التاريخ ليس مجرد تتابع لأحداث متفرقة أو حوادث متوالية، بل هو نسيج معقد تشكله قوى عميقة وتحركات فكرية واجتماعية تصنع مصير الشعوب والحضارات. ولطالما كان فهم المحركات الكبرى للتاريخ الشغل الشاغل للفلاسفة والمفكرين، الذين سعوا لتفسير كيف ولماذا تتغير الأمم، ولماذا تزدهر الحضارات وتنحدر، وما القوى الكامنة التي تقود هذا المسار اللامتناهي من التبدّل والتحول.

لقد شهدت الفلسفة الغربية إسهامات متنوعة، حيث يُعد هيجل من أبرز الفلاسفة الذين قدّموا تفسيراً للتاريخ من منظور مثالي، عبر مفهومه الشهير "الجدل" أو الديالكتيك الهيجلي، والذي ينظر للتاريخ على أنه صيرورة من الأفكار المتصارعة والمتكاملة. فبالنسبة لهيجل، يقود الصراع بين الأطروحة ونقيضها إلى "تركيب" أعلى، مما يحفّز التقدم نحو حرية الروح وتطور الفكر الإنساني. وفي هذا السياق، يشير هيجل إلى أن التاريخ هو مسيرة نحو تحقيق الحرية المطلقة والعقلانية، إذ يرى أن الدولة تجسد "الروح المطلقة" التي تتجلى في الواقع المحسوس، ممهدة الطريق لفهم دور القيم والأفكار في تشكيل التاريخ.

لكن على الجانب الآخر، جاء كارل ماركس ليقدم تفسيراً مادياً لظواهر التاريخ، متجاوزاً المثالية الهيجلية إلى ما سماه بـ المادية التاريخية. فقد رأى ماركس أن التاريخ محكوم بالبنى الاقتصادية وأنماط الإنتاج، وأن الصراع الطبقي بين الطبقات المسيطرة والمهمشة هو القوة المحركة الأساسية للتغيير. وفقاً لماركس، تنتقل المجتمعات عبر مراحل تاريخية (مثل العبودية والإقطاع والرأسمالية)، حيث يُنتج كل نظام شروط زواله. إن الثورة والصراع الاجتماعي، في نظر ماركس، هما المحركان الأصيلان للتاريخ، حيث ينتهي الصراع الطبقي عند تحرر البروليتاريا وتأسيس المجتمع الشيوعي.

   تعتبر الذاكرة الثقافية شرطا أساسيا من شروط قيام الحضارة، ومن أسس نشوء وتبلور الجماعات البشرية عبر التاريخ. بحيث يمكن القول عموما بأنه لا حضارة ولا هوية حضارية بدون ذاكرة ثقافية.
 سأحاول في هذه الورقة أن أقف عند بعض جوانب الارتباط بين السينما المغربية والذاكرة الثقافية الوطنية. بأي شكل تصوغ السينما بوصفها واحدة من أهم الفنون الحديثة، كيف تصوغ علاقاتها بهذه الذاكرة الثقافية الشاملة؟ و كيف يؤسس الفن السابع، ضمن سياق خاص هو هنا السياق المغربي، تصورات ثقافية شاملة تجدد البناءات العريقة للذاكرة المغربية؟  

    1 - الذاكرة الثقافية .. محاولة للتعريف:

      يعتبر الباحث و الأستاذ الجامعي الألماني يان أسمان (1938 – 4202) الذي كان عالم حفريات متخصصا في التراث المصري القديم أهم من تصدى لهذا المفهوم بالشرح و التحليل حيث خصص له مؤلفا مستقلا بعنوان " (2)

