هأنذا أعودِ إليك أيّها البحرُ الأسود...!
يا بحري الرهيب، وحدكَ كنتَ شاهداً على انخذالي، في ذلكَ اليومِ الغابر كأغنيةٍ شتويةٍ مخنوقةٍ، يوم قَتَلْتُ اليهوديّة العاهرة، وصرعتُ الشيطانَ الأحمر الذي كانَ يدحرج روحي في أدراكِ الجحيم، جحيمُ العشقِ الوسخِ.
أعودُ إليكَ، وقلبي خربةُ أحزانٍ؛ حطبةٌ يابسةٌ قابلة للاحتراق. في الجسمِ جرحٌ وفي الروح جرحٌ ينشرخُ أكثر كلّما تراقصت صورتها في ذاكرتي.
أذكرها الآن، ولم يزدها بُعْدُ الأيامِ إلا ظلمةً، تَمْثُلُ أمامي هوجاء كدوامةٍ مفاجئةٍ تتصيّدُ صياداً غافلاً يمخرُ عبابَ موجٍ مبهمٍ.
تنثالُ عليَّ صورها كجلمود صخرٍ يهوي من أعالي جبالِ الريفِ المتلفعةِ بجلابيبَ بيضاء، والمتأبيّة عن الكلام؛ مكتفيّة بالصمت المثقل بالأسرار والتاريخ. آه كم هي أليمةٌ هذه الذكرياتُ الكابيّة التي لا تنغل إلا في كبدي المتشمّعِ...!!
راشيل..راقصتي اللعينة..كلّما استعدت غناءكِ انشدخ قلبي وفاضت أوجاعي. الدنيا قاهرة. جائرة أكثر مما نتصور. كلما أحببنا فيها محبوباً بصدقٍ لاحتْ مثالبهُ في الأفق السحري للغياب وفاحت روائح خيانته...
في منصة الفندق، كانت تقف كنارٍ لاعجةٍ تلهجُ بأدخنةِ الردى، ترفعُ يدها اليمنى بثباتٍ وتطوي ركبتيها في حركةٍ دائريّة متوهجة، لتقفز بعدها بخطوات متسقةٍ ومنسجمة، لكأنها شعلةُ نورٍ تتراقص في ظلامٍ داجٍ. ثم، تتناوسُ بانسيابيّة مذهلةٍ، رافعةً يديّها عالياً تحاول سرقة نجمةٍ شريدةٍ في سماء الله. كلُّ رواد فندقِ الوئامِ كانوا معجبين بها حدّ التلف. حدّ الهذيان.
أليست هي راشيل، شيطانةُ العهر النجسةِ، نار الفاسقين الحاميّة، وخنزيرة البراري الموشومة بالخطيئة والمعصيّة.
كنتُ غيوراً عليها كثيرا، وأخطأتُ في غيرتي هذه، كلّما رأيتُ معجباً يبدي لها ابتسامةً، زجرتهُ بعيني، كنت أريدها لي وحدي، لكنّها، لم تُخْلَقْ لِتُمتلك، بل كانت عاهرةً سائبةً، مهووسة بالغناءِ ومسكونةً بروائحِ القُحْبِ الإباحي، منذورةً للشبقِ المتعفنِ.
كانت مارقةً أكثر من زوجة لوط وكافرةً كفراعنةِ مصر القديمة. في الحياةِ محنٌ ترجفنا جميعاً، لكن في حياتي الآثمة، كان حبُّ اليهوية خطأً فظيعاً أَذْهَبَ عقلي، وجندلني، شرّدني وتركني ألوكُ حيرتي وتيهي. نخرَ كياني وتركني كشجرةِ أرز مجوّفة الباطن. حتى قلبي الوفي خذلني، حينها، وتدثر بوشاحهِ البالي مهرولاً نحو قبرهِ المتهدّم. قالت لي ذات غسقٍ ناعسٍ مُعاتبةً:
- كفاكَ غيرةً يا حبيبي، أنت تعرفُ أني أمجُّ جنسَ الرجالِ، ليس لأنني أستصغر قدرهم، بل لأنني أومن أنا داخل كلّ رجلٍ يرقدُ ديكتاتورٌ صغيرٌ، لا يعرف إلا الأمر والنهي، يا حبيبي أنا لم أولد لأكون خادمة لسيّد حقير، ما يعرفهُ هو سريرٌ وثير، وامرأة لذيذةٌ كتفاحِ الأطلس الكبير. أنا راقصةٌ حرّة. أتفهم معنى راقصة حرّة؟
- وهل طلبتُ منكِ، يا راشيل، أن تكوني، يوما، خادمةً لي، ما أطلبهُ منكِ هو أن نعيش معا، تحت سقفٍ واحدٍ، نتبادل الحب المخمليّ، بعيداً عن عيونِ الحاقدين، أن نستنزف كلّ هنيهة في العشقِ، عشقِ بعضنا.
