وقفت بين يدي معلمي الذي حدجني بنظرة ثاقبة اخترقت ثيابي وجسدي وأربكتني. قلّبني ببصره الحاد، صعّده وصوّبه. حدّق في شعر رأسي المموّج، وفي أسمالي البالية المرقعة بخيوط غليظة منفّرة. دقق النظر في ميدعتي باهتة اللون من القِدم وقد نُزعت أقفالها وجيبها الذي على اليمين. ثم نزل قليلا فتركز بصره على سروالي المتشح باللون الرمادي لما التصق به من تراب وعرق. وانتهى أخيرا إلى حذائي الذي انكشفت في مقدمته بعض أصابع قدمي، ذاك الحذاء الذي رافقني سنتين كاملتين وكنت أشده بخيطين كلٌّ بلون محاولا جعلهما لونيْ فريقي المفضل.
عندما أنهى المعلم العبث بي بسهام نظره دون أن ينطق بكلمة واحدة رمى كراسي الذي كان يقلبه بين يديه على وجهي. آلمتني الضربة لكني لم أتزحزح عن مكاني خوفا من إغضابه. تسمرت دون بكاء، كتمت ألمي وتجلدت. لعل أكثر ما آلمني أن أرى كراس العبادات بما خُطَّ على صفحاته من آيات قرآنية مقدسة وأحاديث نبوية شريفة يتدحرج بين الطاولات وتتقاذفه أقدام رفاقي. ثم صرخ في وجهي وهو يشير بسبابته إلى المقعد الأخير "ذاك مكانك، الزمه حتى آخر يوم من السنة الدراسية".
اتجهت نحو المكان الذي حدده لي معلمي وقلبي يخفق خوفا كقلب عصفور صغير وقع في فخ نصبه له صبي شقيِّ. سرت متعثرا في خوفي وارتباكي. أحسست بنظرات رفاقي تخترق جسدي النحيل مثل سيوف حادة. وصارت قهقهاتهم نواقيس تقرع رأسي. وغلى الدم في عروقي وفكرت في أن أصرخ في وجوههم وأن ألتفت إلى معلمي وأشتمه، لكن خوفي من غضبه ألجمني. طالت بي المسافة وشعرت بالعرق ينز من كل مسام جسدي وتغمر حباته وجهي وكل جسمي. تبللت ملابسي ولم أعد أعي أين أضع قدمي فاصطدمت مرة بطاولة، ومرة أخرى بقدم أحد الرفاق الذي أراد إسقاطي عنوة فتهاويت وكدت أسقط لولا أن تداركتني طاولة استندت على حافتها.
لم يكترث معلمي بما كنت أعاني، ولم يمنع التلاميذ من العبث بي. لم يكترث بضعفي وعجزي، ولم يأبه ليتمي وفقري. لم يكترث بي عندما قلت له إنني أنام وأختي ووالدتي في ما يشبه الغرفة جاد بها علينا دَعِيُّ كَرَمٍ طمعا في جسد والدتي. في تلك الغرفة، إن جاز أن نسميها غرفة، كنا نطبخ ونأكل ونسهر وننام. لم ينزعج عندما أخبرته أننا نأوي إلى فراشنا عندما تغرب الشمس، فليلنا يبدأ عند الغروب. لم يحفل بارتعاشه شفتيَّ وأنا أعترف له أنني أهملت حفظ الآيات التي كلفنا بها لأننا لا نملك شموعا في بيتنا.
تبعثرتُ وأنا أسير بين الطاولات محاذرا أن أرتطم بأخرى فأسقط. كانت نظرات معلمي تجلدني من الخلف، شعرت بوقع سياطها على ظهري الأحدب الصغير. أحسستها سيوفا تقطعني قطعا صغيرة وترميها أشلاء إلى الخارج لتلتقطها الكلاب السائبة. كنت أسير وبين جنبيَّ نيران تضطرم، بركان يغلي في رأسي. أَأَلعن معلمي أمْ رفاقي أمْ أسبّ القدر وأشتم الفقر الذي لم يجرؤ على قتله من قال أنه لو كان رجلا لقتلته. كرهت هذه القاعة بما فيها ومن فيها. صارت جحيما، عذابا، بركة ماء آسن. وشعرت أنه لم يعد لي فيها مكان.
بعد لأيٍ بلغت المقعد الأخير الذي أَمِرْت بالجلوس عليه. وما إن تهالكت فوقه حتى جاءني صوت معلمي هادرا كالموج الصاخب، جارفا كالسيل يأمرني بسحب المقعد إلى الوراء وإلصاقه بالجدار الخلفي للقاعة. لم أرفع بصري نحوه، عليَّ تنفيذ الأوامر دون جدال أو تلكُّؤٍ. كان المقعد ثقيلا وكان جسدي نحيلا. صَعُب عليَّ الأمر. نظرتُ إلى معلمي متوسلا أن يأمر أحد التلاميذ بمساعدتي، لكنه لم يفعل. رأيته قادما نحوي بخطى سريعة كشفت أنه مازال متوترا. كان صوت كعب حذائه كرصاص يئز من فوهة مسدس ويستقر في جمجمتي وصدري فيفتتهما. أمسك الطاولة بكلتا يديه ومشى بها كما لو كان يحمل كتابا أو كراسا ووضعها هناك بعيدا وهو يردد كلمات آلمتني كثيرا لم أتبين منها سوى "أنت بهيم وستظل، وعديم الفهم، لا يصلح إلا لجر العربات. كيف لم تقدر على سحب طاولة". ثم سحبني من عضدي بعنف وأقعدني فوق المقعد.
حجبت دموعي عني رؤية كل شيء في القاعة. صارت الأشياء ضبابية وفقدتْ أشكالها وأحجامها. فكرت في المغادرة لكنني تراجعت خوفا مما ينتظرني من عقاب إن أنا أقدمت على فعل أهوج أو تهورت. إلى من سألجأ ووالدتي هائمة بين الحقول تبحث لنا عما تملأ به بطوننا الخاوية، ووالدي قد نبت الربيع على قبره؟
أي جرم ارتكبته أنا سوى أنني لم أُجِد حفظ آيات من القرآن الكريم. ماذا كان سيحصل لو أنني حفظتها وعرضتها دون توقف أمام المعلم والتلاميذ من غير أن أفهم معانيها أو أعمل بما ورد فيها؟ لِمَ لم يطبق المعلم ما يردده على مسامعنا من آيات وأقوال مأثورة وحكم؟ لِمَ لم يكن رحيما بي وهو الذي علمنا "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"؟ لِمَ لم يمنع رفاقي من التلذذ بالسخرية مني وهو الذي كان يوصينا دائما أن "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم"؟ لِمَ لم يرحم يتمي وهو الذي كان يردد دائما قول النبي الكريم "أنا وكافل اليتيم كهاتين" ويرفع سبابته ووسطاه متلاصقتين؟ لِمَ لم يرحم ضعفي وعجزي وارتباكي عندما رمى الكراس في وجهي وصفعني صفعتين؟
عندما انقشعت الضبابة التي خلفتها دموعي من أمام عيني جلت ببصري في أرجاء القاعة. كانت رؤوس رفاقي كرؤوس الشياطين بآذانهم الصغيرة الحمراء التي ألهبها البرد. ثم حدقت في الرسوم المعلقة على الجدران وما رُسم فيها من حيوانات بدت متشبثة بالجدران كأنها تخشى على نفسها من السقوط. وفي لحظة خُيِّل إليَّ أن تلك الحيوانات قد تآلفت مع رفاقي ومعلمي وتنتظر لحظة انفلاتها من عقالها لتنقضَّ على جسدي وتنهشه. ورأيت الحروف تتحول إلى سكاكين ومدًى وسيوفا يحُدُّ بعضها بعضا، وتناهى إلى سمعي صوت شحذها وهي تتربص بي لتقطع شراييني وأوردتي. أدرت رأسي ليستقر بصري أعلى السبورة أين قبعت لوحة بائسة خُطَّ خليها بيت من الشعر ذرُّوا به الرماد على عيوننا ليحجبوا عنا حقائق كثيرة، وجعلونا نقدس معلمينا ونجلهم. وتعلقتُ بالفعل "كاد" وعشقته لأنه منع المعلم من أن يكون رسولا حقيقيا. وتساءلت في سري: ما فائدة أن تزخر الجدران بكل ما عليها من آيات وأقوال وحكم، ولا يكون لها هوى في نفوسنا؟ ما حاجتنا نحن الزغاليل الصغار الذين نصارع البرد والخوف وعصا المعلم إلى ما تُحشى به عقولنا الصغيرة من أشعار وأقوال قيلت في زمان غير زماننا ومكان غير مكاننا ولأشخاص غيرنا؟ ما وقع تلك الكلمات الغريبة عنا فينا ونحن لازلنا نتهجى الحروف وبالكاد نجمعها لنكوّن بها الكلمات لتكون جملا يمكن أن تُقرأ؟ ما نفع ما يُخَطُّ ويُعَلَّق ويُتْرَك منثورا على بياض الأوراق ومشنوقا على الجدران؟ والويل كل الويل لمن يدنو من تلك المعلقات أو يحاول لمسها. لوحات يتفنن المعلمون في كتابتها بألوان من الخط لا يعلِّمُونها لنا وهم يعلمون أن من كتم علما أُلْجِم يوم القيامة بلجام من النار.
