلك النخب الحاكمة نوعًا من الشرعية الثورية (= شرعية الإنجاز) تستعيض بها عن الشرعية الديمقراطية المفقودة. بيد أن الفكرة القومية ما لبثت أن تعرضت لأزمة في المشروعية، وتضاؤل من حيث الجاذبية والتأثير في الجماهير، ويُعزى ذلك لجملة من المسببات لعل من أظهرها: فشل مساعي وتجارب التوحيد القومي العربية (إخفاق الوحدة المصرية السورية)، الاندحار أمام دولة الاحتلال الصهيوني ومشروعها التخريبي في المنطقة (نكسة 1967)، تَبَدد المكتسبات التنموية بعد انصرام الحقبة الناصرية، الانقسامات والانشقاقات العبثية في أوساط الحركات والتنظيمات القومية... إلخ، دون أن يعني ما سبق الإغضاء عن معطى التدخل الخارجي من حيث هو عامل كابح ومثبط للطموح الوحدوي العربي.

شكلت قضايا الهجرة واللجوء واندماج المهاجرين المسلمين في الدول الغربية أولوية على جدول الأعمال السياسي للدول الأوروبية لعدة عقود. تطورت هذه القضية في السنوات العشرين الماضية بشكل خاص إلى مسألة التكامل المدني المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالهوية الدينية. خلال فترتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمهاجرين ذوي الخلفية الإسلامية هو المحور الأساسي للبحث الأكاديمي، ولكن مع ظهور الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، تحول الاهتمام إلى التعبئة السياسية والتجاذبات الانتخابية.
بدءًا من قضية رشدي في المملكة المتحدة وقضية الحجاب في فرنسا من عام 1989 حتى الوقت الحاضر، انتقلت الأضواء إلى شرعية وجود العلامات والدلالات الإسلامية في الأماكن العامة، مثل قواعد اللباس، والمآذن، والأطعمة الحلال، والمدارس الإسلامية.
نتيجة لذلك، تصاعد الجدل حول رؤية هذه العلامات بشكل مطرد. الجدل ليس مجرد خلاف حول وجهات النظر المتباينة. ولكن الأمر يتعلق بالاختلافات الأساسية (أو على الأقل يُنظر إليها على هذا النحو) حول المبادئ والقواعد التي تنظم الحياة المشتركة للأفراد الذين يتشاركون نفس المجتمع في نفس الفترة الزمنية. مثل هذه الاختلافات الأساسية التي تؤدي إلى مواقف حصرية أو ثنائية لا يمكن أن تتعايش في ذات الأمكنة العامة.

كتابٌ صدرت طبعته الثانية في العام 1999 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، من تأليف المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والذي انكب فيه المؤلف على المعالجة الفكرية لأبرز القضايا والإشكالات ذات الطبيعة الفكرية والثقافية التي تعتمل بالوطن العربي (ثنائية الأصالة والمعاصرة، التطرف والموقف العقلاني في الفكر العربي الإسلامي، الاختراق الثقافي... إلخ)، في سياق عالمي وإقليمي موسوم بتعاظم الاهتمامات المتصلة بالمسألة الثقافية وقضايا الهوية، والتي سحبت البساط من تحت أرجل المسألة الاجتماعية في ضوء انحسار جاذبية الشعارات النظرية والتعبيرات الإيديولوجية المجسمة لها (قضايا الصراع الطبقي، العدالة التوزيعية... إلخ)، وهي الظاهرة التي يجري التعبير عنها، مثلما لاحظ الجابري بحق، بعناوين من قبيل "عودة المكبوت" و"عودة المقدس" في الغرب، و"الصحوة الإسلامية" وما يناظرها من شعارات تعبوية في العالم العربي والإسلامي:

جدلية التراث والحداثة

إن دفاع صاحب مشروع "نقد العقل العربي" عن توطين الحداثة واستنباتها في التربة العربية، لا يعني البتة بأنه من دعاة القطيعة الجذرية مع التراث. ومن هنا فإن الانتقال إلى الحداثة يستلزم إعادة قراءة تراثنا الحضاري العربي والإسلامي قراءةً نقديةً وتاريخيةً، كمُدخل لتأسيس حداثة عربية أصيلة، من طريق استثمار الجوانب العقلانية في ذلك التراث، وتحريره من رواسب الغلو والتزمت المثبطة لإرادة النهوض والتجدد. وبتعبير الجابري نفسه، فإن التحرر من التراث (بالمعنى السابق) هو السبيل الأنجع للتحرر من الآخَر، ذلك أن التعامل النقدي (النقد الذي يفيد تمييز الجيد من الرديء لا النقض والهدم) مع التراث قمينٌ بالنظر الموضوعي في الحضارة الغربية المعاصرة، بالأخذ من ثمراتها اليانعة ومَواطن قوتها، ونبذ مثالبها وقشورها المتعفنة، وهو الموقف الفكري الذي يعبر عنه الكاتب ب "العقلانية النقدية"، التي تنصرف إلى إعمال المنهج النقدي العقلاني في مقاربة تراثنا الخاص والآخَر (=الغرب) على السواء.