       يميز أسمان بين أربعة أنواع من الذاكرة هي على العموم الذاكرة المحاكاتية وذاكرة الأشياء والذاكرة التواصلية، وبعد أن يعرف كل واحدة من هذه الذاكرات، يخلص إلى أن الذاكرة الثقافية تتميز بشكل خاص بكونها ترتبط أساسا بالمعنى. يقصد بذلك أنها تتجاوز المستوى النفعي المباشر للذاكرات الثلاث السابقة لترقى إلى مستوى أكبر يرتبط ببناء وترسيخ المعنى. هكذا عندما تأخذ الأفعال و السلوكات المحاكاتية وضعية " طقوس" rites أي عندما تكتسب معنى يتجاوز وظيفتها النفعية في الحياة اليومية، فإننا نخرج حينئذ من الميدان المرتبط بالفعل (أو العمل) و ندخل في ميدان آخر أرحب هو ميدان الذاكرة الثقافية. وذلك لأن الطقوس هي عبارة عن نمط لنقل ولتخليد المعنى الثقافي. و نفس الشيء بالنسبة للأشياء عندما لا تكتفي بأن تظل مجرد أشياء نافعة، فهي تشحن بالمعنى: رموز، أيقونات، تمثلات من قبيل شواهد القبور، قبور، أضرحة، أوثان، إلخ... هي جميعها تتجاوز أفق ذاكرة الأشياء، من خلال جعل المؤشر الزمني و الهوياتي المستتر، جعله ظاهرا و واضحا للعيان". والأمثلة على ذلك كثيرة بدءا من الميزان الذي يرمز للعدالة، والمنجل الذي يرمز لطبقة الفلاحين، والحمامة التي ترمز للسلام وكذلك الصفيحة والخاتم.. هذا مع العلم أن لكل حضارة رموزها الخاصة بها التي تشكل عمقها و ثوابتها الثقافية العميقة. (3)     

       انطلاقا من هذه المقارنات و التمايزات يتضح إذن بشكل جلي أن الذاكرة الثقافية حسب أسمان تستقر على نقاط ثابتة في الماضي. و حتى في ذلك، لا يمكن الحفاظ على الماضي على هذا النحو، ولكنه مجمد في اشكال رمزية تعلق بها الذاكرة. من ذلك يعطي أسمان على سبيل المثال قصص الأنبياء، و قصص الخروج، و عبور الصحراء، و الاستقرار في الأرض الموعودة، و المنفى، و هي هذه الأشكال الذاكرية التي يتم إحياؤها احتفاليا خلال الأعياد، والتي تضيء هذا الوضع أو ذاك في الوقت الحاضر. و يعتبر أن " الأساطير هي أيضًا أشكال و نماذج من صلب الذاكرة: هنا يصبح التمييز بين الأسطورة والتاريخ تمييزا عفا عليه الزمن. بالنسبة للذاكرة الثقافية، ليس التاريخ الواقعي هو المهم، ولكن التاريخ كما نتذكره. ويمكن القول أيضًا إن الذاكرة الثقافية تحول التاريخ الواقعي إلى موضوع للتذكر، وبهذه الوسيلة، تحوله إلى أسطورة. الأسطورة هي قصة تأسيسية، قصة يُطلب منها أن تضيء الحاضر في ضوء أصوله. (...) في الذاكرة، يصبح التاريخ أسطورة. فهو لا يصبح غير واقعي ؛ بل على العكس من ذلك، عندئذ فقط تصبح حقيقة، أي أنها تأخذ قوة معيارية وتكوينية دائمة ". (4)

يَنبت مثقّف المهجر بمثابة الفسيلة البريّة الباحثة عن حضور في تربة غير تربتها، وفي مناخ لم تألف النّماء فيه. ولذلك غالبا ما يفرض الواقع المغاير على المثقف المهاجر العيش على الأطراف، في هامش الواقع الجديد، بعيدا عن المركز وضوابط المؤسسة. فيقنع بالحفاظ على وجوده المادي مؤجلا أحلامه ومطامحه إلى أجل غير معلوم. وقد تَطول رحلة البحث عن الاندماج أو تقصر، وقد لا تأتي أبدا، فكثير ممّن تحدّثهم النفس بالهجرة لا يدرون عواقب ما تخبّئه الأيام. فليس المهاجر غير القانوني وحده من يُفْرط في الأحلام، بل يشاركه المثقف والدارس على حد سواء. فاللافت أنّ إغواء الهجرة يطمس الوعي ويهوّن من تقدير العواقب. لمستُ هذا لدى العديد من الزملاء الجامعيين وغير الجامعيين، العاملين في حقل الثقافة، ممن يتحفّزون للهجرة وكأنّ العملية نزهة عابرة.

ففي المهجر كثير من المثقفين السائبين، أكرهتهم أوضاع العيش الجديد على تغيير المسار، والتفريط في ما كان يشغل بالهم قبل الرحيل. لأنّ معركة تسوية أذون الإقامة، وترتيب الوضع القانوني، والعثور على شغل كريم، هي معركة ضارية ومتجددة، قد تستنزف المهاجر وتأتي على آخر ما تبقى لديه من طاقة وعزيمة. ومن الهيّن أن يتحول المثقف العائم إلى رصيد إضافي في عالم المهمّشين في الغرب، فيغدو شغله الشاغل اللقمة التي يسدّ بها رمقه والمأوى الذي يأوي إليه في الملاجئ الاجتماعية التي يلجأ إليها المهمَّشون حين تتقطّع بهم السُّبل. إذ يتصور كثيرون أن الهجرة منتهى الإنجاز، والحال أنّ المُهاجر كلّما قطع شوطا في المصاعب داهمته أخرى. وكثيرا ما يرتطم الحالمون بواقع غير متصوَّر يسلب منهم ما تبقى من روابط بعالم الثقافة والمثقفين، وقد زاد "كوفيد" الطين بلّة بما خلّفه من برود في العلاقات وجمود في الاتصالات وركود في عمل الإدارات.

فالملاحظ أنّ جلّ المثقفين الحالمين بالهجرة يأتون إلى الغرب محمّلين برؤى طهرية عن عالم البحث والإبداع والكتّاب والدراسات، تخلو من الواقعية وفيها الكثير من السذاجة أحيانا. على أساس أنّ ذلك الوسط يخلو من مساوئ الاستغلال والانتهازية والميز والتدافع المحموم، ويسود فيه تقدير المواهب والترحيب بالقدرات، بفعل رواج عديد الأساطير عن الغرب الحاضن والشرق الطارد. ويكفي أن يكون المرء جامعيا أو شاعرا أو كاتبا ليلقى الترحاب والتبجيل. لذلك يمنّي المثقف الحالم نفسه باندماج سريع في أوساط المثقفين الغربيين العاملين في مجالات الصحافة والتدريس والدوائر الثقافية والحقول الفنية وما شابهها. والواقع أنّ المتحكِمين بتلك القطاعات ما إن يتفطّن الواحد منهم إلى هشاشة الوافد الجديد وحاجته وعوزه حتى يتحول في عينيه إلى غنيمة. يُقرَّب بالقدر الذي يظيفه من تحسين لمشاريعهم الكتابية والبحثية والأكاديمية، وفي هذه النقطة تبدأ رحلة أخرى للمثقف المهاجر مع الابتزاز، تكون أحيانا قهرية ومفروضة. وقلّة من تنجو من هذا الوضع المزري، لأنّ الاستغلال الثقافي أسوأ على المثقف من الاستغلال المادي، يكابد فيه أبشع أنواع السخرة. ومن الغربيين المقاوِلين في حقل الثقافة، ولا سيما المستثمرين في ثقافة الشرق، من تُنتِج لهم الترجمات والدراسات والأبحاث، وقد يرفعونك إلى مقام رئاسة التحرير أو يدرجونك ضمن الهيئات الاستشارية في مراكز الأبحاث والدوريات. حتى ليَحسب الغافل أن إسهامه الثقافي يقوم على الاحترام والتقدير لشخصه، بوصفه شريكا في المنجَز. يتنبّه مع تراكم التجارب وتعدد الوقائع إلى فضاعة الاستغلال ودناءة الخُلق في حقل كان يحسبه مبرَّءا من المساوئ. وفي حقيقة الأمر ما المثقف الشرقي الهشّ سوى جسر للمرور عليه، وواجهة للعرض لا غير. وإن حدّثك القائمون على تلك المؤسسات طويلا عن قناعاتهم اليسارية الكونية، وأن الأحرار جميعا، في الشرق أم في الغرب، جبهة واحدة ضدّ الرأسمالية المتوحشة وضدّ تسليع المعرفة.

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" Benjamin Netanyahu في خطاب ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أيام من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة "هذا صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب". وقام بتكرار هذا الكلام في الخطاب الهزلي الذي ألقاه في الكونغرس الأمريكي في الرابع والعشرين من يوليو/تموز 2024. وكان نتنياهو قد أعرب عن هذه الفكرة مراراً وتكراراً، قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ــ وهي فكرة مفادها أن إسرائيل معقل للحضارة الغربية في منطقة غير حضارية ومتخلفة وبدائية.

إن ذكره لكلمة "الغابة" يذكرنا بتعبير إسرائيلي شائع، منسوب إلى رئيس الوزراء السابق "إيهود باراك" Ehud Barak قبل ثلاثة عقود من الزمن، مفاده أن إسرائيل "فيلا في الغابة". والغابة في هذه الحالة هي العالم العربي، والفلسطينيون فيه هم «غير الآدميون» بامتياز.

لكن الفكرة تعود إلى إلى المفكرين الصهاينة الأوائل. أراد "تيودور هرتزل" Theodor Herzl الأب النمساوي المجري للصهيونية الحديثة، إنشاء دولة يمكن لليهود فيها أن يكونوا في مأمن من معاداة السامية العنيفة التي واجهوها منذ فترة طويلة في أوروبا. لقد رسم رؤية لدولة يهودية في فلسطين من شأنها أن تمنح الحقوق المدنية للعرب الذين بقوا هناك (في مذكراته، طرح فكرة نقل البعض خارج الحدود). وقال إنه من خلال جلب الحضارة الغربية إلى المنطقة، سيعود اليهود بالنفع على العرب المحليين اقتصاديا وثقافيا - وأن الدولة اليهودية "ستشكل جزءا من جدار الدفاع ضد آسيا" وهي سنكون بمثابة موقع أمامي للحضارة ضد الهمجية.

تُعتبر أيديولوجية "البؤرة الاستيطانية للحضارة" هذه مفتاحاً لفهم كيف بررت إسرائيل تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم أمام الإسرائيليين والعالم، حيث استقر اليهود الذين لجأوا إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين. عندما تأسست إسرائيل عام 1948، تم طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني أو أجبروا على الفرار من منازلهم فيما يعرف الآن بالدولة اليهودية.

لكن منذ الأيام الأولى للدولة، كانت هناك فئة لم تقتنع بالتبرير: هم اليهود الذين لهم جذور في العالم العربي والإسلامي. يُطلق على هؤلاء اليهود اسم "المزراحيم" Mizrahi في إسرائيل، وهم اليوم أكبر مجموعة عرقية في البلاد. لقد هاجر معظمهم إلى إسرائيل بعد عام 1948، وخلال معظم تاريخ إسرائيل، كانوا ضحايا لنفس النوع من الأيديولوجية المعادية للعرب التي تُمارس ضد الفلسطينيين.

حين أصدر عالم الاجتماع الإيطالي سابينو أكوافيفا كتاب "أفول المقدّس في الحضارة الصناعية" (1961)، بدا حينها بمثابة النعي للدّين في مجتمعات أوروبية تحثّ الخطى نحو "اللاتدين" و"العلمنة". ولكن تداعيات العولمة على أوروبا في الزمن الراهن أملت إعادة نظر في صيغة العلاقة ومضامينها بين دائرة الإيمان الخصوصية ودائرة السياسة العمومية. لتلوح بوادر رهان على وظائف مغايرة للدين في مجتمعات تشرّبت العلمانية، وتعيش في أجواء مناخات ما بعد العلمانية. وهو جوهر ما تطرّق إليه كلّ من شارل تايلور ويورغن هابرماس في حقبتنا الحالية، عن شيوع نمط جديدٍ من التعايش بين الدين والعلمنة يتغاير مع ما ساد سلفًا. بما يحثّ على تجاوز النظر "العلمانوي" للحداثة، جرّاء حضور الدين في الفضاء العمومي الذي أضحى واضحا وجليّا.

ولربما لإحاطة أشمل بالموضوع، ينبغي تناول العلاقة المستجدّة بين الديني والسياسي ضمن إطار التحول الجاري داخل مرحلة تاريخية. فقد قيل إن الإنسان هو "كائن متديّن"، وقيل أيضا هو "كائن سياسي" أو "مدني"، والواقع أن الإنسان هو تلك العناصر وغيرها مجتمعة، بما يجعل المحدّدات القابعة خلف السلوك البشري لا تعرف الانحباس تحت لون واحد. وضمن السياق المسيحي، الغربي تحديدا، عاد في العقود الأخير مصطلح اللاهوت السياسي للتداول، وإن كان المفهوم يرمي بجذوره بعيدا في طروحات القديس أوغسطين الإفريقي. اُستعيدت الأطروحة في نطاق البحث عن إضفاء شرعية على الممارسة السياسية مع كارل شميت، وكذلك في نطاق التوظيف اليساري للدين مع لاهوت التحرر، وبالمثل في نطاق التوظيف اليميني المكثّف مع السياسات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس كارتر. لكن الملاحظ أن اللاهوت السياسي العائد يتّسم بطابعين: لاهوت سياسي عمودي على غرار ما يدعو إليه شميت، بحثا عن بثّ حيوية في النظام الليبرالي؛ ولاهوت سياسي أفقي، يمكن إدراج هابرماس وتايلور وتوكفيل ضمن أنصاره، يسعى إلى بناء توازنات مستجدّة داخل الفضاء العمومي.

والسؤال الذي يعنينا بالأساس هو ما معنى أن يطلّ الدين على السياسة في أوروبا اليوم؟ ليست المسألة أَنْجَلة للسياسة أو تسييسا للمسيحية بطريقة اقتحامية فجّة، وإنما تأتي العملية سياقية، يتعايش فيها أحد المكوّنَين مع الآخر بطريقة متداخلة وبطيئة، ويغدو الدين مخزونا أنثروبولوجيا معبّرا عن خصوصيات هوية وليس تعاليم عقدية أو منظورات لاهوتية صارمة.

إذ منذ محاوَرة البابا المستقيل راتسينغر الفيلسوف هابرماس في موناكو (2004)، تحت شعار "حوار العقل والإيمان"، طفت على سطح الفكر الأوروبي إرهاصات لافتة في علاقة الدين بالسياسة. وغدا الخطاب السياسي مستعيرا جملة من المفاهيم والمقولات الدينية، بعد أن كان حضورها ضئيلا أو منعدما. وفي الجوهر بدا سؤال إلى أين تجرّ العلمانية أوروبا حاضرا بقوة؟ لا سيما وأن مصائر العلمانية المتشدّدة، خصوصا في شكلها اللائكي اليعقوبي، جرّت فئات واسعة إلى العدمية وحكمت على مسارات ديمقراطية بالتميّع أو الخواء. فالغرب "البراغماتي" بدا متشكّكا من مؤدى خياراته طيلة العقود الفائتة. لا سيما وأن الجسم السياسي الأوروبي يتحرك داخل خارطة سياسية ذات مشارب إيديولوجية متنوعة، ويعبّر عن روافد شتى وتوجهات عدة تبلغ حدّ التنافر. كما أنه يشتغل داخل ضوابط سياسية يُطلَق عليها تجوزا العلمانية أو اللائكية، وهي في واقع الأمر نظام اشتغال ارتضاه الجميع، وبات متقاسَما بين سائر المكوَّنات بمختلف خلفياتها اليمينية واليسارية والدينية واللادينية.

يوجد عدد متزايد من السياسيين والمحاورين الأوروبيين الذين يرون الإسلام كدين يتعارض بشكل مباشر مع الثقافة الأوروبية، وبالتالي يعتقدون أن الإسلام يشكل عقبة أمام اندماج المهاجرين واللاجئين. اكتسب هذا الموقف زخماً بشكل خاص بعد الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001.

يتفق بعض المسلمين في أوروبا مع الرؤية التي قدمها "طارق رمضان" Tariq Ramadan استاذ الفلسفة الذي يقيم في سويسرا، الذي يرى نفسه مسلماً، ويعتبر أن كل شيء في الثقافة الأوروبية لا يتعارض مع الإسلام هو جزء منه.  عملت هذه المجموعة من المسلمين بشكل هادف لتطوير تفسير للنصوص الإسلامية وأسلوب حياة يجمع بين المبادئ الإسلامية، والقيم، والممارسات الأوروبية، والدنماركية. هذا ينطبق بشكل خاص على جيل الشباب من المسلمين الذين يريدون فصل المبادئ الإسلامية عن تقاليد آبائهم أو أجدادهم من دول مثل تركيا وباكستان والعراق.

يعتبر الإسلام الأوروبي Euro-Islam محاولة لتفسير الإسلام في سياق أوروبي حديث، بحيث يصبح من الممكن الحفاظ على تفسير إسلامي للحياة وهوية مسلمة آمنة وفي نفس الوقت المشاركة البناءة والفاعلة في المجتمع. وبالتالي فإن الإسلام الأوروبي هو إعادة تفسير للإسلام يأخذ في الاعتبار الظروف الثقافية والسياسية الخاصة والتاريخ الذي يميز أوروبا، ولكنه لا يزال قائماً على كتاب القرآن الكريم. إنه ليس نصاً دينياً أنيقاً أو مكتملاً أو برنامجاً محدداً تعمل جمعية أو منظمة لعموم أوروبا على تحقيقه. على النقيض من ذلك، يُنظر إلى الإسلام الأوروبي على أنه اتجاه أو حركة في أوروبا اليوم.

يتناقض هذا الاتجاه من جهة، مع المسلمين "العلمانيين المتطرفين" الذين يريدون تحرير أنفسهم من غالبية خلفيتهم الإسلامية من أجل الاندماج والتكيف تماماً في المجتمع الغربي. ومن ناحية أخرى يتعارض مع الجماعات الإسلامية المتطرفة الذين يريدون التحرر من الأعراف الثقافية والنظام الاجتماعي للغرب وتقويضها وإقامة دولة إسلامية بدلاً من ذلك.

المسلمون الثقافيون، والمعروفون أيضاً باسم المسلمين الاسميين، أو المسلمين غير الممارسين أو المسلمين غير الملتزمين، هم أشخاص يعتبرون أنفسهم مسلمين لكنهم ليسوا متدينين ولا يمارسون العبادات. قد يكونون أفراداً غير متدينين أو علمانيين. ما زالوا يتماهون مع الإسلام بسبب الخلفيات العائلية، أو التجارب الشخصية، أو التراث العرقي والوطني، أو البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا فيها. ومع ذلك، لا يتم قبول هذا المفهوم دائماً في المجتمعات الإسلامية المحافظة.

يمكن العثور على المسلمين الثقافيين في جميع أنحاء العالم، ولكن بشكل خاص في البلقان، وآسيا الوسطى، وأوروبا، والشرق الأوسط، وروسيا، وتركيا، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا والولايات المتحدة. وفي العديد من البلدان والمناطق، يمارس هؤلاء المسلمون الثقافيون الدين على مستويات منخفضة، وبالنسبة للبعض، ترتبط هويتهم "الإسلامية" بالتراث الثقافي أو العرقي أو الوطني، وليس مجرد الإيمان الديني فقط.

«معرفةُ أهميّة فهم دور المشاعر لا ينبغي أنْ يدفعنا إلى الظّن أنّ قيمة العقل أقلّ منها، ويجب أن يكتفي بمكان ثانويّ بجانبها، أو أنّه لا جدوى من أنْ يسعى إلى تطويرها. على العكس من ذلك، فإنّ إدراك الدّور الكبير الّذي يمكن أن يلعبه فهمُ المشاعر قد يمنحنا الفرصة لزيادة تأثيرها الإيجابي والحدّ من آثارها السّلبيّة المحتملة. وبشكل أدقّ، ودون الإقلال من قيمة التّوجيه الّذي قد يكون للإدراك العادي للمشاعر، يمكن توقّع حماية العقل من التّقلّبات الّتي قد يُدخلها الإدراكُ غيُر الطّبيعي للمشاعر (أو التأثيرات غير المرغوب فيها على الإدراك العادي) في عملية صنع القرار[1]»

«من المُضحك بنفس القدر الاكتفاءُ بمطالبة المشتغل بالرّياضيّات بالحجج المعقولة، ومطالبةُ الخطيب بالأدلّة العلميّة[2]»

فاتحة:

أَدَرنا المقالةَ الأولى الّتي خصّصناها لاعتراض العمري على الجابري حول الشّقّ "الإجماليّ" لذلك الاعتراض، وسنُدير المقالة الحاليّة على ما اعتبرَه اعتراضا متعلّقا بـ "الأجزاء والفروق والممهدات". وسنسلك نفس النّهج، فَنوزع فقراتها على عنوانين، الأوّل نُخصّصه لِصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ ونُفصّل في كلٍّ منهما. فَلْنَقرأ كلامَه أوّلا:

الملحق التّوضيحي:

يقول العمري: «هذا على الإجمال، أما بالنظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات الموصلة إلى تعميم الأحكام فإني لا أجد فيما فهمت من قراءة كل من الباقلاني والجرجاني ما يجعل الخطاب عند هذا مساويا للنظم عند ذاك. بل أميل إلى أن الباقلاني تلافى باستعمال كلمة خطاب استعمال كلمة نظم التي كانت شائعة في عصره وقبله عند علماء الإعجاز من الجاحظ (255ه) إلى الخطابي (386ه)، هروبا من مرجعيتها.

وإذا أضفنا إلى النص المذكور نصوصا أخرى من المبحث نفسه (بنية العقل 148-247)، فيمكننا أن نسجل عدم فهمنا لعدة أمور:

1- اختزال البلاغة في التشبيه

2- حصر مفهوم التشبيه في وجهة نظر عبد القاهر الجرجاني

3- ربط التباعد بين الطرفين بالانفصال والتجويز الناتجين عن البيئة العربية في حين أن عبد القاهر كان في منحاه هذا يصوغ نظرية المحاكاة الأرسطية حسب قراءة الفلاسفة العرب لها.

4- حين نتأمل وجهة نظر ابن سنان في القرب (قرب المأخذ) نصل إلى نتائج عكس التي وصل إليها تحليل الأستاذ الجابري.[3]»

ضمن تفرّعات التخصصات الدراسية الجامعية في إيطاليا، أطلّ في العشرية الأخيرة من الألفية الميلادية الثانية مسمى "الاستعراب" (arabismo)، بمدلول اقتصر على فئة المعنيّين بدراسة وتدريس العربية وآدابها حصرا، وهو ما لم تخض القواميس الإيطالية في تفصيلاته كثيرا. حتى وإن تحدّر كثير من هؤلاء "المستعرِبين" في تكوينهم من مشارب دراسية متنوعة: دينية، أو اجتماعية، أو مجالات ذات صلة بالمخطوطات والفنون العربية أو غيرها من التفرعات المنضوية تحت الدراسات الشرقية عموما. ولم تشمل فئةُ المستعرِبين الأساتذةَ والباحثين والدارسين من مختلف التخصصات الأخرى، المشتغلين بالثقافة العربية والمجتمعات العربية والتاريخ العربي، مثل علماء الاجتماع، والمؤرخين، وخبراء القانون الإسلامي، وعلماء الآثار، ومتتبّعي سائري الفنون والعلوم وغيرهم.