ظللت مشدوها تخنقني الغصة طوال الحصة غير مبال بما كان المعلم يقول، وأجاهد لكتم صراخي وأكابد لحبس دموعي. طالت الحصة حتى ظننت أن الجرس لن يدق. ولم يعد يثيرني طيف المعلم وهو تنقل مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار شارحا الدرس، تناساني وأهملني في تلك الزاوية وراح يكتب تارة ويفسر أخرى ملوحا بين الفينة والفينة بيديه مشيرا إلى أحد التلاميذ ليجيب على سؤال أو يذكّر بقاعدة أو يلخِّص ما قيل.
تحولت القاعة عندي إلى سجن. وصار معلمنا سجانا أحكم شد قبضته علينا، يرغمنا على الإصغاء إليه والانتباه إلى كلامه كله. لكن عصاه الطويلة ويده الغليظة حوّلته في نظرنا إلى غول لا يرحم. وتعليمات آبائنا وأمهاتنا تمنحه حق حبسنا في أماكن قصية من القاعة كالزنازين الصغيرة يختارها حسب مزاجه وهفواتنا.
تركت القاعة بما فيها ومن فيها واخترقت روحي الموجوعة الجدار وهامت بين الحقول تتبع رائحة والدتي المنثورة هناك تستجدي عطفها وتلجأ إلى حضنها الدافئ برائحته الزكية التي لا تشبه رائحة أخرى. ثم جريت ونبشت قبر والدي بأظافري الطرية أتوسل إليه أن ينهض ويقتص لي من معلمي الذي أهانني وأربكني وأخافني. اختبأت بين أغصان الأشجار وخلف الجذوع الكبيرة أتوارى من نظرات رفاقي الجارحة وبحثا عن الأمان من عصا المعلم وتكشيرته المرعبة.
طرقات خفيفة على السبورة أعادتني إلى القاعة والمعلم والدرس والرفاق والحزن المكدس على قلبي كقطعة ليل مظلمة وكرّاسي المسمر فوق الطاولة أمامي وأوراقه المكرمشة بعد أن سحقتها يدا المعلم الغليظتان.
أخيرا دق الجرس. تركت كل شيء على حاله، محفظتي وما حوته من رغيف لا أعلم من أين حملته لي أمها أمس، وقطع الصلصال والأقلام الملونة والمبراة التي وجدتها في ساحة المدرسة.. تركت الكراس مفتوحا مستغيثا، والكتاب حذوه فاتحا دفتيه في ضراعة يئن موجوعا لوجعي. وجريت بكل ما أوتيت من جهد. وما إن عبرت الباب وأمنت من بطش المعلم حتى انفجرت بالبكاء والشهيق. بكيت كثيرا وبلا توقف، وذرفت دمعا غزيرا حتى ظننت أن عينيَّ نضبتا من الدموع.
لم ألتفت، ويممت وجهي صوب باب المدرسة. عبرته وتنفست الصعداء وهِمْتُ في شوارع المدينة المكتظة بالناس والسيارات والدراجات والدواب. وقررت أن أتعلم أشياء أخرى. قررت أن أتعلم لكن من دون معلم.