- كلامُ الحبُّ يا صغيري ما عاد يُقنعني، هي لحظات نقضيها، بعد ذلك يمضي كلُّ منا في طريقه الذي اختطّته الصدفة له. اغنم حياتك، ياصغيري، مثلما هي برهة حبلى بدمِ العسل الشهي كما يقول درويش.
- اقتليني يا لعينة، حطّمي هذه الخربة الماثلة أمامكِ، أو اتركني كما أنا، طائراً مهيضَ الجناح، أناغي جروحي الناغلة والنابضة بأوجاع الانهزام.
نظرتْ إليّ نظرةً حائرة بعينيها النسريتين، وأخذت تسدُّ أزرار فستانها عند الصدر النافر بتوحشٍ، والهائج كجموسٍ في أدغال إفريقيا، صدرٌ حاضنٌ لنهدين مشاغبين كسنجابين في غابةٍ عذراء. كانت تتعمد قتلي. فهي تعلم أنني ضعيفٌ أمام قوامها الميّاد الفاسق، وبياضها المُغري والمشع كقمرٍ في ليلةٍ لا محاق فيها. لم أستطع تمالكَ نفسي، فاحتضنتها بكلّ لهفة، وأطبقتُ شفتيّ على شفتيها الثائرتين، كنت أشعر أنني أغرقُ في بحرٍ لجيٍّ لا قرارة له، أغرقُ بكل إرادتي ولاإرادتي، وتغرقُ راشيل معي بكلّ شذوذها. ولما استبد بي الشيطان الأحمر، عُجتُ على عنقها المرمريِّ وطفقت ألثمهُ بانتشاءٍ وشهوةٍ. بينما راشيل تتأوه مستلذةً شبق هذه اللحظة المنلفتة من حدود الزمن.
قلت لها وحرائق جسدها تشبُّ في كياني:
- للحبٍّ وقتٌ، وللزمن نهاية، وللروحِ مدافن، فلندفن إذن روحينا في هذا الغسق النبيذي، ما معنى الحب إذا لم يكن انتحاراً عند أبواب القيامة...
ردت بصوتٍ رخيمٍ:
- توقف عن هراءِ الشعراءِ..الحبُّ لفظةٌ ما عادتْ تعنيني..اسْتُهْلْكَتْ..هناكَ حقيقةٌ واحدةٌ يا صغير، هي هذا الجسدُ المكتظُّ بالرغبات والفجور، الباقي خطرفاتٌ وشقشاتٌ شعريّة لا معنى لها.
كلُّ أيامي عذابٌ مستمرٌ..جحيمٌ متلظٍ...أوهام تعضني عضاً..تتحامني في وحدتي وتنسفُ يقنياتي...حبّك بهدلني، شرّدني، بدّدني، ويالتيك كنتِ تستحقينهُ...!!
ياليتكِ ما مارستِ عُهركِ، أيتها الباغيّةُ، يومها أمام مرآى بصري، كان ذلك ككابوسٍ مُفْجِعٍ. نزلتِ من سيارة المرسيدس الفاخرة وأنت تخاصرين أبي بحقارةٍ وصفاقةٍ.
آآآه، أبي الذي أحببته بشغفٍ ولهفةٍ يخاصرُ معشوقتي المسعورة. كنتما تقهقهان بمجونٍ عنيفٍ. تتغنجان في تمايعٍ سافرٍ. وأنا أحترق، أتعذب، أكتوي بلظى الخيانة. خيانة أبٍّ قذفني، في غفلةٍ منه، داخلَ رحمِ احتضنني ردحاً من الزمن، بعد ذلك طوَّح بي عارياً إلى عالمٍ آثمٍ، ظالمٍ، وعبثي. أمي ماتت يومَ تقيأتني وانطفأت كشمعة يتيمة في ضريحٍ للا فاطمة البحرواية.
وراءَ الأعمدة المرمرية لفندق الوئام، قرب مسبحٍ مفتوحٍ على الذاكرة وبحر الشمال، كنتما تقبلان بعضكما بعضا. أباً ضليلاً ومعشوقة عربيدة. ما أتعسني، ما أوحدني في هذه الظلمة الغاضبة. جرّك من فستانك الرّماني الذي اشتريته في عيدِ ميلادكِ. والتصق بصدركِ الراعفِ بأنغام الشهوة واللّذة، وأخذ يقتنص من شفتيك الآثمتين قبلاً تنزل عليَّ كخناجر ناريّة توغر في جوانحي، وتمزقُ نياطَ قلبي تمزيقاً دموياً رهيباً. أرتجُّ، أهوي، أترنَّح، أَسْقُطُ وتَسْقُطُ عليّ مجراتُ الكونِ بكامل ثقلها. هذا جزاء من أحبّ قحبةً على قارعة الشارع، وهذا جزاءُ ابنٍ لَفَظَهُ أبٌ بليدٌ يركضُ وراء غريزتهِ الكلبيّة الجائعة.
تُفٍ عليكم جميعاً يا حفنة الخونة العراة...
تسللتُ من بين أشجار السرو الباكية، والدموع تتطاير من مقلتيّ دماً، صديداً، قيحاً..انعطفتُ على الجانب الأيمن، وعجت على نافورة الماء الرخاميّة التي تقع بين ساريتين شامختين، في لمحةٍ مسروقة وبرقيّة، رأيتُ اليهودية ترقصُ كغصنٍ رطيبٍ في شجرةٍ رعناء، وأبي يصفق بيديه اللتين أعتدت تقبيلهما، توهماً مني أنهما موطنُ الطهر والأبوة. لم أكن أظن يوماً أنّ أبي سيكون بكلِّ هذه القذارة.
فلتشهد أيها البحر الحقير على جريمة أبٍ وقحبةٍ مصنوعين من معدن الخيانة. ذنبي أنني كنت ابن بارونِ مخذراتٍ وعاشقَ عاهرةٍ يهودية جائعة.
فلتشهد أيّها البحر الغاضب كروحي، وليشهد معك اللهُ في عرشهِ السماوي العالي، أنّني ضحيّةُ مضاجعةٍ تافهة. وأنَّ الشقاءَ ولدَ يوم ارتطمتُ بعشب الأرض الباردة.
وأنا أكفكف دمعي الهابط من أعالي عينيّ الحمراوين، أشاهد أبي يلتقم نهديّ راشيل المتفجرين بياضاً، يمصُّ حلمتيّهما الكرزيتين في رعشةٍ واحتراق، بينما هي تتلوى في تضاريس جسدهِ، تعوي كذئبةٍ طواها الطوى، وتنحني على رقبته متحسسة سفوحه الأفعوانية.
أبكي دماً. يضلعها إليهِ ويقعدها على ركبتيه المرتجفتين. لم أستطع إكمال المشهد. أمسكتُ مسدسي ووجهته مباشرة نحو رأسه. كان الشيطانُ الأحمر يزينُ لهما سوءتهما. ويزيّن لي قتلهما. سقط المسدس من يدي. سمعت صوت الحراس قرب الحائط الخلفي. لبدت مكاني. طمرت رأسي في الأعشاب السائبة، النابتة قرب جوزة يائسة. تواريتُ خلف جذع الجوزة الطاغية في الأرض والسماء، ورائي بحرٌ يقف كشاهدٍ آزلي على جريمتي وأمامي فندق يواري خيانةَ أب وعاهرة. رفعت المسدس نحوهما وضغطت على الزناد، في رمشةِ عينٍ تهاوت راشيل كحجلة في الغابة بعد أن اقتنصتها بندقيّة صيادٍ ماهر.
ثم لبدت مكاني بقلب كسيرٍ، ارتعدت فرائصي، قواي العقليّة تدحرجت ككراتِ ثلجٍ تنزلق بقوةٍ من قمم الجبال، نازلةً نحو السفوح وهي تجرُّ معها كلُّ الأماني.
التقطت مسدسي الذي كان قد سقط مني خوفاً. استرقت النظر. ألفيت أبي يجرُّ جثة راشيل إلى داخل الفندق وهو يمسك في يده اليمنى مسدس ماغنوم من الطراز الرفيع. لابدّ أنه كانَ يصفي به أعداءه الذين كانوا يزاحمونه في تجارة المخدرات. يالك من أبّ نذلٍ وأجلف! أهكذا تكون الأبوة!؟ فلتخسأ روحكَ أيّها السافل الخائن. وأنت أيّها البحر اشهد على طهري ونقاء روحي، فجريمتي جريمةُ عدالة وردُّ اعتبار، جريمة تربأ عن الواقعي فينا وتعانق الأسطوري الخافق في مغاور النفس المنسيّة.
نهضت بسرعة ركضت نحوه بكلّ اشتعالٍ واهتياج، ثم صرخت: أبي خذ إليكَ هذه الهديّة. هديّة ابنٍ بارٍ لأب أخرق. وضعت يدي على قلبي المدّمي، قلبي المزدحمِ بالغلِّ والفجيعة، ثم ضغطت على زناد المسدس فانقدحت رصاصة نيزكيّة شجّت رأس الرجلّ الضليل...