عج المقهى بالرواد وغطى دخان السجائر الوجوه الكالحة المتحفزة التي هدها التعب والإرهاق وأعيتها الحركة الدائمة، فقد بحّت الأصوات وتشققت الحناجر من الصراخ الذي لم ينقطع طوال اليوم، الكل قدم إلى هذا المقهى ليريح النفس مما كابدته وليلتقي بالأحباب، ففي مثل هذه الأمكنة يبقى العالم في الخارج وتبقى ضغوط الحياة في الخارج، فتتعالى القهقهات وتطيب الجلسات بالأحاديث الحلوة المؤنسة، وخلال هذه الأوقات تتجدد خلايا النشاط ليستقبل الكل يوما جديدا لا مجال فيه للخمول والسكينة.
وقف نزار في باب المقهى يتفرس الوجوه، فقد خاب ظنه، إذ لم ير أحدا من الذين كانوا يجوبون الأزقة بسيارات الجيب العسكرية، يلهبون أجساد المتظاهرين بالعصي والهراوات غير آبهين بالدماء المثناثرة والتي غطت الوجوه وصبغت الملابس بلونها الأحمر القاني، تقودهم عيون مبثوثة بين الصفوف فتنبئهم عن المخابئ السرية وعن مراكز القيادة وجهات الدعم. كان يوما مجنونا، وبلغ الإصرار أقصاه، فلا المتظاهرين قبلوا بالتراجع ولا رجال البوليس رضوا بالانسحاب، كانت معركة عنيفة، وعندما احتدم الموقف، لعلع الرصاص وغطى دخان القنابل المسيلة للدموع الممتزج بالدخان المتصاعد من العجلات المطاطية سماء المدينة، تناثرت الأجساد بين مغمى عليها وجريح، وعلا الصراخ بين نائحة فقدت إلفها وبين شاتم وساب في الذين تسببوا في ما حدث، عفّرت الوجوه بالتراب، ناب صوت الرصاص عن الكلام، فلا أحد يجيبك عما حل بالمدينة سوى الهراوات وعلب الغاز الموقعة باللونين الأبيض والأزرق.

احتضنته لسنواتٍ ثمرة زواج فاشل. كان الزوج أقسى من الأب على روح صبية لم تبلغ الخامسة عشرة. شيعوها إلى دار العريس كأنهم سائرون في جنازة. كل من في القرية يعلم أنها صفقة، أو بالأحرى سداد دين.
- عليك بالصبر يا ابنتي! ثم تعالت زغاريد أشبه بالولولة.
شُج رأسه في عراك حول "الكيف"، فاستفاقت مذعورة وهو يركل الباب. أسرعت إلى المطبخ لتحضر شيئا من البن تحبس به النزيف، بينما تمدد على الفراش، يسب خالها والساعة التي جمعتهما في مقهى "بوراس". قبل سنتين لم يكن أحد من المزارعين يعرف نشوة الكيف، أو يتسكع حتى منتصف الليل في الخربة التي يديرها "بوراس". قضت ليلتها تحصي أنينه، وتحترس من ركلة طائشة تهز الجنين.

لم يكن في الجوار غيرها ليخدش الباب في ساعة متأخرة. يبدو أن المطر داهمها في كرتون زيت تبرع به الجار لإيوائها. رقة هذا الكائن تأسر سكان العمارة، لكن صغارهم لا يهتمون بالفرق بين دمية وقطة. آثار السلك الذي ربطها به أنذال صغار بادية على رقبتها. تموء وهي تتمسح بسروال نومه. لعلها جائعة!
سارع إلى المطبخ بحثا عما تبقى من سندويتشات الغذاء. معذرة يا صغيرتي، فالحرم المصون غاضبة في بيت العائلة. الشقة برأيها أضيق من كرتونك، ولا تليق بشاعر رأسماله في الحقيقة كومة أحاسيس، ونسخ أعماله الملقاة في أرجاء الغرفة.
هل يليق بشاعر مثلك أن تحاصره امرأة في زوايا أربع من الطوب والإسمنت؟ قدرك أن تتفجر دفئا ورقة لتذيب صقيع الحياة. هكذا أنتم أيها الشعراء! ثم انصرفوا إلى حيواتهم يديرونها بخبث ومكابرة، غير عابئين بسطوره الممددة على صفحات الجرائد.
شاعر.. ثم ماذا؟

تجمعوا عشاء في الزقاق المحاذي لبيت العريس. غمغم أحدهم مستنكرا قبل أن يمد يده لجيبه، ويدفع ثمن بضع قوالب من السكر ل"أعراب"، خامسهم الذي يملك الدكان كما يملك رقابهم كل آخر شهر. سحب أعراب من جيب سترته قارورة عطر يباهي بها بقية المفلسين.
ماذا لو أجّل عرسه لحين استلام الرواتب؟ غمغم ثانيهم مستنكرا، لكُنا أمطرناه عطرا وأشياء أخرى يُعز بها العريس عند الامتحان فلا يُهان!
لم يجدوا بابا ليطرقوه فتنحنح أعراب وتقدم. رائحة البخور امتزجت بروائح الدجاج المحمر والعطور الرخيصة. أزعجهم منظر الصبية وهم يلهون بأحذية الضيوف، لكن ما باليد حيلة. على أحدهم أن يتورد حياء وهو يسأل عن فردة حذائه قبل الانصراف.

خرج "بَّا إبراهيم" في ذلك الصباح البارد الذي كان ينذر بجو قارس يستوطن كل أرجاء المدينة. يجر عربته الكئيبة وراءه، يضع على رأسه طاقية تشكو الفقر والحاجة، باهتة تحميه من لسعات البرد. يتقدم بصعوبة وهو يجر العربة ويقف ليستريح كأنه جرى أميالا. ضعيف البنية التي أكلها الزمن وحولها الى جسد شبح. برجليه حذاء كبير الحجم وثقيل، ربما كان صدقة من أحد أو وجده مرميا على الطريق. تسمع خطواته عن بعد.
" بَّا إبراهيم" رجل مسالم وقنوع وطيب جدا، حتى إنه يمكنه أن يبيعك النعناع دون أن يطالبك بالمقابل. لا يعير اهتماما لتقلبات الجو، كأنه يتحدى بجسده الهزيل سخرية الطبيعة منه. يخاف كثيرا عندما يرى "المقدم" قادما نحوه، يعرق ويلتفت يمنة ويسارا كأنه يستنجد بأحد. يقول له المقدم "كم مرة قلت لك، لا تغير مكانك". يحني رأسه ويستعطفه ألا يأخذ منه عربته التي هي مصدر رزقه. يهدده أنه في المرة القادمة لن يتراجع عن قراره.

جلس على خوانه الخشبيِّ العتيق، قوي البنية رغم أعوامه الثمانين، مكشوف الرأس، تغطي وجهه المجعد لحية بيضاء كثيفة، يرتدي كعادته قميصا أزرقا خفيفا، وبنطلونا كحليا عاديا.
حدثني حامد عن البقعة الوادعة، التي هُجِّر أجداده منها، احتلَّها اللصوص، فصارت مملكة لهم، لأكثر من قرن ونصف من الزمن، ولم تندثر إلا قبل ستين عاما تقريبا.
غدا أغلب ساكنيها من آكلي السحت، وشذاذ الآفاق، وقاطعي الطرق، وأصدقاء لهم راضين بفعلهم، ومنتفعين منهم، وساكتين عنهم، وبعض الخائفين والمترددين.
خضعت الرواية لتكذيب الكثيرين إلى حدِّ الإنكار، فمتى بنى السارقون حواضرا، وأين كانت عنهم السلطات المتعاقبة؟!
بدأت الأحداث عام 1820، فقد كان حامد "الجدُّ" نائما، وحيدا في بيت أهله شبه المهجور.

أعطني شارة لتساعد هذا الغريب
أعطني وردة كي أحل الطلاسم
قبل المغيب
أعطني نجمة واحدة
دلني كيف أمسك بالقلب ليلا
وأغتصب الرجفة الواعدة
بزق من الخمر والحب والأصدقاء
الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة في قصيدة عن مدينة قسنطينة
حين نزلت إلى قسنطينة بعد غياب استطال ثلاثين عاما كانت تترد د في ذهني قصيدة الشاعر عزالدين المناصرة في مدينته الثانية قسنطينة التي عاش بها زمنا ودرس بجامعتها، كنت مثله أسال أين ابن باديس ومالك حداد وكاتب ياسين ؟ وأين ذلك الصخب الذي تفجر زمنا نشوة وشعرا وفنا وفكرا ،وأين القسنطينيات اللائي كن يتماوجن كسنابل القمح على إيقاع فرقة "العيساوة" في المسرح الجهوي في ليالي رمضان؟

كانا يتقاطعان كل صباح، فيحيي أحدهما الآخر ثم يواصل كل منهما طريقه ويمضيان في اتجاهين متعاكسين، وتظل كلماتها تدغدغ مسامه إلى أن يبلغ باب المؤسسة التي يشتغل فيها.
كلمتان ليس إلا فعلتا فيه هذا الفعل، أسرتاه وشدتاه إليها. في صوتها عذوبة وفي لحنها انسيابية فريدة، رقة ودفء وحنان. كلمتان تنثرهما في حياء فوق أديمه الجاف فتزهران دون انتظار زمن الإزهار، تتمردان على كل النواميس الطبيعية، تتحديان برودة الطقس وارتفاع درجات الحرارة، لا تخضعان لقوانين الفصول. كلمتان متمردتان تبوح بهما دون أن ترفع عينيها عن الأرض. لم ير عينيها يوما ولم يتأمل تفاصيل وجهها، يكفيه صوتها، هذا المغناطيس الآسر.
استعاض عن بصره بأذنيه منذ فقد حاسة البصر إثر تعرضه لمرض أصاب عينيه في عامه الثاني، فقَدَ بصره كله في لحظة واحدة، لم تفلح معه حبات بذور الحرمل التي أُرغِم على ابتلاعها، ولم تنفع معه التمائم التي علقتها والدته له على رقبته أو فوق أثوابه. ورضي بوضعه الجديد وكان لزاما عليه أن يرضى. كان أحب الأصوات إليه صوت أمه حين تناديه لتخرجه من وحدته وعجزه، تؤنسه تلك الكلمات القليلات التي تذكره كل مرة أنه ليس وحيدا في البيت وفي هذه الدنيا، وأن هناك من يرافقه ويراقبه ويرعاه. وحين غاب ذاك الصوت ظل وحيدا ولم تحتفظ مخيلته سوى بذلك الرجع من ذلك النغم الشجي الذي كلما استعادته ذاكرته الموبوءة انفجرت عيناه دموعا لا يحاول أن يداريها. يريد أن يبوح للعالم أنه ظل وحيدا منذ رحيل الغالية من الحياة.