بعض الأسرار تستحق الموت من أجلها، وكتمانها يتطلب قلبا جامدا كالصخر وروحا لا تعرف التردد والخوف. وأن تدرك أنك تخلصت من الجاذبية فذلك إحساس ممتع ، لكنه يصير أكثر إمتاعا عندما تجد نفسك معلقا بين السماء والأرض، لا أنت مشدود بحبال تجنبك السقوط، ولا أنت تستند إلى أعمدة تساعدك على الوقوف، أن تشق الضباب وأن تصير أقرب إلى الشمس، وأن ترى كتل السحاب تمر حذوك وتخترقها، وتنظر إليها من أعلى...حينها تحس أنك صرت بعيدا بعيدا، لا تدري كم يبلغ ارتفاعك، ولا تدري كم تبلغ درجات الحرارة التي لا يفصلك عنها سوى زجاج نافذة صغيرة تطل منها على الخارج.
طائرة تعاند الطيور وتحلق عاليا لتنقلك من وطن إلى وطن، وبين إقلاعها وهبوطها تغتالك الخيالات وتفزعك الهواجس وتتناهشك الذكريات. فهناك على تلك الأرض تركت خلفك كل الذين تحبهم، الوالدة والأبناء والزوجة والأخوة والأحبة. هناك على أبعد من مرمى البصر، وتحت هذه الغيوم التي تموج تحتك تركت من سكنوا شغاف القلب وأناخوا رواحلهم بين جوانح الروح.
ملاحقــة – قصة: نجيب الخالدي
تتفجر الأرض ضبابا، تنهمر من السماء قطعُ سحب كصخور نارية، زخات داكنة تقرع الأرض في صوت مائج يرجرج المكان، سيول لزجة متدفقة تخترق كل الضفاف حولي، وأوْحال في غليان هائج تنبعث منها أشباه فقاعات عملاقة متناسلة لا يحدّ انفجارَها تكاثرها اللامتناهي... تتقلص الرؤية فتستحيل أمامي المرئيات ظلالا وأشباحا بأشكال هلامية يستصعب التحقق من طبيعتها. تمور الأرض من تحت قدميّ، أصرخ ملء قواي، فلا يُسمَع لصراخي صوت ولا لنداءاتي المتوسلة.
يتأجج هذا الاضطرام الداهم، وجوده العملاق غير قابل للمغادرة، وكل المؤشرات لا تدل على رحيل محتمل. أمدّ يدي اليمنى التي انفصلت عن بدني نحو ما يتراءى لي من هذه الأشباح والأخيلة، لكن ضجيجا صاخبا يعلوه صفير حاد يخترق رأسي، فيفجر دماغي وما تبقى من أعضائي. تواصل يدي انبساطها صوب وجوه كثيفة لا أخطئ تقاسيمها، تنظر إليّ بعيون نافرة ملتهبة، تتعاظم ضحكاتها والقهقهات منها تدك جسدي...
في مديح "الغْريبية" – نص: محمد العمراني
لعل الكثير من رفاق الزمن الماضي يتذكرون أياما كانت الحلويات والسكاكر فيها عزيزة ونادرة. نظل نرقب الأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية لنحظى بقليل منها؛ نتسابق إليها، نلوكها بكل لذة، محاولين إطالة مقامها داخل الأفواه قبل أن يتلاشى مفعولها السحري وتذهب معها لحظات سعادة عابرة.
والحقيقة أن خياراتنا أمام تلك الحلويات كانت قليلة ومحدودة، فهي في كثير من الأحيان أشكال وأنواع بسيطة دأبت الأمهات على تحضيرها داخل البيوت بما توفر فيها من مواد، دونما حاجة لاقتناء أخرى إضافية من الخارج: (دقيق، سكر، زيت، زبدة، ماء الزهر...). ولإعدادها، لم تكن المبتدئات من الفتيات والسيدات يلجأن للكتيبات الخاصة بصناعة الحلويات ولا مشورة مواقع الإنترنيت كما هو حاصل زماننا، بل يقبلن عليها بعفوية وشجاعة فتأتي في أحسن شكل وألذ مذاق.