وعادة ما يعرّف المستعرِبون أنفسهم، كونهم شريحة علمية متجاوزة للاستشراق التقليدي (المورَّط في زعزعة ثقافات، والإسهام في تكبيل شعوب، والتحكم بمصائر مجتمعات)، ويسعون في تمييز أنفسهم -كلّما سنحت الفرصة- باستحضار الوجه السلبي للاستشراق، والزعم أنهم بصدد التجريب والاشتغال على تجاوز سقطاته. وليس رميا بتُهمٍ باطلة، ولكن استرجاعا لوقائع حاصلة، أن الفترة التاريخية التي نشط فيها الاستشراق أملت على كثيرين منهم أن يعملوا مخبرين ومستشارين وموظفين سياسيين في مؤسسات كولونيالية وفاشية وإمبريالية (انظر بشأن تورط المدرسة الأنثروبولوجية مع المستعمر الفرنسي كتابَ الفرنسي جان-لو آمسال، إسلام الأفارِقة.. النزوع للتصوف، منشورات ميلتيمي، ميلان 2018).

والبيّن أن مولد الاستعراب الإيطالي قد أطلّ منذ تسعينيات القرن الفائت، وبما لا يعني انتفاء تدريس ودراسة العربية وآدابها قبل ذلك التاريخ في إيطاليا، ولكن، بدايات التفرع الجديد -أو إن شئنا- التمرد على الآباء والسعي لبناء هوية أكاديمية جديدة. فقد خرج رواد الاستعراب في إيطاليا من عباءة المستشرقين، تعلّموا على أياديهم وخبروا أفكارهم ثم انشقّوا عليهم. وقبل التسعينيات كانت دراسات العربية وآدابها في الجامعة الإيطالية، قليلة العدد ضئيلة الأثر. توزعت بين أربعة أو خمسة مراكز رئيسة: في مدن بولونيا وروما ونابولي وباليرمو، إلى جانب مؤسسات تابعة إلى حاضرة الفاتيكان متواجدة في روما مثل "المعهد البابوي للدراسات العربية الإسلامية" الذي انتقل مقرّه من تونس إلى روما سنة 1964، وكذلك "المعهد البابوي الشرقي" في روما أيضا. ويمثُل المعهدان قطبًا على حدة يتبع حاضرة الفاتيكان والمؤسسات التعليمية البابوية. في حين الاشتغال الأهم للأبحاث والدراسات والكتابة بخصوص الشرق، فقد كان يجري في أحضان مركزين، شبه حكوميين، تأسسا وتطورا منذ عقود سابقة، مع بروز حاجة النظام الفاشي للتشوف نحو إفريقيا والعالم العربي، وهما "المعهد الإيطالي لإفريقيا والشرق" (Isiao) و"معهد الشرق كارلو ألفونسو نللينو" (Ipocan)، ففي هاتين المؤسستين جرى التركيز على دراسة اللهجات العربية، وبداية إعداد القواميس العربية، وكتب النحو، وأنطولوجيات الأدب والشعر العربيين، هذا فضلا عن تقديم المشورة السياسية والمعرفية لمختلف الأنظمة والحكومات المتعاقبة التي شهدتها إيطاليا منذ مطلع القرن الفائت تقريبا. وإن كان المعهد الأول قد توارى منذ ما يزيد عن العقد، فقد ظلّ المعهد الثاني بؤرة علمية نشيطة إلى اليوم بخصوص الثقافة العربية ورصد مساراتها.