" هل يمكن أن نكتب بحثا متماسكا عن الشخصية المغربية؟
لقائل أن يقول يا أيها المؤرخ نحن لا نسألك عن الطباع والوجدانيات التي لا جدال في أنها مثل الرياح لا تستقر على قرار، ولكن نسألك عن الشخصية المغربية التي هي لباب كل ذلك.. وعن الثوابت التي تجعل المغربي يدرك عن وعي أو غير وعي بأنه يختلف عن باقي الأقوام فيترتب على ذلك قدرة الأجانب على تمييزه هم أيضا عن كل شبيه به. أليس دور المؤرخ استخراج الثوابت من المتغيرات علما أن..التغيّر هو السر الذي لا يتغير؟".
المؤرخ ابراهيم بوطالب(تاريخ المغرب الحديث والمعاصر،ج1،ط1،2014،ص.217).
التساؤل عن النفسانية المغربية والشخصية المغربية موضوع عاد إليه المؤرخ الطيب بياض بطموح كشف الضوء عما تراكم أسفل طبقات البنيات العميقة وضمن منظور الزمن الطويل وتاريخه البطيء، وبعنوان درس افتتاحي بنفس بحثي قدمه برحاب جامعة الحسن الثاني يوم 09 يناير2024 .
ولتعميم المعرفة التاريخية صدر الدرس في كتاب تحت عنوان" الشخصية المغربية، تأصيل وتأويل" عن منشورات باب الحكمة، سنة2024 .
يقع الكتاب في 91 صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن توطئة عرضها خالد الحياني أستاذ علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ومدير المكتبة الجامعية محمد السقاط، كشف فيها سياق اختمار الفكرة وتطور المشروع الفكري حول الموضوع لدى المؤرخ الطيب بياض من زاوية بحثية من صميم اهتمامات المؤرخ .
بعدها يأتي الموضوع وفق منهجية تصاعدية وعبر محاور كبرى :
- مقدمة
- في تقديم الإشكالية وعدة معالجتها
- ولادة مبكرة وتشكل في الزمن الطويل
- بصمة الاسلام وصدمة الحداثة
- عصر الازدواجية أو مغرب الثنائيات
- استشراف أفق أو في معنى أن تكون مغربيا
ثم بيبليوغرافيا وفهرس.
نقدم هنا لقراء مجلة أنفاس التأطير الإشكالي لموضوع الدراسة .
إشكالية الموضوع وأدوات المعالجة:
يفتتح الأستاذ المؤرخ الطيب بياض الدرس بتوطئة يعلن فيها الصعوبة المنهجية في مناولة موضوع الكتابة حول الهوية والانتماء للوطن والأرض دون الوقوع تحت ضغط الثنائية الثابتة لعنصري الذات والموضوعية، واستحالة المعالجة المخبَرية للموضوع بحياد وببرودة دم.
تستدعي الكتابة حول الذات والهوية حسب المؤرخ كتلة المشاعر والعواطف المستبطنة تجاه موضوع الانتماء بأبعاده الممتدة من قلب البيت الأسري إلى المسكن المشترك الجامع بالمدينة والبادية، وهو ما لا يجوز إغفاله لتقليص منسوب تأثيره على الذات وهي تتناول الموضوع دراسة ومبحثا، ولضمان قدر من المصداقية في المعرفة التاريخية المنتجة.
لذلك يرى المؤرخ أن فعل الكتابة التاريخية حول موضوع الهوية والذات والوطن والأرض هو أقرب عنده من تمرين تأويلي بكل ما يحتمله من مطبات ومخاطر خاصة مع تأطيره ضمن المدة الطويلة وبقضايا متشعبة، وسيكون تدقيق الإشكالية بنوع من الصرامة النظرية والمنهجية صمّام الأمان وبوصلة الموضوع.
ما معنى أن تكون مغربيا؟ هو السؤال التأطيري العام ومدخل التقديم الإشكالي للموضوع، وقد استتبع من المؤرخ محاذير منهجية لا يمكن إغفالها تنطلق من تجدد السؤال حول النعت الذي وصف به شارل أندري جوليان المغرب ب"الجزيرة" وعلاقة المدنيات التي تعاقبت عليه كما لو أنها بالنسبة لأهل الأرض مجرد ثياب متغيرة لنفس الجسد والروح حتى اللحظة التأسيسية مع قدوم ادريس الأول حسب ما ذهب إليه المؤرخ دانييل ريفي. (تحقيب سيعمل المؤرخ على تجاوزه وببراهين نظرية ومنهجية).
كما وجب التذكير بالتنبيه المنهجي الذي قدمه العروي لتفادي "تقنية الإسقاط التاريخي" وتفسير تحولات أو طفرات تاريخية أو واقعا تاريخيا متأخرا انطلاقا من حقب سابقة أو تطورات لاحقة، وهو ما أسماه المؤرخ ابراهيم بوطالب" الأناكرونية" سواء في شقها المفاهيمي أو أبعادها ووحداتها الزمنية التحقيبية، ما يستدعي من المؤرخ الانحياز إلى قواعد الصرامة والالتزام وعدم استسهال التأليف التاريخي واستعمال المصطلح في التاريخ دون وازع ابستيمي.
ولأن طموح المؤرخ في موضوعه هنا يروم الإسهام النوعي وإضافة الجديد، بعد فحص واطلاع على ما تحقق فيه من تراكم باستراتيجيات ورهانات متعددة (استعمارية -وطنية) ومداخل معقدة (علمية -إيديولوجية)،فقد اختار سبر أغوار الموضوع وفق مدخلين:
-المدخل الوثائقي (الوثيقة بمعناها الواسع)
-المدخل المنهجي .
وإذا كانت الأبحاث الأركيولوجية قد أماطت اللثام عن كثير من المعطيات، وعبر مختلف المراحل والفترات (ما قبل التاريخ - التاريخ القديم -التاريخ الوسيط -التاريخ الحديث..) وأسهمت في تصحيح عدد من المغالطات والأحكام في تاريخ المغرب وتكوين شخصيته، فقد اختار المؤرخ استثمار نتائجها العلمية بغرض بناء المعرفة التاريخية والتقعيد للشخصية المغربية ضمن مسار بحثي بنفس منهجي تكثيفي وتركيبي أمله" الظفر بخيط هاد إلى رصد مخاض الولادة " ورصد أطوار تشكّل الشخصية المغربية ومراحل التحول .
وإذا ما كان عبد الله العروي قد شغله هاجس البحث والكتابة عن "سيرورة فكرة المغرب" واستعماله كلمة المغرب بالمعنى التطوري الحَرَكي، فإن المؤرخ هنا في درسه قد اختار منظورا مغايرا يبحث في اللحظات البعيدة وزمنها السحيق ويرصد معالمها التي تشهد بوجود قاطن الأرض والفاعل فيها وعليها منذ عهود عميقة جدا تنتمي للزمن الطويل وبنياته شبه الراكدة، وتدل عليها آثار الإنسان العاقل في جبل إيغود قبل 300.000سنة،وإن " لم يكن يَعرِف نفسه أنه مغربي، أو يُعرف نفسه بالمغربي".
يستشهد الباحث بالمؤرخ فرناند بردويل في تأكيده على مدى صعوبة قبول المؤرخ في مهنته للمدة الطويلة وطبقاتها ذات التاريخ البطيء، وما تحتمه عليه من تغيير في التفكير التاريخي وتجديد في الأسلوب والاتجاه، ويختار البدء من حيث انتهت إليه الأبحاث الأثرية لخوض غمار البحث في تشكل الشخصية المغربية في أرض ظلت بمثابة "مصهَر" لم يتوقف عن تجدد الولادة والتطور الدائم.
وقد وجد المؤرخ هنا في "نظرية التخوم" للأمريكي فريدريك جاكسون تورنير ما يؤكد على أن الأطراف المجالية وتخوم الأرض التي قد تبدو منغلقة هي ما يمثل قاعدة صناعة الهوية وانفتاحها وتجددها، وهو ما كان عليه الحال في المسار التاريخي لدولة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شكل الغرب الأمريكي عنصر تصليب في مسار هوية الإنسان الأمريكي ومصدر الانفلات و"التحرر من المهماز الأوربي" ما بين شرق الأطلسي والأبلاش، في تحولات معقدة تأثرت بعوامل الجغرافيا والمجتمع والثقافة، وتطورات تفاعلت فيها الشخصية الأساسية للإنسان الأمريكي والشخصية الوظيفية، ويقر "ف.تورنير" أن كل مجتمع له نموذج خاص للشخصية الأساسية ومجموعة خاصة من الشخصيات الوظيفية.
ومع الاجتهادات النظرية التي جاء بها عالم الاجتماع ب.بورديو دخل مفهوم "الهابتوس" ضمن نسيج التحليل في فهم السلوكات الفردية والممارسات الجماعية والإمساك بالمستبطن فيها، ومنه كان للمؤرخ أن يبحث في "طوابق تاريخنا البطيء" ويستجلي معالم الشخصية المغربية والنفسانية المغربية(بتعبير العروي) في تفاعلها مع أرض طالما بدت في الظاهر "محطة نهاية السير للقادم من الشرق" ومثلت ملتقى الحضارات، والحاضنة "لبوتقة الانصهار بالقوة وبالفعل".
ينفي المؤرخ في تقديمه الإشكالي عن الموضوع هاجس "البحث عن الأصول" ومتاهاتها، مؤكدا ابتعاده عن السجال والترافع لفائدة طرح سياسي أو إيديولوجي بعينه، وعدم الارتهان للأفكار الجاهزة، حيث المسعى دراسة الشخصية المغربية والبحث عن "بنية ذهنية تشكلت من طبقات متراكمة أنتجت هابيتوس شارح" لتلك الشخصية ومميز لها.