Dégage - قصة: د. الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

وقف متشامخا يحدق من علٍ في هذه الوجوه الكالحة المنثورة أمامه على الرصيف. وجوه هدّها الإعياء والسهر وأحرقتها ملوحة مياه البحر بعد ليلة عاصفة ظلت الرياح خلالها تدمدم والموج يحمحم مثل فرس مهزوم في سباق. ليلة رهيبة ارتفعت فيها الأمواج عاليا في صخب وعنف كاشفة عن وجه قبيح للطبيعة الثائرة التي لا ترحم. كانت ليلة مخيفة مظلمة لم يضئها سوى وميض البرق بين الفينة والأخرى فتكاد الأبصار تعشى ثم سرعان ما تعقب ذلك الوميض زمجرة الرعود الحادة العنيفة. هو البحر في أشد حالات غضبه وعنفه، يثور بلا إنذار ويهدأ بلا إنذار، وبين ثورانه وهدوئه تحدث أشياء لا يعيشها سوى البحارة الذين نذروا حياتهم لواجهة صخبه وغضبه وجبروته. في تلك الليلة رأى البحارة الموج يتلاعب بالمواعين كما تتلاعب الرياح بأوراق الأشجار أثناء فصل الخريف. رأوا المجاديف تتطاير والشباك تتناثر على الرصيف، شاهدوا المياه تصفع خدود المراكب فتبكيها.

عندما أزاحت أنوار الصباح غشاوة الظلام من أمام أعين البحارة أدركوا حجم خسارتهم، وأدركوا أنهم وحدهم سيعانون لأيام وربما لأسابيع محاولين رتق جراحاتهم. خرجوا من مآويهم وأوكارهم وأوجارهم وتوافدوا على الرصيف، جاؤوا فرادى، وظلوا يبحلقون في معداتهم المكسرة وشباكهم الممزقة ومراكبهم المحطمة. لم يستنجدوا بأحد بل رفعوا أعينهم إلى السماء يستغيثون. لا ملجأ للضعفاء سوى الله.

كان قدومه دراماتيكيا، وكان وصوله فانتاستيكيا، فُتِح له باب السيارة فنزل ومشى محاطا برجال أقوياء أشداء. كان يرتدي بذلة سوداء بخطوط بيضاء دقيقة. لمعت ساعة يده الذهبية فكاد لمعانها يخطف الأبصار. خاتمه الماسي بفصه الكبير يبهر الأنظار. تقدم ويده تحاول كل مرة إعادة ربطة عنقه التي تلاعبت بها الرياح إلى موضعها فوق بطنه المكور الكبير. لا أحد يعلم أجاء معزيا مواسيا أم شامتا هازئا.

سرت بين الواقفين همهمات سرعان ما تحولت إلى عبارات اشمئزاز وتقزز من هذا الزائر الغريب الذي حل بينهم في لحظةٍ مجنونة. كانت الكلمات في البداية مبهمة غامضة بأصوات خفيضة ثم انكشفت الحروف وعلت الحناجر بألفاظ السب والشتم. ارتفعت الأصوات وتداخلت فبدت لأول وهلة مثل نداءات الباعة في الأسواق الشعبية. لكن صوتا واحدا علا فوق كل الأصوات صارخا dégage. في تلك اللحظة توحدت كل الحناجر مرددة هذا العبارة التي أنجبتها التحركات الاجتماعية التي أدت إلى سقوط النظام السابق ورحيل رموزه. كانت تلك العبارة كلمة عبور من عهد إلى عهد جديد خطه جيل جديد بلغة جديدة فأحدث فوضى جديدة غير مألوفة عمّت الشوارع والأسواق والساحات والمقاهي والمواخير والحانات والمعاهد والمدارس ووسائل النقل والمحطات وأروقة المحاكم ومدارج الملاعب ومدرّجات الجامعات. وبلغت تلك الفوضى أشدها عندما تحولت إلى مواقع النفوذ وأروقة اتخاذ القرارات المصيرية. لحظات مجنونة، لم يدرك أحد ما حدث إلا عندما شقَّ صوتٌ الليلَ "افرحوا يا توانسة الدكتاتور هرب". لكن التوانسة لم يفرحوا منذ تلك اللحظة. ظلت وجوههم واجمة وعيونهم جاحظة تتطلع إلى هذا الفرح الذي كلما حاولوا الإمساك به تفلّت من بين أيديهم كالماء. ظلوا يخوضون في بحار ناضبة وهم يخالون أن أجسادهم محمولة فوق الماء متناسين أن أقدامهم مغروسة في الوحل لا يستطيعون منه فكاكا.

وقف وسط الرصيف البحري يحدق في هذه الوجوه الكالحة، ويجيل بصره في هذه الأجساد الناتئة عظامُها. كان ينظر إليهم من خلف نظاراته السوداء العاكسة لأشعة الشمس وقد تورد خداه وتكرّش بطنه واستعاد شعره الأبيض سواده ولمعانه. كانت علامات الرواء بادية عليه. يداه مغموستان حتى الرسغين في دسم الموائد العامرة الضاجة بألوان الأطايب والملذات. عرف حلاوة الشبع بعد أن كان يقضي اليوم واليومين خاويا أو نصف شبعان. خط سبيله زحفا ومشيا وهرولة وجريا، ساند هذا وعارض ذاك. وسوس للبعض ونصح البعض. دافع عن هذا وكال الشتائم لذاك. علا صوته مرة وانخفض مرة. لم يكن له صديق دائم ولا عدو دائم. تسلل بين الجموع حتى وجد نفسه في المقدمة تماما مثلما فعل أسود الزبد.

عندما ضجت الشوارع بالرافضين والمعارضين، وعندما لعلع الرصاص وتناثرت الجثث على الأرصفة وقارعة الطريق، وعندما نز الدم وتقيحت الأجساد وتردد صدى انصفاق أبواب الزنازين، وعندما نصبت المحاكم وصدرت قرارات الإعدام...كان هو يراقب المشهد على شاشات التلفاز وقد أحاط نفسه بكل الواقيات وبنى لنفسه بيتا من الحطب وانزوى فيه خائفا كالقندس منتظرا الرصاصة الطائشة التي قد تخترق جدران بيته وتصيبه. وعندما هدأ كل شيء وشربت كل غدير ماءها خرج في ثوب المناضل الثائر. ولجأ إلى رفاقه في البحر يتسول دعمهم.

سيذكر التاريخ أن هؤلاء الواقفين أمامه الآن هم الذين أوصلوه إلى الجلوس فوق الأرائك الوثيرة. هم الذين وضعوا له أكفهم ليدوس عليها كي لا يؤذيه حصى الطرقات، هم أنفسهم من هبوا لنصرته عندما حمي وطيس المعركة وارتفع غبار العاديات وضجت الدنيا بالمكائد والدسائس وكادت الأبصار تعشى من لمعان خفق البنود...لم يتركوه وحيدا، التفوا حوله وحموه، تلقوا الضربات الموجعة نيابة عنه، التقطت آذانهم ألفاظ السباب والشتم قبل أن تصل أذنيه. قدّموه على الجميع وفسحوا له الطريق بعد أن عبّدوها وسوّوا اهتزازاتها واقتلعوا من حافاتها كل نبت طفيلي وزرعوا مكانه ورودا.

هو يذكر وهم يذكرون يوم ضجت بيوت الحي بصخب الزغاريد عندما أُعلن فوزه. هو يذكر وهم يذكرون أنه كان يوما واحدا منهم يرتدي ملابس البحّار ويركب مركبه الصغير ويتجه نحو الأعماق مجدفا باحثا عن رزقه ويعود مثلهم مرة خائبا قد جافاه الحظ، ومرة سعيدا قد تكرم عليه البحر ببعض صيدٍ. هو يذكر وهم يذكرون أنه كان يخاف ركوب البحر ويهاب العواصف والرياح والأمواج، وأنهم زرعوا في نفسه بذور التحدي والشجاعة بعد أن مات والده غرقا. وهو يعلم وهم يعلمون أن البحر لا يركبه جبان أو رعديد.

عندما علا شأنه وتناقلت شاشات التلفاز صوره وسطع نجمه وضجت صفحات الفايسبوك بأخباره، حلّق بعيدا ونسِي أو تناسى أنه كان يوما واحدا من هؤلاء البسطاء التعساء، وأنه قاسمهم الرغيف وحبات الزيتون أيام السغب والجوع، وأنهم كانوا يدخنون مع السيجارة الواحدة عندما تطول أيام صخب الأعماق فلا يخرجون للصيد. كؤوس الشاي التي شربها معهم ما زالت تحمل على حافاتها أثر شفتيه.

باع مركبه وشباكه وحربونه وصناديقه. تخلص من لوثة ماضيه، ونقّى أثوابه من حراشف السمك التي علقت بها سنوات طويلة. رمى خيوط الشباك بعد أن لفها حول المجداف وألقاها بعيدا في الأعماق حتى لا تنغّص عليه فرحة التحليق. نبت له أكثر من جناح وهو يدوس السجاد الأحمر بقدميه اللتين التأمت شقوقهما من الخوض في ملوحة مياه البحر ورمال الشواطئ.

نسي أو تناسى رفاق الأمس وعذاباتهم. نسي أو تناسى شقاءهم وحرمانهم وآلامهم، وها هو يعود إليهم اليوم ليجددوا له البيعة ويوقعوا له على خمس سنين أخرى ترفعه إلى الأعلى وتُدنيه أكثر من نجوم السماء. ها هو يعود إليهم اليوم بوعود أخرى غير التي خدّرهم بها سابقا ثم رماها مع ملابس البحّار التي أطلق بها يومها حملته وأمر أحد أتباعه بإحراقها وذر رمادها بعيدا فالنار تكتم الأسرار، وهو لا يريد أن يكشف أسراره نزلاء العالم العلوي الذي أطل عليه برأسه كقط.

سرى خبر وصوله اليوم إلى الرصيف بسرعة فنحن في زمن الفايسبوك والتيك توك والأنستغرام وغيرها.

Dégage بهذه الكلمة الثورة، لُطم وجهه. حاول أن يهدِّئ أولئك الغاضبين الرافضين، لوّح بيديه يريد إخماد الأصوات الهادرة لكن أحدا لم يلتفت إليه. صرخ بأعلى صوته فتناثرت كلماته مع رذاذ موجة عالية ارتطمت بالحاجز الإسمنتي أين كان يقف فتبلل شعره وملابسه. ولم يجد مرافقوه من سبيل لصد تلك المياه عنه. بدت على وجهه علامات اشمئزاز ونفور من ملوحة مياه البحر. قهقه الجميع وهم ينظرون إليه وإلى ردة فعله ويذكرون أن هذه المياه هي التي كانت تداوي جراحات جسده وأوجاع قلبه.

تركوه وحيدا، انطلقوا جميعا كأن اتفاقا سرِّيا سرى بينهم. ظل صامتا يقلٍّب عينيه في وجوه مرافقيه ويده اليمنى تحاول إعادة ربطة عنقه إلى موضعها فوق بطنه المكوّر الكبير، بينما راحت يده اليسرى تحاول شد أزرار سترته فلا تقدر.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة