يتمحور كتاب "أوروبا صانعة التحول في العالم" حول المسألة الاقتصادية، وتحديدا حول الريادة الأوروبية في هذا المجال الحيوي والحاسم في التطور الحضاري. حيث تحاول أستاذة التاريخ الاقتصادي الإيطالية فيرا زامانيي تفسير تلك الريادة من خلال تتبّع التطورات الحاصلة في هذه القارة على مستوى تنامي القوة الاقتصادية، ومن ثَمّ تسرّب تلك التحولات التنموية وانتشارها في كافة أرجاء العالم. ومقارنة تلك الريادة بما حصل من محاولات مماثلة في حضارات أخرى، لم يسعفها الحظ في تحقيق انتشار واسع أو بسط هيمنة فعلية، وكذلك لم تكن مغرية حتى تُقلَّد أو تُحتَذى خارج مجالها الذي تشكّلت فيه. إذ ثمة تساؤل مطروح في الأوساط العلمية ألا وهو لماذا حصلت الثورة الصناعية في أوروبا دون غيرها من الفضاءات، مثل آسيا أو إفريقيا، برغم وجود حضارات عريقة وغنية حازت تقدّما تقنيا وعسكريا في زمانها؟ فيرا زامانيي في إجابتها عن هذا السؤال تدعم أطروحتها حول ريادة أوروبا بإبراز محورية التطور الحاصل على مستوى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما على مستوى القيم التي تمثّل الدافع المتين المتواري لتلك التحولات. حيث تضافَرَ التقدّم في أوروبا مع اقتراب من تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية (الحقوق) وترسيخ مبدأ المساواة الاقتصادية (الرفاه الاجتماعي).

تهزّ أوروبا أزمات دورية في علاقتها بمسلميها، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضية إلى أخرى. وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المسلمة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عملية لها. إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثقافي وسط ملايين المسلمين المقيمين والمستوطنين في دول القارة، البالغ عددهم زهاء الثلاثين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التعويل على ذلك الجانب الرمزي أو الاستثمار فيه. فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثقافي، في ما له صلة بالثقافة العربية، وهو ما انعكس ضبابية، وأحكاما مسبقة، وخوفا، وريبة، ونفورا، بين المكوَّنات الاجتماعية "الدخيلة" و"الأصيلة".
والسؤال كيف السبيل الخروج من أسْرِ التوتر الدوريّ في علاقة المسلمين الأوروبيين مع واقعهم الغربي؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي مسلمي أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارة، أكانوا ممن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممن هم في طور الاندماج. إذ ثمة مراجعات وتساؤلات حول هوية المسلمين الأوروبيين، ولا نقول المسلمين في أوروبا لأن الغلبة ستؤول للشقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعية. فالإسلام الديناميكي، وحده القادر على مراعاة الغيرية، وطمأنة الآخر، وبثّ الثقة لديه. وهو الرهان الفاعل والحاسم، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة. ولِيُحاصَر ذلك التنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين. فليست أوروبا وحدها أمام هذا الاختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب "الدخيل" وهضمه، بل الجموع المسلمة أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.

يحرص لفيفٌ من الكتّاب على نقلِ أعمالهم الإبداعية إلى اللغات الأجنبية، طمعًا في كسب وجاهَة في الداخل وأَلمعيّة في الخارج، أو كما لخصّ لي أحدهم الأمر "لِنيْل الشهرة وبلوغ العالمية، وقد بلغها من هو دونه باعًا وأبخس إنتاجًا". وكأنّ اللغة التي صاغ بها الكاتب نصّه عرجاء لا تفي بالغرض، ما لَم تتلحّف بألسنِ الأعاجم حتى يشقّ صاحبها غمار العالمية. الواقع أنّ في استبطان العربية، أو غيرها من اللغات محدودية، مع بعض الكتّاب، تكمن علاقة مضطربة وغير سويّة للكاتب مع ثقافته، ومع لسانه. تقوم على أساس تهميش ذاتي، ينبني على إعادة تدوير ثقافية بائسة لمفهوم المركز والهامش، يضع فيها الكاتبُ لسانَه وإبداعَه في خانة الألسن والإنتاجات الوضيعة. والحال أنّ الإبداع بأيّ لغة كانت، ينبغي أن يُثمَّن ويُقدَّر على ما هو عليه، بوصفه استجابة طبيعية لنداء باطني. واختيار أيّ لغة للكتابة، ليس مدعاة للفخر ولا هو سبب للنقيصة، لأنّ الإيمان باللسان الحامل للإبداع هو أوّل شروط التعامل السويّ. حيث يتصوّر الكاتب الواقع تحت إغراء العالمية، أنّ النصَ المدوَّن بلغات غربية تحديدًا، أو في مستوى آخر المترجَم إلى تلك اللغات، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام صاحبه لارتقاء المنابر العالية، وهي تهويمات خاطئة تتطلّب التفكيك والدحض.

كتاب "هجرة الأفكار" ذو الحجم المتوسط من تأليف الأستاذ الجامعي المتخصص "جلبرت هايت"، كتاب ينهض على طرح أساسي مفاده أنه ليس ثمة حضارة بشرية قائمة أو مكتفية بذاتها، باعتبار أن كل حضارة تتغذى على حضارة أخرى، ومن ثم فإن المنهج الأمثل لدراسة التاريخ هو رصد حركة انتقال الأفكار وهجرتها من مكان إلى آخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى: "إن فترة تقدم الحضارة هي فترة تنتقل فيها الأفكار بحرية من عقل إلى عقل ومن بلد إلى آخر، ومن الماضي إلى الحاضر.. أما العصر البربري، والبلد الهمجي فهما اللذان يحاولان شل الإتصال، وحبس الأفكار..."
نماذج ملهمة لانتقال وهجرة الأفكار
لقد استهل مؤلف الكتاب تعداده للنماذج المعبرة عن التمازج الفكري بإحدى الحضارات الرائدة في عالم اليوم وهي اليابان، فقد عرفت تلك الدولة تغييرا جذريا منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر تجسد في تليينها للتقاليد المتجذرة في رفض الأجانب وكراهيتهم من خلال انفتاحها على العالم الغربي عبر إيفادها لبعثات طلابية إلى أوروبا واستقطابها للكفاءات الأجنبية في مسعى لتملك ناصية المعرفة والعلوم واللحاق بالركب الحضاري، دون المس جذريا بخصوصيتها الثقافية والإجتماعية. وقد أصدر إمبراطور اليابان في عام 1868 مرسوم القسم الذي تعهد من خلاله بإصلاح أحوال الشعب، وقد ورد في عبارته الأخيرة: "سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم".
ويصدق ما سبق قوله على الرومان الذين متحوا من مناهل الحضارة الإغريقية وفتنوا بها بعد غزوهم لليونان في القرن الثاني ق. م، بحيث أخذوا من الإغريق شغفهم بالعلوم والفنون والفلسفة وحبهم الشديد للحكمة، وأضافوا إلى حضارتهم مزايا أصيلة عند الرومان خاصة فيما يتعلق بالقانون والدين وحسهم الوطني المرهف، إلى جانب تقديرهم للمسؤولية. كما أن الأمم الأوروبية تدين بالكثير من الفضل للرومان الذين ساهموا في تحضيرها: "فقد وجدتهم روما قبائل مبعثرة تعيش في العصر الحديدي الأول، أميين فقراء.. فعلمتهم في حقب قليلة، الزراعة والتجارة والفن المعماري والصناعة، كما علمتهم في حقب أخرى، القانون والفلسفة والأدب والدين..."
وسرعان ما ينمحي الإنطباع الذي يخالج القارئ بأن الكاتب من دعاة المركزية الغربية والتفوق الحضاري للعالم المسيحي، حين يشير إلى فضل الحضارة العربية على الأمم الأخرى وبخاصة إسبانيا التي لا زالت إلى حدود اليوم مشدودة إلى الإرث العربي والإسلامي، وهو ما يمكن تبينه في الغناء والشعر الإسباني وبعض العادات الإجتماعية الأخرى: "وكان العرب أكثر حضارة في ذلك الوقت، ومن المحقق أن حضارتهم كانت أكثر تماسكا، وكان العرب يحبون الموسيقى والشعر والملابس الجميلة والعمارات الفاخرة والحدائق والأثاث الفخم والفلسفة. وفي غضون أحقاب قليلة، اعتنق كثير من الإسبان الإسلام، حتى أولئك الذين استمسكوا بالمسيحية كانوا يرتدون الثياب العربية في بعض الأحايين، ويعجبون بالجمال العربي، وطريقة العرب في الحياة..."
حوافز التلاقح الحضاري وحدوده
لقد اهتم علماء النفس والإجتماع باستكشاف الدوافع والحوافز التي تدفع أفراد جماعة اجتماعية معينة إلى قبول أفكار أجنبية وغريبة على ثقافتهم، ومن بين تلك الدوافع التي توصلوا إليها دافع الخوف، فالخوف من التعرض لغزو الأجانب كان وراء انفتاح اليابانيين على الأجانب من أجل التوفر على أسباب القوة والتمكين الذاتية، هذا إلى جانب حافز الكبرياء، ذلك أن الإلمام بأفكار أجنبية يضفي على الفرد المنتمي إلى جماعة أو بيئة داخلية الإحساس بالتفوق على أقرانه والشعور بامتلاك ثقافة رفيعة، دون إغفال حافز المتعة الذي يبرز في السعي إلى تملك وسائل الراحة والرفاهية المستوردة كالإقبال الواسع على استهلاك التدخين وشتى وسائل الترفيه مثل إصدارات السينما العالمية. كما قد ينحصر الدافع في الفضول المعرفي أو العلمي لذاته وبدون أن يكون مصحوبا بالحوافز السابقة.
غير أن عملية التمازج الحضاري التي تعد حقيقة تاريخية يصعب دحضها، تظل رهينة بمدى ونطاق العناصر المشتركة بين ثقافتين أو ثقافات متعددة من حيث الإتساع أو الضيق، ويورد الكاتب مثالا بالفروق الهائلة بين ثقافة الأمريكيين البيض وثقافة الأمريكيين من أصول أفريقية كإحدى العوامل التي تصعب الإندماج الإجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة ثانية، يقر علماء الأنثروبولوجيا بصعوبة التأثير في الجوانب غير المادية للثقافة مقارنة مع جانبها المادي، بدليل ما نعاينه في عالمنا العربي والإسلامي الذي يتهافت على أحدث الإبتكارات والإختراعات الغربية، بينما يصم آذانه عن القيم والمفاهيم المنتمية إلى منظومة الحداثة الغربية بدعوى تعارضها مع الخصوصية الثقافية، ومن هنا يمكن أن نلمس الفرق بين العصرنة والحداثة التي تحيل إلى إصلاح عميق يطال منظومة الأفكار والوعي الإجتماعي.
ومن منطلق اعتداده بالإرث اليوناني والروماني ودورهما في ازدهار الحضارة الغربية، لا يخفي مؤلف الكتاب حسرته عما آلت عليه أحوال الثقافة الغربية التي فقدت عمقها وامتدادها التاريخي، نتيجة لنزوع العديد من دعاة الحداثة إلى قطع الصلة مع المعارف والفنون الأدبية الكلاسيكية، وهو ما يفسر شيوع الرداءة والتفاهة في غير قليل من التعبيرات الفنية والأدبية الغربية، بفعل انتشار اعتقاد زائف لدى فئة من المعاصرين مفاده أن شرط الحداثة والتقدم هو اجتثاث الجذور التي تصلنا بماضي أسلافنا.

يفتتح الخبير الإيطالي في الشأن الفاتيكاني ماركو بوليتي كتابه المعنون بـ"البابا فرنسيس في عزلته" بفصل يتمحور حول مفهوم الألوهية عند البابا فرنسيس (برغوليو)، بعيدا عن الصياغات اللاهوتيّة الجامدة، بشأن الألوهية. مستعرضا الكاتب محاولات فرنسيس بناء معتقد حيوي منفتح، يرفض الانغلاق السائد والمزمِن في تصوّرات الكنيسة الكاثوليكية. ثمة تشاركية عَقَديّة يودّ فرنسيس ترسيخها في أوساط الكاثوليك خصوصا. إذ يدرك الرجل أنّ أتباع الكنيسة الكاثوليكية ممّن تربّوا داخل الكاتكيزم (أي التلقين الديني) قد تشبّعوا بما فيه الكفاية بأنّ معنى "أبناء الربّ" في المدلول الكاثوليكي الصرف، يعني المعمَّدين على الطريقة الكاثوليكية لا غير، وأن ما دونهم من أتباع المسيحيات الأخرى على ضلال، دون أن نتطرّق إلى أتباع الأديان الأخرى من مسلمين وهندوس وبوذيين وكنفشيوسيين بوصفهم أكثر من ضالين، وممن ينبغي جلبهم إلى المسيحية بكافة الطرق. هذا المفهوم العقدي الضيق السائد في التصورات الكاثوليكية، والمتمركِز حول مفهوم كريستولوجي للاعتقاد، يقلق البابا الحالي. ففي عصر الانفتاح والتواصل والتجاور الذي يعيشه عالمنا ما عاد الاعتقاد على ذلك النّحو الكاثوليكي الجامد مواكبا لتطورات التاريخ. يحاول فرنسيس إعادة بناء مفهوم الاعتقاد في الضمير المسيحي لاستيعاب التقاليد الأخرى بعيدا عن الهيمنة المتجذرة في التصورات الغربية، بأنّ الغرب على صواب وما دونه من حضارات أخرى على خطأ. ثمة رفض للسّكنى في العمارات اللاهوتية الجاهزة لدى البابا فرنسيس، كما يقول ماركو بوليتي. وتحوير زاوية النّظر العَقَدية للآخر من قِبل البابا ليست شيئا بسيطا أو هيّنا، وهو ما يخلق عزلة عَقَدية لفرنسيس في بيته وداخل كنيسته.

أعادت الأوضاع المتوترة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، لا سيما في العراق وسوريا، تحريك مسألة الأقليات والطوائف في الأوساط الدينية والسياسية الغربية. وتم التعاطي مع المسألة بشكل غلب عليه طابع الإثارة وافتقر إلى الروية. جرى في غالب الأحيان تصوير العالم العربي بمثابة فضاء طارد ومعاد لمكوناته الدينية غير العربية وغير المسلمة إمعانا في تجريده من رصيده الخلقي. والصورة فيها تلاعب فجّ لا ينصف المتضررين، مع حصول انتهاكات فظيعة بشأنهم في الفترة الأخيرة، ولا تردع الظالمين، بل تسيء إلى العرب أيما إساءة. هذا الكتاب الذي نتناوله بالعرض يأتي ضمن موجة الانشغال بأقليات البلاد العربية لاسيما منها المسيحية. وقد آثرنا عرضه نظرا لخطورة مضامينه، ولما يُعبّر عنه من مواقف تجاه التاريخ المشرقي عامة والواقع السياسي العربي راهنا، ولما يحوزه مؤلفه من موقع داخل حاضرة الفاتيكان. فهو من تأليف الكردينال فرناندو فيلوني، من مواليد 1946 بمندوريا الواقعة جنوب إيطاليا. الرجل يُعتبر من الوجوه البارزة لدبلوماسية حاضرة الفاتيكان، حيث شغل منصب القاصد الرسولي في العديد من المناطق خارج أوروبا، في إيران وهونج كونج والصين والفلبين والبرازيل، فضلا عن تقلّده مهام دبلوماسية في الأردن والعراق. بالإضافة إلى تولّيه مناصب حساسة في حاضرة الفاتيكان، حيث يشغل، منذ العام 2011، منصب مفتش أنجلة الشعوب، وهي أعلى الهيئات المعنية بالتبشير على نطاق عالمي.

"الحديث لدينا في اليهودية لا زال يدور حول "بروتوكولات حكماء صهيون" ولم يرتق بعد إلى حديث أكاديمي"
* بادئ ذي بدء هل تعرفنا في نبذة يسيرة عن مسيرتكم البحثية والمعرفية إلى حد الآن؟
أشتغل منذ ما يربو على ثلاثة عقود في حقل الديانات، أي منذ التحاقي للتحصيل العلمي بالجامعة الزيتونية بتونس سنة 1986، وقد كان التركيز على تراث الديانات الثلاث بشكل خاص (اليهودية والمسيحية والإسلام). فقد أدركت مبكّرا تردّي الكتابة العلمية في هذا المجال في الثقافة العربية الحديثة، الأمر الذي جعلني أنحو للإلحاح على المنهج العلمي في أعمالي لتمييز المعرفي من الإيديولوجي، أو بشكل أدق لتمييز الدراسة الداخلية عن الدراسة الخارجية للدين. فقد كانت دراستي اللاهوتية الثانية في الجامعة البابوية الغريغورية وجامعة القديس توما الأكويني بروما، حافزا لي للسعي للفت انتباه أبناء حضارتي العربية الإسلامية، رغم أني إيطالي الجنسية، إلى التطورات العلمية والبحثية في هذا الحقل لدى أهالي الغرب، الذين أعيش بين ظهرانيهم. فليس من اللائق أن نزعم أننا حملة حضارة منفتحة ونبقى على تدني معرفي بالآخر.

يحسب المرء التجسّسَ، كنشاط منظَّم تابع لأجهزة سياسية وأمنيّة، ظاهرةً حديثةً رافقت أوضاع العالم الراهن، سيما بعدما شهده التاريخ المعاصر من تدافع حادّ بين الكتلة الاشتراكية والكتلة الرأسمالية، وما خلّف ذلك من تنافس محموم على الفوز بمعلومات حسّاسة عن الخصم في شتى المجالات. وقد زاد من إلحاق الظاهرة بالتاريخ الحديث الضجيج المرافق لوقائع أنشطة التجسس في الإعلام وداخل أقبية السياسة فضلا عن ندرة الأبحاث في الموضوع في عهود سابقة. فالتاريخ السياسي الحديث، في الشرق أمْ في الغرب، مطبوعٌ بسلسلة من الدورات المتلاحقة لأنشطة المخابرات، متنوّعة الأشكال والتداعيات، تبلغ أحيانا حدّ العصف بعلاقات الصداقة والوئام بين الشعوب لأثرها البالغ في تعكير صفو العلاقات بين الدول. ولعلّ أشهر أجهزة المخابرات والجوسسة في التاريخ المعاصر: "السي آي ايه" في أمريكا، و"الدُّوزيام بيرو" (المكتب الثاني) في فرنسا، و"السيم" في إيطاليا، و"الكا جي بي" في روسيا، و"الموساد" في إسرائيل، و"السافاك" في إيران البهلوية، وإن غلبت على مرادف أنشطة تلك الأجهزة في بلدان أخرى من عالمنا تسمية "البوليس السياسي".