في مديح المحبَّة – نص: عبد الهادي عبد المطلب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 "كن أنت التغيير الذي ترجو حدوثه في العالم" (غاندي)

"ما عييتُ إلاّ أمام من سألني، من أنت؟ (جبران خليل جبران)

جَرَّبْنا الهمس والصراخ، جربنا الصمت والكلام، جربنا الحزن كلما انكسرنا ـ وانكساراتنا كثيرة ـ او خبت فينا جذوة البداية، جرّبنا الخيانات حين خُنّا شرف الكلمة والمواقف، وحين وقفنا متفرجين حين سار العالم جريا إلى الأمام، جربنا الوقوف في وجه بعضنا بغضاً كراهية..

لم لا نجرب المحبّة؟

لعلّها تكون ورقتنا الرابحة، لعل أمام محرابها نندهش، ننبهر، ننفعل، نترك لإنسانيتنا أن تنساب شفَّافة تمحو ما علق بدواخلنا من ألم وبُغْض وحقد وانكسارات وخسارات، ونفتح بالمحبّة للأمنيات كفّا على أعتابه ترتاح البسمات، ونطوي صفحاتِ ذواتٍ تُجيد احتراف التواطؤ والخيانة والكُره.

"المحبّة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم، لأنها ترفع النفس إلى مقامٍ سامٍ لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها"[1].

المحبّة، فعلٌ للمقاومة، ضدا على القهر والغبن والألم والكراهية البغيضة.

المحبّة، حتى لا نفقد عادة الابتسام، ولا نعطي للكراهية والتباغض فرصة أن تُسقط أسناننا ونحن نَعْبر زمن الخوف والقُبح والظلم والانكسارات.

لا بابٌ يُقرع للدخول ولا عسس، "فالمحبّة التي لا تنبع كل يوم، تموت كل يوم"[2] إنّها بداية القطر وأول الهطل، وضوْءٌ يمتد في القلب اتساعا يُرجع صدى السكون والحبّ والسلام.

لم لا نجرب المحبّة، بعد أن أفرغنا دواخلنا منّا، من إنسانيتنا؟

المحبّة، وتنْفرِطُ سُبْحة الألم فينا ويتداعى الحزن، وتنْأى بنا المطارات والوداعات الحزينة ودموع الاغتراب المنسوج بأيدينا، نُلبِسُها، أميرةً، تاجَ الحكم والحِكمة، لتعلو الوجوه الحزينة، والأفواه المزمومة خوفا، ابتسامات وقوة تُمزّق تذاكر السفر الحزين، وتُشعل نحو المدى هالات النور والحب والسلام.

المحبّة، قيمةٌ لا تُنتظر، بل تُعاش، تسير إليها النفوس الباحثة عن الاطمئنان، المحبّة لا تضرب للحب مواعيد، إنها الموعد. فمتى نرفع عن دواخلنا مقاصل الوأد، ونفتح المدى امتدادا للمحبّة؟

هل نمشي للمحبّة أم ننتظرها في محطات الأحزان البئيسة؟ فالمحبّة لا تُنتظر، وقلَّما تضرب للسلام مواعيد.

للمحبّة، حضور الضياء، فلماذا لا نسكن الضياء؟

لماذا لا نسكن المحبّة؟ لم لا نُجرّب؟ نسكنها علّها تسكن فينا.

المحبّة فعلٌ للمساكنة والمعايشة، "فهي الطريقة التي من خلالها تتلاشى المسافات وتنقشع الحجُب"[3]، يكفي ما في هذا العالم من كُره وألم، ذاك مقامُ التّدنّي والسقوط، لكن "المحبّة هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبّة مقام"[4].

للمحبّة مقامات، مقام التجاوز أساسها، إذ لا يُدرك لذّتها إلاّ من خرج من ذاته وصخبها، وأسرى بروحه إلى مدارج التسامح والتجاوز، واغتسل بماء الصبر، وعوَّد القلب على الغفران وعدم المآخذة والحساب، إذ "وحده السمُوّ بالروح يحرّرك من وسخ الأرض" فتنتفض وتشتعل، وتتحرّر من فخاخ الحقد، فتسمو النفس كلما مشينا إلى المحبّة، فتفرد أجنحتها وتحلّق عاليا تُنشد الهدوء والسكينة والسلام.

مقام الحرية أوسطها، نصنعها بنهارات تُشرق داخل الصدور، تتفجَّر ألواناً بيضاء مُشعّة بخلْطات تتجانس حين تلامس القلب والروح، لتعيش إلى آخر العمر هنيّة مطمئنّة، تورّثُ للآخرين، الآتين خلفنا سرّ المحبّة، الباحثين عن ما يُطفئ جمْر الخوف والحقد، فتلفّهم سكينة القدّيسين والدراويش والمتصوّفة والمؤمنين، كأنها أيقونة الكنائس، أو نور يشعّ هلالا، أو شطحات تضرب في الأرض حتى التوحُّد، تستنزل ما علق بالروح والجسد من أدران وأحقاد، أو ذكرٌ يناجي الله في سماواته، يذوب في الوجود مرتفعا واصلا إلى الجوهر والنقاء، ممتلأً بالحياة، قويّاً خفيفا، يوشك أن يُحلّق مالكا وُسع الفضاء والمدى، مقتربا من الحقيقة، حقيقة المحبّة. إح

المحبّة، قلبٌ متوضّئٌ بالحب، طاهرٌ بالشّوق، عامرٌ بالتسامح والتجاوز، يمدّ جسور التواصل لترطيب يباس الروح، فتشتعل الذات حبّاً، فيحترق الشّوق إلى اللقيا، وتتواشج الأرواح وتتآلف، وتتوحّد الكلمات إحساساً ولو اختلف منطوقها.

المحبّةُ، صورة جديدة للإنسان في علاقته بالآخر وبالكون والأشياء، في بحثه في الأقاصي الغامضة في الذات والروح والعالم عن القبح والظلم والألم لمحوه، وزرع ما يبعث الاخضرار في زوايا الروح الباردة.

مقام الاحتراق أخرها، فالمحبّة، فعلُ احتراق، فكيف تبعث الحياة في ما تراه مواتاً؟

"الإنسان لا يكون ذاته إلاّ بقدر ما يكون الآخر"[5]، كيف فقدَ الإنسان معناه الصحيح، الإنساني، وأصبح أقل قيمة من أي شيء لا قيمة له؟ لم يعد له ما يشغله إلا تلطيخ جدار الآخر بكل ساقط، تافه لا إنسانية فيه. الإنسان أعمق من ذلك، وأكبر من أن يُخندق نفسه في حروب لا توصل إلا للعبودية والذل والندم.

الإنسان قلبٌ ونبْض، حلمٌ ومخيّلة، فنٌّ وأسئلة تُقلق وتدفع للصمود والتغيير، إنسانٌ إذا فتح للقلب أبوابه ليعانق المعنى، ويخلق لكل شيء معناه إلى ما لا نهاية، والمحبّة تُتيح للإنسان أن يخلق عالما جماليا نقيّا، يكون في مستوى الكائن وفي مستوى الكينونة لإضاءة الحياة الإنسانية.

المحبّة، طاقة يجبُ أن تظلّ يقظة تتجاوز كل عرقلة أو مناورة تدعو للحقد، تفتح آفاق وأعماق مسكونة بالنور والضياء، وهي وحدها، حين تحترق، كفيلة بان تُحَوِّل الإنسان من مجرّد كائن يعيش في العالم إلى كائن يخلق العالم باستمرار، لأن الإنسان في حقيقته النقية المفطورة على الحب، نصٌّ مكتوب بوضوح، لوحةٌ مرسومة بألوان زاهية، تحفةٌ منقوشة بأزاميل من ذهب، سمفونيةٌ مُغنّاة بأعذب الأصوات، يسعى إلى مستقبل يطلع من الغيب شاهدا على نقائه، تنبتُ على جوانبه الأزاهير وتحفُّه؛ فالمحبّة، تخلق إنسانا جديدا، كاملا غير مستنسخ، كونياً يتجاوز ذاته كما يتجاوز شبيهه، إذ تُحوّله من مجرد رقم أو اسم أو هوية أو انتماء، إلى تشكُّلٍ آخر جديد، تشكُّلٍ يتكون باستمرار غير خاضع لقانون السكون والثّبات.

المحبّة تاجٌ فوق رؤوس المحبّين، لا يراه إلاّ العاشقون، ليس الذين يُحنّطون العالم والإنسان في رقم لا يُحسن إلا الاستهلاك والكُره وتضخيم الأنا، ولا الذين يغوصون عميقا حدّ تصنيف الناس حسب المعتقد واللون والجنس والعقيدة.. وهم يحسبون أنهم بهذا، أفضل منهم جنسا، ولا الذين يزرعون الكراهية والحقد أينما حطّت خُطاهم يبنون الخراب يرصّونه لبنة لبنة، لا يدرون أن هذا البنيان خراب في حقيقته، تتآكل أساساته، فلا يبقى منه، حين يبقون وحدهم تتقاذفهم أحقادهم، لا تِبْنٌ ولا حَجَر، في حين تتعزّزُ عُرَى الحبّ والجمال في الإنسان، بالمحبّة الحقّة التي لا تعترف بدين أو لون أوجنس، لأنها كلّ هذا، إنسانية، بداية ومُنتهى.

المحبّة قولٌ وفعلٌ وإيمان، فلا تقلْ أنا وبعدي الطوفان والهلاك، ولكن المُحبّ من يقول، أنا والإنسان على طريق واحد نحو بوّابة الإنسانية، ضد الميْز والتّعصُّب والكراهية التي خلّفها الاستعمار، إنسانية تسعى لأن يكون الإنسان قيمة، مشتركا في مصير جماعي يطمحُ لسُمُوّ الفرد وارْتِقائه وبما يتبع ذلك من ارتقاء بالآخر في كُلّيته، وفي ظل قيم تنبني على التسامح والمحبّة التي هي غاية جامعةٌ لا تُفرّق، في غير خنوع أو خضوع أو اتباع أو تنازل، فهي صنوُ المساواة ضدّ تكريس تعالي ثقافة على حساب أخرى. فالإنسان، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في أمسّ الحاجة إلى إنسانيته ليكون، إنسانية كاملة في غير تجزيء، إذ، لا عالم بدون إنسان، الإنسان الذي لا يغيب، الذي يولد دائما، إنسان يعني الذّات والآخر، إذ الوعي بالذات يعني الوعي بالآخر.

وبعد، تأسيسا على هذا الوعي، فالإنسان قيمة وليس كائنا حيا فقط، بل ذاتا بالمحبّة يسمو، ويعي العالم ويسعُه، وتجعله يسع الإنسانية في منظورها الشمولي الجامع للقيم السامية فيرى نفسه كما يرى الآخر، يسعى إلى رفاهيته واحترامه، بعيدا عن الحسابات الضيقة وبعيدا عن السيطرة والهيمنة والاضطهاد والظلم والميز.

إن الاعتراف بإنسانية الإنسان، والوعي به في إطار المحبّة والتّضامن، يُحقّقُ التّطلّعات لبناء مجتمع أخلاقي يتطوّر ويتقدّم، يقاوم الفكر الوصولي التخريبي والانتهازي المُشيِّء لحقيقة الإنسان وغاياته في هذا العالم.

والمحبّة بمفهومها العام، تعطي معنى للحياة، ودافعية إلى التفكير في العالم والإنسان، وطرح أسئلة وجوده المتكافئ للجميع بعيدا عن التمييز والعنصرية والكراهية، في زمن ضاع منّا فاسِحاً مجالا أرحب للعولمة المتوحّشة والأنانية، إذ بالمحبّة نستطيع أن نوجد معنى جديد للوجود، قد تكون الأفق الذي ينبجس منه النّور المُضيء الذي لا يوفّره العلم ولا السّياسة، النّور الذي يشعُّ من إنسان يؤمن ب أنا والإنسان نحو محبّة الإنسان.

 

[1] ـ الأجنحة المتكسرة، جبران خليل جبران، مؤسسة خليل هنداوي، 2012. ص 19.

2 ـ جبران خليل جبران رمل وزبد، ت: انطونيوس بشير. مؤسسة هنداوي. 2020. ص 40

[3] ـ جلال الدين الرومي

[4] ـ أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين.

[5]  ـ أدونيس. موسيقى الحوت الآزرق (الهوية، الكتابة، العنف).دار الآداب بيروت. ط 2. 2011. (ص342).

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة