بعيدا عن القُبح، قريبا من الجَمال – نص: عبد الهادي عبد المطلب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"الجمال يولد بأشكال عديدة، فقط غيّر زاويتك وستراه في كل مكان" (س. فرويد)
الجمال مفتتح كل بداية، ومفتتح الوجود جمال.

1 ـ بعيداً عن التعقيد..

          بعيدا عن الفلسفة وشطحاتها، وأسئلتها المقلقة حول الوجود والموجودات، وهي تزيد الجمال تعقيدا حين تحاول تفسيره تفاسير تُرضي الآلهة، وتُسكنه كتب وحكايات الملاحم والبطولات، بعيدا عن الشعر وهذيانه حين يتغنى بالجمال كلمات وصورا تُخندقه ولعا وشوقا وحرقات ودموعا ولهفة، تموت خنقا داخل الدواوين وعلى الأوراق.

بعيدا عن تلاوين الرسامين وشخبطات ريشاتهم المسافرة في اللون، وهي تُحيل الجمال خطوطا وخربشات تزيده تعقيدا حين تصبغه بأسماء المدارس، تكعيبا وتجريدا وواقعا، تعتمد اللون وضرب اللوحة، ثوبا أو حريرا، قاموسا وفنّاً.

بعيدا عن سرحان المريدين والعابدين والحالمين الباحثين عن الجمال في حلقات الذكر والتمسُّح بالأعتاب والتبرك باللحود والكرامات، بعيدا عن كراسي المدارس والمعاهد التي تُقزّم الجمال في جُمل وكلمات جوفاء تزرعها في قلوب المتعلمين كلاما وتمارين وأنشطة، بعيدا عن مراتع القُبح الذي غطى أبسط تفاصيل حياتنا، حتى أنمحى الجمال منا وفينا ومن بيننا، وأصبح غريبا، عملة نادرة، بل مفقودة، فلا نجده إلا مخبوءاً تحت مُسمّيات العيْب والحياء.

بعيدا عن النظرة القاصرة للجمال التي تراه في حوَر عينٍ أو زُرقتها، أو أهداب ناعسة، أو قدّ ميّاس أو نهدٍ كاعبٍ نافرٍ يثير الشَّهوة، بعيدا عن التعقيد والتّصنّع، والرياء والتظاهر والتفاخر الكاذب، فتلك نظرة كسيحة للجمال، بائسة وجيعة تبخس سر الجمال، وقيمة الجمال، لأن الجمال في حقيقته المثلى، قيمة تسمو بالإنسان والوجود.

2 ـ قريبا من الجمال..

نظرة إلينا، إلى محيطنا، إلى واقعنا، إلى ما نحن فيه من دُنُوٍّ من القُبح، تحكي بما لا يدع مجالا للريبة والشك، أن الجمال عندنا ـ للأسف ـ تقليدٌ أعمى، تظاهرٌ كاذب، امرأة بمواصفات دنيئة، وما سوى ذلك، عادي، لا جمال فيه، تلك نظرة فيها حوَل، عوَر، فيها عمش، نظرة بائسة لا تسبر غور الأشياء، ولا تنفذ عمقها لتستخرج لبها.

الجمال في حقيقته أكبر من ذلك وأسمى، ليس تعاريف تُعطى مزخرفة بالمُحسّن من الكلام، ولا مصطلحات أدبية أو شعرية تُقال مُنمّقة بأجمل الصور الشعرية، فالجمال أنبل من أن يُخنق أو يُخنْدق في خانة ضيقة تُحاصر سره وحقيقته وجوهره، إذ ليس من الجمال في شيء، أن ترى القبح يتقمّص كل الصور ويلبس كل الأقنعة وتمر عليه هازئا صامتا، كأن الأمر لا يعْنيك؛ ليس من الجمال في شيء، أن تبتسم لي وقلبك عامر بالحقد والحسد والغدر والمكر، وتقول : الزمان للأقوى؛ ليس من الجمال في شيء، أن تحفر الحفر وتتفنن في توسيعها ليسقط فيها آخرون؛ ليس من الجمال في شيء، أن ترفض الاختلاف، فَمَنْ معك معك، ومن ليس معك فهو ضدك، عدوّك، تحاربه ولا تناقشه.

الجمال منّا على مرمى كلمة صادقة، أو فعل إيجابي يدفع ويبني، أو إشارة لطيفة تحيي موات القلوب وتحيي الحب من جديد، أو ابتسامة ترمّمُ الجراح، أوحين نُفرغ حياتنا من تعقيداتها القاتلة، وروتينها الممجوج والمَكْرور والمتآكل والصدئ، ونفسح للجمال أن يمتد فينا، وأن يطمس القبح الذي تحكّم فينا وتجذّر، وأصبح قاعدة، والجمال استثناء، شُبهة تجر القيل والقال وكثرة السؤال، ونظرات الريبة، حينها فقط، يمكن للجمال ان يشع نورا يضيئ ما أُعتم من حياتنا.

الجمال فينا متأصل وأصل، وهو بداية الخلق: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"(سورة التين الآية 4) التقويم هنا الحسن والجمال، "ولقد كرمنا بني آدم.." (سورة الإسراء الآية 70) من التكريم الحسن والجمال أيضا، وغير هذه الآيات كثير.

الجمال فينا متأصل وأصل، ينتظر أن نجلو عنه وعن ذواتنا ثقل القبح القابع فينا، أسود يتربص منا جميل الفعل والكلام والإشارة.

الجمال روح تسري فينا في انتظار أن نُقيم صرحها، أن نُحيي نبضها، أن نُنفّس كربها، وأن نُجلي بريقها لتلون الوجود بالنور والحياة، الجمال صمتٌ حين يموت الكلام، وكلامٌ حين يصبح الصمت أثقل من سؤال بليد، الجمال إرهاف السمع للوجود حين يتنفس صُبحا، الجمال هدأة ليل العاشقين والحالمين والباحثين عن رشفة عطر مُنفلتة من عقال زهرة نادرة، الجمال ابتسامة رضيع لا يعرف من دنياه غير ثديٍ معطاء، حبا وحنانا ودفئا، الجمال أن نُحلّق في الرحاب درجات نحو السمو بالنفس والعقل والروح، الجمال كتاب تسبح في فضاءاته، وأنت تتماهى مع شخوص لا تربطك بهم صلة ولا قرابة،

الجمال وقفةٌ عاشقة أمام آية من آيات الخلق الإلهي، تسري فينا فاتحةً مغاليق الإيمان، توقظ السؤال الثاوي في الكمال العلوي. 

يسير الجمال بيننا ونحن في غفلة عنه، ننأى عنه وهو منا قريب، على مرمى نظر، ثاوي فينا، شُعلة تُغالب الانطفاء ونحن نجهد لإطفاء جذوتها، أو محاصرتها في خنادق ضيقة حين انتخبنا القبح حارسا يُصبغ داخلنا بالسواد ليحجب عنا النور، فلا ترى الجمال إلا والقبح له رفيق، كظله، ونحن أولاء من نضع الفواصل والنقط، ونغير زوايا رؤانا، ونحن أولاء من يضع للجمال ميزانا وللقبح موازين، رغم أن الجمال فينا أصل، والقبح نحن من يصنعه.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة