كانت جالسة على كرسي، خجولة، نظراتها مضطربة، تراقب حركات رجليها النحيلتين. تخبئ يديها تحت ابطيها حتى ينتعشا بحرارة جسدها الصغير. كان يوما باردا جدا، فصل شتاء بدون أمطار. حلت محله برودة تصطك معها الاسنان وترتعش معها الأبدان. ظلت جالسة لا تتحرك وأمامها صينية متوسطة الحجم من الخبز البلدي. مررت من امامها دون أن أنتبه اليها. كنت في حديث مطول مع صديقتي. فجأة، وأنا أبحث عن هاتفي في حقيبتي، لأنني أكره أن أنساه، لقد صار جزءا من حياتي اليومية. قالت لي صديقتي، بصوت حزين: انظري، ما هذا الظلم. فتاة مكانها في المدرسة ليس هنا وسط هذا الجو البارد وتحاول المسكينة أن تبيع القليل من الخبز.
لم تنته معركة البحث عن هاتفي، والتفت حيث توجد الفتاة، اندهشت ثم قلت لصديقتي: أظن أنني أعرفها. ابتسمت صديقتي ولست أدري لماذا. اقتربت من الفتاة، رأسها كاد أن يقتلع من مكانه من شدة الانحناء. ثم رفعته ببطء ونظرت الي بخجل شديد، خجل ممزوج بالحزن والفرح. وأعادت لف شالها على رأسها ووجهها حتى لا تتأثر بقوة البرودة التي تشل كل حركة او ربما حتى لا يتعرف عليها أحد.

صار الوقوف أمام البحر دأبها منذ دهر، لا تفارقه إلا لتعود إليه، تفتح ذراعيها وتجري نحوه كالمتأهبة لاحتضان هذا المدى المائي الأزرق الرحب الرهيب، تتعطر بأنفاسه وتتطهر من أدران الحياة بمائه العذب وترتق جراح نفسها برائحته النقية الطاهرة وتطهر جراحات روحها بملوحته. هي تدرك أن أعماق البحر نقية عفيفة لا تقبل الغرباء، تلفظهم وتتخلص من بقاياهم، تحافظ على نقائها وطهرها. تعلمت أن البحر عفيف وعنيف، تتخلص أحشاؤه من كل غريب. يكشف أسراره ويبسطها أمام الجميع، لا يأبه لعيون العابرين المتطفلين والفضوليين.
تجوب الشاطئ جيئة وذهابا. تتوقف أحيانا لتملأ رئتيها بالهواء الرطب، ثم تنحني لتخط بعض الحروف والتواريخ على الرمال الندية. تتأمل تلك الحروف والأرقام مليا، تدور حولها، تتفرسها من كل الجهات، تحاول قراءتها مقلوبة، تقف بينها والماء لتحميها من الموج المندفع. لا تريد لتلك الحروف أن تُمحى. لكن الماء مخادع، يتسرب بمكر يلتهم تلك الحروف بلطف وقسوة، يبدأ بقضمها شيئا فشيئا، يغور في النتوءات، لا تراه العين، يترك آثاره على حبات الرمل فتتلاشى تلك الحروف. ثم يتوغل بين الحروف فيُفنيها. ثم يعود القهقرى ليتطهر من جريمته ويتلاشى بين أحضان والده.

"ر- س" فنان مشهور، في النحت له صولات وجولات،قرأ كثيراً عن أشهر النحاتين،قلد بعضهم في البدايات ولكنه سرعان ما ثار على آخرين في النهايات، آخذهم على رسم الرؤوس تحديداً. ولكي ينفرد عنهم، انبرى ينحت تماثيل بديعة، يتفنن في تشكيلها، دون رأس، كان يقول: " كل شيء إلا الرأس، الرأس سبب كل النزاعات."
تنتابه حالات سهوم، ورؤى في النهار وهو ينحت.. مرة ظل مدة طويلة يشتغل على "جسد" أتعبه نحتُه، لم يسعفه في تشكيله غير شوق ممزوج بأصباغ حنين الشعراء، إلى أنِ استوى التمثال أخيراً على شكل جذع دون رأس، دون ذراعيْن، دون ساقين، وفي فورة التماهي مع التمثال الذي أرهقه أياماً، وقبل أن يكتمل على الصورة التي يعشق، يسمع صوتاً يهتف له في الصالة، اللكنة إسبانية لبيكاسو، قال له مُستنكراً :
"تمثالك! هل هو من المريخ ؟!.. أسبغ عليه صفات الكائن البشري، هذه نصيحتي لك".

- هل قررتَ أين ستدفن؟
- نعم، في المقبرة القديمة. هناك على الأقل سوق أسبوعي يؤنسني ضجيج باعته. أكره صمت المدافن لأنه يزيد الوضع بؤسا.
- ومن قال أنك ستشعر بالوحدة؟
بدا الأمر نكتة قبل شهر، أما الآن فهي تُجري معي الترتيبات اللازمة للرحيل. دنيا بنت كلب! ولأنني ابن ناس فبطن الأرض خير من ظهرها هذه الأيام. طمأنت جاراتها بأنها أعراض شيخوخة مزمنة، وأن ثلاثين عاما من العشرة تشهد على لحظات جنوني. تأوهت إحداهن وهي تسرد فجيعة الترمل. الوحدة سم زعاف ينهش قلبها منذ رحيله.
- من يذهب للموت برجليه؟
- أنا !
طرقت باب جلول الفأر، وجددت وصيتي للمرة العشرين بأن يضع أسفل اللحد حجارة مبلطة. إلى أن ينخر الدود عظامي فمن حقي الاستمتاع بنومة هادئة. وبعد أن ينصرف المشيعون يتولى بيديه اللئيمتين غرس نبتة صبار عند رأسي. أرجو أن ينغرز شوكها في لحوم السكارى والمشردين، ويخدش أكف الطامعات في خيوط كفني، لجلب الحبيب ورد المطلقة.

في الطريق إلى بيروت كان السيد صلاح محشورًا بين السائق والراكب البدين الذي يجلس على طرف المقعد الأمامي. كان صباحًا مدلهمًا، ولم يكن ثمة رفاهية انتظار ظروف سفر أفضل بسبب التزام العمل في بيروت.
كان المقعد الخلفي كذلك مكتظًا، فقد شغلته سيدة كهلة وثلاثة أطفال وصبية جميلة تبدو في بداية العشرينيات.
لم يكن صلاح وسيمًا، وكانت لحيته التي أطلقها منذ فترة بعد التزامه الديني تزيد عدم جاذبيته خصوصًا، وأنه لم يكن يحسن العناية بها.
بعد تجاوز الحدود السورية وبعد تمكنه من التكيف مع الوضع المزعج في مقعده، وبعد أن غط الأطفال الثلاثة في النوم، التقت عيناه بعيني الصبية العشرينية في المقعد الخلفي. أجال النظر بسرعة في المكان لكي يتأكد أن أحدًا لا يراقبه، فوجد السائق مشغولًا عنه بأغنية فيروز التي ترافقهم منذ تجاوزهم حاجز التفتيش. أما البدين فقد كان منهمكًا بطريقة منفّرة في تناول العدد الكبير من السندويشات التي يبدو أنه جلبها من منزله. ولم تكن السيدة الكهلة في المقعد الخلفي نائمة، ولكنها كانت تغالب النعاس الشديد.

كان صباحا مشرقا يعلن عن بداية صيف حار، رقصت كل الأجساد النائمة تحت أشعة شمس وهاجة مسحت بصفائها على كل الوجوه البئيسة والنعسانة. العم أحمد، يحب هذا اللقب كثيرا، يجعله يشعر بالفخر والهمة بين زملائه في العمل. استيقظ هذا الصباح وهو يبحث عن توازنه الذي افتقده بالأمس. طرد النوم من غرفته كالعادة واحتضن خيوط الشمس وسمح لها باختراق أعضائه النحيلة. التي قضى بها زمنا في وظيفته. هيأ فطوره، الذي رفض أن يغيره رغم نصائح ابنه الوحيد، الذي كان دائما يؤكد له على شرب الحليب حتى لا تصاب عظامه بالهشاشة. فطور بسيط لا يحتمل الجهد والعناء، يتكون من كسرة خبز وشاي محلى بشكل قوي. انه لا يتلذذ بشرب الشاي الا وهو يضيف القطعتين من السكر. كان دائما يقول لابنه الذي يعاتبه" المسافة التي أقطعها يوميا للعمل، تحتاج الى طاقة كبيرة."
فقد العم أحمد، في ذلك الصباح، بوصلته التي كانت تحركه بشكل آلي لكن بحماس. بوصلته التي كانت تدفعه الى الباب متوجها الى عمله. تعطلت هذا الصباح، وظل نظره الحزين متوجها صوب فطوره، ثم أشاح بوجهه عنه. ملأت الدموع مآقيه وهطلت كمطر مفاجئ في عز الخريف. ظل صامتا لا يتحرك حتى نسي الانتباه الى الساعة المعلقة على الحائط التي كانت اول من يستقبله لما يستيقظ وآخر من يودعه لما يطلب النوم. هذا الصباح، نسي وقته وهجر فطوره، واتجه صوب النافذة المطلة على الشارع الرئيسي، ووقف طويلا، ينظر الى فراغ ممتد أمامه كحية خرجت للتو من حجرها تزهو برقصتها السامة. أخذ رأسه يشتعل بأسئلة لم يطرحها يوما. سقطت دمعة هاربة من سجن عينيه على خده، حاول أن يبتسم وهو يتذكر الامس، وحفلة الأمس بين زملاءه. كانت حفلة تقاعده. أهدوه وسام الشرف والاستقامة، ومدوح بكلمات راقية. وصفقوا له حتى تورمت أديهم. ضجيج أصواتهم مازال عالقا بذاكرته. ابتعد خطوات الى الوراء والتفت صوب الباب كأنه يستنجد به ويطلب منه أن يفتح حتى يطرد هذا الأمس من سجنه الداخلي. همس "ماذا سأفعل الآن؟ ". دار حول نفسه كما تدور الساقية لجلب الماء.

لا أعرف لماذا ولا كيف فتحت عيني في الغرفة المظلمة لأجد رجلا قبالتي عند حافة الباب يرتدي قميصا أبيضا، مصفف الشعر بشكل لامع، ضامر البطن حاد الملامح ينظر إلي ويبتسم ابتسامة مريبة مفزعة تشل حركتي، وتجعلني مستسلمة تماما لما سيقع. يقترب مني قبل حتى أن أعي تماما ما يحصل، ثم يقترب ويقترب كشريط رعب الى أن يلصق وجهه بوجهي ويغرس أنفه بخدي ثم يعود منسحبا الى الوراء كشريط عكسي: كل الحركات السالفة الى الخلف ثم يختفي عند حافة الباب التي بدا في فيها أول وهلة.
أجمع قواي لأصرخ لا يوجد صوت.
أسعى جاهدة ثم يخرج الصوت فأصرخ ملء ما أستطيع، أستيقظ بخفقان رهيب في صدري مع إحساس بالاختناق ألتفت الى الساعة جانب السرير، الساعة تشير الى الثالثة ليلا أحس بارتياح على الأقل لم يكن الأمر سوى كابوس نجوت منه بمعجزة، الاستيقاظ من الكوابيس أشبه بفرصة للنجاة والظفر بحياة أخرى.
انهض من السرير، حلقي جاف أكثر من العادة مع إحساس بالغثيان أحاول التذكر إن كنت أخدت جرعة الدواء المسائية، أتجه إلى المطبخ يبدو ترتيب الأدراج غريبا عما أعرف لابد أني أعاني بعض التشويش بسبب النعاس، بحثت عن كأس ماء أجد واحدا بعد عناء أشرب واتجه الى المرحاض حافية.
شيء ما يلتصق بأسفل قدمي أمسح قدمي ببعضها أخطو فانزلق وأكاد أسقط. ليلة سيئة بكل المقاييس ولا أتمنى أن تسوء أكثر.
عند باب المرحاض تزيد الأرضية لزوجة وازعاجا، أبحث عن مقابس النور أتخبط بين الجدران أحاول ان لا أسقط من إثر المادة الملتصقة بقدمي لا أعرف مكان المقابس، أجد الواحد تلو الاخر صدفة، أنا الان وسط برك دماء عديدة.

أتت مقبلة علي بجسدها الكثيف و نظراتها الحادة، وقالت لي بصوتها القاسي:
ماذا تفعلين هنا؟
ارتبكت وارتجفت مفاصلي وطار الكلام. قمت بسرعة لا ألوي على شيء، أطرد كل ما علق بي من ورق وأقلام. كانت تحيط بي من كل جانب كطفلة بين لعبها. اقتربت مني أكثر وقالت بعنف وصرخت حتى ارتجفت أركان الغرفة:
-ساعة وأنا أنتظر في المطبخ لوحدي، من سيغسل تلك الأواني المرمية هناك؟
-في الحال ياخالتي، كنت فقط أرتب أوراق عملي للغد.
وتهت بين الأوراق التي انتشرت في الغرفة وبين صوتها الذي سلط علي كالسيف الحاد.
تابعت بنفس القوة التي تمتلكها:
-المرأة هي البيت أولا، هي صورتها أمام الأهل والجيران.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة