مثّلَ الانشغال بقضايا اللّاهوت المسيحيّ، وبأشكال حضور الدين في المجتمعات الغربيّة محورَ اهتمامي، على مدى العقديْن السالفيْن. فقد كان لِعامل العيش في مجتمع كاثوليكي الدور البارز في تيسير الوعي من الداخل بالواقع الدينيّ الغربي، وفي التنبّه إلى قوّة نفاذ المؤسّسات الكَنَسيّة فيه، بعد أن كنتُ أحسبها وهنت، بفعل الغشاوة المضلِّلة لمقولة تَعلْمُن المجتمعات الغربيّة. وجدت نفسي، في مستهلّ مجيئي إلى روما، آوي إلى ديرٍ للرهبان، وما يقتضيه العيش في الدير من حرصٍ على التكوين العلميّ في مجمل تفرّعات اللاهوت المسيحيّ وانشغال بالبحث، بدءًا في جامعة القدّيس توما الأكويني ثم لاحقا في الجامعة الغريغورية وكلتاهما من الجامعات البابوية.

تسببت تداعيات عولمة الثورة الصناعية والرقمية ، والحضور الدائم في فضائها الصاخب، والانشغال المستمر بمتابعة مستجداتها، والهوس الزائد في تلقف تطبيقاتها، وتبني مصطلحاتها، والتفاعل المتواصل مع ما يتداول في فضائها المفتوح في كل الاتجاهات، من ثقافات، وافكار وقيم وافدة ،باستهلاك الوقت المتاح لإنساننا المعاصر، واستنزاف طاقته الوجدانية، الروحية منها، والتأملية .

وقد تجسدت هذه التداعيات بعزلة اجتماعية مقرفة ، سواء على مستوى الأسرة والأقارب، أو على مستوى الجيران، والمجتمع، وما نجم عنها من انفصام أسرى، وتفكك اجتماعي مقلق، حتى كادت تختفي في مجتمع اليوم، ظاهرة ترادف الأجيال، بانحسار التواصل الإجتماعي الحي، وغياب دفء الحس العاطفي معه، ناهيك عن تبني الكثير من المفاهيم والمصطلحات والترندات، التي تعج بها ساحة الفضاء الرقمي ، والفضائيات، ووسائل الاعلام المعاصرة، الأمر الذي أمكن تلمسه في تشويش واضح لمرتكزات أصالة الهوية، بعد أن طالت العولمة ، بآثار الكثير من تداعياتها السلبية، صميم حياتنا اليومية الراهنة، والثقافية، والمعرفية منها، بشكل مباشر ، حيث انسلاخ الجيل الجديد ، عن الكثير من العادات والتقاليد تدريجياً ، والانزياح في نفس الوقت عن الموروث الاجتماعي، بتبني مفاهيم ثقافة العولمة ، بعد أن تفاقمت فجوة الجيل، وغابت ظاهرة الترادف التقليدي بين الأجيال، مع الغزو الصاخب للعصرنة، الأمر الذي بات يهدد بتفكك البنى القيمية ، والاجتماعية، والدينية، وبما قد يقود إلى ضياع الأجيال، واستلاب معالم الهوية التراثية ، في قادم الأيام .

 1
شُعورُ الإنسان بالضغوطات الاجتماعية يُمثِّل واقعًا جديدًا ، يقوم على الربط بين العُمْقِ المعرفي للإنسان والبُنيةِ الجذرية للمجتمع . وكُلُّ واقع جديد هو بالضَّرورة منظومةٌ فكرية تشتمل على قواعدِ تفسير المعرفة الإنسانية ومَصَادِرِ الفِعْل الاجتماعي ، وإطارٌ تنظيمي يشتمل على أبعادِ السُّلوك الإنساني وعناصرِ النشاط الحياتي . وهذه المُكوِّناتُ الوجودية تُشكِّل ملامحَ هُوية الإنسان داخل المُحيطِ البيئي ، وتُجسِّد منطقَ اللغة الرمزي في الظواهرِ الثقافية المُتعلِّقة بأنماطِ الوَعْي ، والمفاهيمِ الوظيفية للجَوهرِ ( المَعنى الشمولي ) والهَيكلِ ( الفِكر الإبداعي) والنَّسَقِ (حقيقة البناء الاجتماعي). ومِن أجل منع الاصطدام بين عناصر المجتمع ومُكوِّناته، ينبغي تأسيس علاقات اجتماعية ذات طبيعة إنسانية ، تأخذ بعين الاعتبار حاجة الإنسان إلى الانتماءِ وتبادُلِ المشاعر مع الآخرين ، والارتباطِ بهم فكريًّا . وهذا مِن شأنه كشف تفاصيل الأجزاء المُتفاعلة في الأنساق الاجتماعية الظاهريَّة والباطنيَّة ، التي تُعْتَبَر شبكةً مِن الأنظمة العقلانية والروابط العاطفية والمعايير الأخلاقية . وإذا حافظت هذه الشبكةُ على تجانسها وتوازنها ، فإنَّ المُجتمع سَيُحافظ على التماسك والدَّيمومة وصَيرورة التاريخ . والتَّحَدِّيات الصادمة في هذا السِّياق ، تتجلَّى في كَون العلاقات الاجتماعية في غاية التعقيد ، والأدوات التحليلية للأفكار والمعاني شديدة التشابك ، والإنسان في سِباق معَ الزمن ، مِن أجل ابتكارِ آلِيَّات الوصول إلى فلسفة المعنى الاجتماعي ، وتكوينِ تطبيقات واقعية لتغيير الواقع ، وإنشاءِ تصوُّرات منطقية في عَالَم يَبتعد عن قُوَّة المنطق، ويَقترب مِن منطق القُوَّة. وهذه التحديات عبارة عن امتحان صعب لِقُدرة الإنسان، وإظهار لِمُستوى إمكانياته المعنوية والمادية .

ليس التقارب والرغبة في الفهم من قبل الألمان للعالمين العربي والإسلامي وليدي اليوم ووليدي مستجدات الحياة الاقتصادية بزخمها بل إن ذلك عريق يعود إلى زمن ما قبل غوته صاحب" الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"  والذي أطلق فيه مقولته الكبيرة المفارقة للأطروحة الاستشراقية العدائية :( إذا كان الإسلام يعني القنوت فعلى الإسلام نحيا ونموت).

 فالمثقفون الألمان الذين عنوا بمقاربة الثقافة العربية والإسلامية بغية فهمهما انصرفوا أولا إلى القرآن باعتباره دستور الثقافة العربية والإسلامية فأول ترجمة للقرآن إلى اللغة الألمانية تمت عام 1616 عن الإنجليزية، فالقرآن كما أسلفنا هو دستور هذه الثقافة من طنجة إلى جاكرتا ،غير أن الألمان لم يحبذوا الترجمة عن طريق لغة وسيطة أي عبر الإنجليزية أو الفرنسية بل النقل عن لغة القرآن الأولى العربية ، واحتفت هذه الأوساط بصدور أول ترجمة لمعاني القرآن إلى الألمانية عن العربية مباشرة بواسطة ديفيد فريدريش ميجيرلين ولو أنها ترجمة ناقصة ويعتورها سوء الفهم والمقصد كما يوحي العنوان المختار لها  "التوراة التركية أو القرآن"  مع صورة للنبي كتب تحتها  "محمد النبي المدعي" هكذا عنون ميجيرلين ترجمته وهي ترجمة رديئة وصفها غوته بالإنتاج البائس وقد كان غوته نفسه يعتمد في دراسة  القرآن على ترجمة تيودور آرنولد عن الإنجليزية، لكن أحسن ترجمة إلى الألمانية والتي توصف بالشعرية والجيدة هي ترجمة فريدريش روكرت عام 1843 فقد كانت شعرية حقا واقتربت كثيرا من روح القرآن.

لاريب أن تراكم العلوم والمعرفة، يعد من بين أهم وسائل التنمية والتقدم، حتى بات ما يمتلكه بلد ما من المتراكم منها في حوزته من المعرفة والعلوم، معيارا لمستوى تقدمه في شتى الميادين، العلمية والتقنية والصناعية والتجارية.
ولأهمية العلوم والمعارف المعاصرة، باعتبارها عنوانا للقوة، فقد دأبت الدول الصناعية المتقدمة على احتكار العلوم والمعارف والتقنيات، بما تراكم لديها من رصيد معرفي هائل يفوق التصور . ولهذا السبب فإنها حرصت على أن تكون مبدعة للعلوم والمعارف والتقنيات، ومصدرة لها إلى البلدان النامية في نفس الوقت، حيث سادت معاييرها المعدة بلغتها، واللغة الإنجليزية بالذات في التلقي، والتعاقد والاستخدام والتطبيق والتشغيل لدى المستهلكين، والمتلقين، مما عمق التبعية العلمية والمعرفية للأسواق العالمية.

 1
وظيفةُ العلاقات الاجتماعية هي استعادةُ الجَوهر الإنساني مِن تقلُّباتِ الحياة وانقلاباتِ المشاعر ، وتَحويلُه إلى واقع مُتفاعل معَ مركزيةِ اللغة في المجتمع ، ومركزيةِ المجتمع في تاريخ المعنى ، مِمَّا يُنتج ظواهر ثقافية حاملة للأفكارِ الإبداعية والرموزِ المعرفية والأسئلةِ المصيرية ، فتنتقل فلسفةُ السلوكِ الحياتي مِن الأنماط المُتوارثة والقوالب الجاهزة إلى البُنى العميقة في الأحداث اليومية والوقائع التاريخية ، وهذا مِن شأنه تحقيق التوازن بين الواقع والأفكار ، وتَوحيد القواعد التفسيرية للحقائقِ الاجتماعية والخصائصِ النَّفْسِيَّة والآلِيَّاتِ المُرتبطة بالرموز اللغوية . وعمليةُ التَّوحيد لا تعني إلغاء الطُّرُق الفَرْعية في فلسفة البناء الإنساني ، اجتماعيًّا ونَفْسِيًّا ولُغويًّا ، وإنَّما تعني مَنْعَ الطُّرُق الفَرْعية مِن طَمْس الطريق الرئيسي ، واستبداله ، والحُلول مَكَانَه . وكُل طريق _ سَوَاءٌ كان رئيسيًّا أَمْ فَرْعِيًّا_ يُمثِّل أهميةً بالغة في المنظور الاجتماعي على الصَّعيدين الواقعي والنظري، لأنَّ تَعَدُّد الطُّرُق الفكرية يُعطي زخمًا للجهود الإنسانية الرامية إلى بناء نظريات ثقافية تُعيد تفسيرَ حركة التاريخ، لتحويلها إلى طاقةٍ عقلانية تَربط بين السبب والنتيجة ، وطبيعةٍ لغوية تربط بين المَتْن ( مَركز المعنى التاريخي ) والهامش ( العُنصر المُغيَّب في التاريخ ) . وإذا قامت اللغةُ بتحليل العلاقة بين المَتْن والهامش في مسارات التاريخ، فإنَّ الإنسان سيصل إلى الحقيقة التاريخية، ويُعيد تَكوينَ الزمان والمكان ذهنيًّا.

- المشكلة الحقيقية الوحيدة في التاريخ هي مشكلة المفاهيم- .ب.فاين.
التاريخ بالتعريف المتواضع عليه، والشائع منه أقرب إلى الحسّ المشترك، هو دراسة أحداث وقعت في الماضي بهدف فهم الحاضر واستشراف المستقبل.
غير أن التعريف المباشر يخفي تعددية التحديد الإبستمولوجي للتاريخ، والمعرفة بموضوعه، وبأدوات إنتاجها، وهو ما قد يفسر تنوع التيارات والمدارس التاريخية، وتباين منطلقاتها النظرية، ومناهجها، ومقارباتها، وغاياتها، بل منها ما يطرح السؤال حول مشروعية الاعتراف بحقل فكري يستحق نعته ب "علم التاريخ" .
يعتبر المفكر بول فاينPaul Veyne أحد أبرز الباحثين الذين انشغلوا بمثل ذلك السؤال، وإذا كان لا يخفي إعجابه بإسهام مدرسة الحوليات وإضافاتها الجريئة، فإنه يرى في التاريخ نوعا من السرد الأدبي الذي يحاكي الكتابة الروائية، وواحدا من الانتاجات الفكرية غير المؤذية التي أبدعتها كيمياء العقل.

المجتمع بوصفه خيالا
مع البنينة الجديدة للمجتمع المغربي في القرن الثاني عشر الميلادي نتيجة التطور السياسي والاقتصادي وبروز طبقات وفئات أخرى، تطورت – كما سيكتب أكثر من مؤرخ- مظاهر البذخ والسمر والمجالس ، كما كثُرت السرقة والغش والتدليس، وانتشر – مثلما سيروي ابن عذارى- السحرة وأهل التخيّل والتنبؤ بالغيب، والذين يظهرون شيئا من غير فعله. وفي المقابل، كان الزهد والتنسك، وانتشرت رباطات وزوايا ومدارس في أهم المدن، بفاس ومراكش وأغمات ووريكة وقصر كتامة وسجلماسة وسبتة وسلا، وفي بعض البوادي أيضا، تعبيرا عن هذه التعددية التي يراكمها المجتمع في جميع الاتجاهات.
كان هذا التصادي والصراع الذي أفرزه المجتمع المغربي في العهدين المرابطي والموحدي، بين طبقتين متناقضتين، شرطا ضمن هذه التحولات، الأولى للحكام المدافعين عن العقيدة لما لها من تراتيبة اجتماعية، ومعهم أهاليهم ورجال الدولة وأرباب البيوت الكبرى وتوابعهم، ويلحق بهم فئة مقربة وسطى تضم الفقهاء والعلماء والأدباء والمغنين وبعض التجار والصناع؛ أما الطبقة الثانية فهي من عامة المجتمع،من الفلاحين والفقراء وأصحاب الحرف وعامة الشعب من المجتمع السفلي، ومعهم الأدباء والفقهاء والمتصوفة.