مذكرة سوداء – قصة: محمد مجي
عرقلني الوتد وسقطت أرضا ،نهضت ونفضت يدي من التراب ،لعقت جرحا بسيطا في يدي بطرف لساني ،ثم انتشيت بدمي الحلو ٠ انتقلت إلى الجهة الأخرى للشارع ،وجلست في المقهى كباقي الرواد ،أتى النادل ومسح مائدة قدامي ،نظرت إليه ثم اردفت : كأس قهوة من فضلك ،بعد مدة قصيرة ،عاد إلي النادل وهو يحمل كأس قهوة ٠ في الباحة الخارجية للمقهى جلس رجل أشيب ،يعتمر نظارات بصر سميكة ٠ كان مشغولا بكتبه المبعثرة فوق المائدة ،يقرأ ويخط شيئا في مذكرته، ظهر على ملامحه المتشنجة أن شيئا ما يؤرق باله ،بحلق في كتبه طويلا ووضع قلمه فوق مذكرته ،ثم نهض وجمع ياقة معطفه ،وشرب آخر جرعة ماء تبقت في كأسه ،ثم مسح فمه بكمامة معطفه ٠
حكاية قلم – قصة: هاجر لحمين
- سألَته قائلة من أنت ؟
- أنا قلم ... و أنت ؟
- أنا حكاية ... فاكتب ما تود قراءته
- أجاب غاضبا: كفى من التراشق بالكلمات
- ردت ضاحكة: أنت من بدأ أولا
- حقا أنا أسألك عن ماهيتك ؟
- ماهيتي هي إعادة سرد ما تمت كتابته سواء أكان يُسعد أو يحزن، فماذا عنك وعن وظيفتك ؟
الموت في لندن – نص : مأمون أحمد مصطفى
عزيزي يوسف
لا أعرف تماما لماذا أكتب لك هذه الرسالة، ولا أدري لماذا اخترتك دون غيرك من بين جميع أصدقائي لأوجه لك هذا الخطاب. ولكني على يقين تام بأنك كنت تربك هواجس نفسي لا شعوريا، حين كانت تحلق أفكاري على مساحات الوحدة والانطواء، التي لفعتني بظلالها القاتمة وأنا أنتظر دخول غرفة العمليات، ليتمدد جسدي فوق سرير السلخ، وتحت كشاف حاد النظرات، وقح العينين.
لا بد وانك تعلم مدى شجاعتي ورباطة جأشي فيما يتعلق بموضوع غرفة العمليات. إلا أنني هذه المرة عانيت معاناة شديدة. أوصلتني إلى حد الرعب من إجراء مثل هذه العملية. ولا اعلم حتى الآن سبب هذا الرعب. إلا أن فكرة الموت سيطرت على عقلي سيطرة كاملة، حتى وصلت إلى درجة الإيمان العميق بأن يوم وفاتي متعلق تماما بيوم دخولي غرفة الجراحة. وبدأت هذه الفكرة تتسلط على نفسي وتتناوشها من شتى الجهات، حتى اعتصرت حمرة أناملي وتوردت وجنتاي. وقذفتني بكل سوداويتها إلى إحساس مجهول أمام تصور الموت، ومفارقة الحياة. الحياة الزاخرة بتدفق الروح والنشاط في كل شيء.
النبي المجهول – قصة: حدريوي مصطفى
تقاسيم عذبة تتنازع ُرناتِها عود، وناي، وكمان؛ وجمت لها الحساسين المقفوصة، واستكانت فوق غصن يابس لشجوها الحمامة البيضاء ، أما هو فكان يتمايل على إيقاع النغمات ويده الدربة تشج الجص إزميلا؛ غارقا بين الشدو وهائما بين ثنايا الزخارف!.
أنهى عمله، مقرنصة(1) ثُمانيّة تتعاشق أضلعها وأشعةَ شموس، ورؤوس نُجيمات ؛ في وسطها كان قد زرع - سلفا - حلقةً فولاذيةً، وفي الحلقة تبّث حبلا أزرق مائيا مُنتهٍ بأنشوطة على هيئة رأس أفعى.. طرفُها ؛ ترجّل عبره متأرجحا كبندول، ثم أزاح الكرسي جانبا. ومال على الحاكي (2) ورفع الشوكة، فتوقفت الموسيقى الحزينة، وارتفع شدو الحساسين، في حين صفّقت البيضاء بجناحيها وانطلقت عبر النافذة المشرعة تشق الفضاء، تروم استرواحا...
الاغتيال – قصة: الحسين لحفاوي
ما إن أنتهيت من توقيع الإضبارة التي قدّمها لي ضابط ثلاثيني، يجلس خلف مكتب عريض لم يصنع لأجله، دون أن يكلف نفسه رفع رأسه للتحديق في عينيّ، حتى ضغط بيمناه على زر، فصلصل جرس في الخارج. حينها دخل رجلان يرتديان زيين عسكريين. كان أحدهما بدينا، يكاد بطنه يفجر إبزيم زناره، وجهه مدور، و حاجباه غليظان، حليق الشاربين. و كان الثاني نحيفا بشكل مفزع، بدا في ثيابه الفضفاضة كالذي يرتدي ملابس مضحكة. لم أُدم التحديق إليهما، و فجأة استند الضابط بيديه على المكتب، ويستوي واقفا: "خذا هذين الجرذين إلى الزنزانة حتى..." لم أتبين بقية الكلمات، إذ سرعان ما هجم عليّ الشرطيان وسحباني بعنف، ثم انصفق الباب بعنف اهتز له الرواق الطويل الممتد.