صرّح القاضي بحكمه على ياسر دون أن يرفع إليه بصره ليحدق في عينيه، ثم راح يقلب أرواقه بيد مرتبكة وهو يقرأ بعض التفاصيل من وراء نظاراته السميكة محركا أصابعه في حركة رتيبة، وأمر مساعده بمناداة اسم المتهم الموالي، ودون اكتراث بالضجيج الذي علا في القاعة، راح يسأله عن سبب محاولته اجتياز الحدود خلسة.
"الإعدام شنقا حتى الموت"، ظلت هذه الكلمات تتردد في ذهن ياسر الليل طوله وهو يئن في ظلمة الزنزانة منتظرا حلول الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، ففي مثل تلك الساعات اعتاد الحراس تنفيذ أحكام الموت على المحكوم عليهم بها، ففي مثل تلك الساعات يصفو الدم في الجسد وتهدأ النفس فلا تصدر الضحية ضجة أو صراخا، يأتيها الموت يسيرا، تسافر الروح لتعرج في السماء، تستقبل الموت في صمت، فللموت رهبته وهيبته وسطوته. في مثل تلك الساعات لا يرى الضحية وجوه مُعدميه، وجوههم مقنّعة لا تُرى إلا عيونهم بنظراتها الثاقبة الجافة الجارحة. لا يسمع إلا أزة الكرسي تحت قدميه، لحظات وينتهي كل شيء، يتدلى الجسد في استسلام، يُدق العنق، تكاد أذنه اليمنى تلامس الكتف، وتظل العينان مفتوحتين على آخرهما تحدقان في منفذي هذا الحكم القاسي، ففي الحدقة تنطبع صورة القاتل، وترسم ملامحه.

إلى التي نسيت ـ تقريبا ـ كل العالم إلا أنا.
وحين  تُغلب تناديني :يا ابن أمي!
فيستغرب الملأ من حولها : أهذا أخوك؟
ترد مدارية عثرتها صائحة: أو تظنون أني فاقدة ذاكرة؟
أعرف... ذا ابني، وأخي، وصديقي، ذا نور عيني!
إلى أمي.

شعاع دافئ يمسح براحته وجنتَيَّ، ويسحب مني  سكرات نوم لذيذة انتزعتُ انتزاعا  بواكرها لدى نواصي الفجر، اتقيته بأن دفنت رأسي تحت الغطاء القطني، وتكورت تكويرة جنينية علني أستمد من التصاق بدني  ببعضه البعض حرارة تعينني في أسر فلول النوم الهاربة... ما كدت أفلح حتى ضج المكان من حولي بشبه جلبة  جميلة الوقع  مألوفٍ لدي  جرَسُها؛  أصغيت لاستجلاء مصدرها لكن ما أصبت. فرميت بتوتر  غطائي جانبا  وفتحت عيني المثقلتين نعاسا، فداهمني خيط نور ثاقب منسل من بين الستائر البيضاء الشفافة وهجه، أغمضت له عيني و سارعت  في دعكهما لأبدد ما كان نصيبي من ألم؛ بعدئذ جعلت أفتحهما على مهل ليستأنسا بموجة الضياء المنتشرة في الغرفة، وبوصلتي  لا تبارح  قيد درجة  مصدر الجلبة، فرأيت  ـ إذْ رأيت ـ من خلال الستائر الشفافة  طائريْ دوري يتناقران  ويتناغيان وهما يذرعان - كراقصي بالي - جيئة وذهابا طول الإفريز الممتد  وعرضَ الشرفة.

خلال السنتين الثانية والثالثة من سنواتي التي أمضيتها بأكدز وضواحيه، كان مجمع آيت املكت بالنسبة لي مكان عبور أخترقه جيئة وذهابا عبر المسافة التي تفصل بين مجمعي آيت حمو أوسعيد وآيت خلفون. كنت أعبره من جهتين: إما من الأسفل عبر مسرب يمتد على طول الضفة الغربية وإما من الأعلى عبر طريق غير معبدة تمر وسط الدوار الذي يظهر مثل أخطبوط يحاول تسلق الجبل. وفي السنة الرابعة، تشاء الصدف أن يصبح آيت املكت بالنسبة لي مكان إقامة.

يبدو أن كل الأمور التي لها ارتباط بالضحك والفرح في بلداننا السعيدة مقيدة بمناسبة إلا أنه بعد فواتها يعود الفرد لعادته الطبيعية وانشغالاته اليومية ،وهو تعبير صريح عن التسلية والمرح كما أن للضحك فوائد كثيرة منها دوره في إفراز الجسم لهرمون يقوي المناعة وكذلك الدورة الدموية في القلب ٠٠ وعلى حكوماتنا أن تأخد بعين الاعتبار هذا المعطى الفريد من نوعه لأن هذا النوع من الضحك من طرف حكوماتنا يصدق عليه فهم أرسطو للضحك  "نحن نضحك على من هم أقل منا وعلى القبحاء من الأشخاص، والفرح يأتينا من الشعور بأننا طبقة أعلى منهم" وهذا هو أصدق تعريف يمارس علينا، فبلادتنا وخنوعنا وقبحنا يثمن هذا التعريف.

أحقا يبكي الرجال ؟
وهل يبكي الرجال إلا الرجال ؟ وهل ترحل الأوطان من مسافات الزمن إلا حين تهمي دموع الرجال ؟ وهل تنسكب البراكين من عيون غير عيون الرجال حين تستسلم للدموع والبكاء ؟

للموت مذاق آخر ، لا يشبه مذاق الموت القادم من ملك اصطفاه الله – جل شأنه – لانتزاع الروح من جسد يحن إليها وتحن إليه ، هو موت في الروح المتحركة داخل جسد يسير على أرصفة الأيام ، وطرقات الساعات ، وزقاق الألم ، لهذا الموت مذاق ، يعرفه الرجال ، حين تغيض رجولتهم ، وتجف ذكورتهم ، وحين تتراءى الأشياء المقتحمة مرايا الأرض والزيتون والدحنون والحناء ، وحين تتساقط حبات الزنزلخت وتجف أعواد الحور ؟

ليست قصة أن تستيقظ فى الصباح، تنزل من فوق سريرك، تغمر السعادة روحك، لتتجه إلى الحمام، تقف تحت الماء الساخن لتغسل أحلام الليل وتعيد ترطيب شفتيك، تعد كوبا من الشاى، ثم ترتدى ملابسك التى اختارتها هى وجهزتها، وتترك قبلة صغيرة على وجهها البرئ البشوش -لا تكفى لطرد الأحلام الساكنة فى عينيها- قبل أن تغادر المسكن لتذهب إلى العمل... تستمر فى عملك حتى انتهاء ميعاد العمل الرسمى وتسرع عائدا إليها.

كان الليل قد زحف بظلمته القاسية على الفضاء المكتوم الذي لا تكاد ترى فيه سوى السواد القاتم وأطياف المساء الهاربة، ولا تكاد تسمع فيه إلا أنفاس ريح باردة وحشرجة الإبل التي تجتر الكلأ الذي التقمته في النهار. بالجانب الآخر، تحت سماء مرصعة بعناقيد النجوم، بددَّ الطوارق هذه الظلمة بنارٍ كبيرة أوقدوها بالقرب من بئر مغطاة في قلب البيداء دفعاً للبرد القاسي الذي يسكن أطرافهم وأفئدتهم.
ما إن نالت أجسادهم بعض الدفء حتى بدأت قهقهاتهم تتعالى شيئا فشيئا وتخرق سكون الصحراء بأصوات مشتاقة للبوح والانعتاق. اتخذوا من الرمال فُرشاَ طيبة وبدأوا سهرتهم. الحق أنهم كانوا في أمس الحاجة لهذا السمر الذي يصيبون به عادة شيئا من الحُبور ينسيهم تيه السنين القاسية وطول المسافات البعيدة التي لازلت في انتظار خطاهم.

كم كان وجهُكَ وضَّاءا أيُّها الغـُلام !
اِحفر في التراب سَمْـتا ، يُذهب بك إلى عوالمَ جديدةٍ ؛ عوالمُ تعنُّ لك مقاماتـُها البهيّة ؛ شبقيـَّة و قرمزية . لا تبال فإنكَ قطعةٌ من رُخام يُكتب عليه شواهدُ لأسماء موتى ، ذهبوا ولم يعودوا أبدا .
هذه قريتي ... هذه بلدتي ...
بعيدة و ضريحُها أبيضُ ، و شواهدُ قبور ... كلها تعرفني . فعندما دفنا ذات الرِّجل المعقوفة، ذات مساء أغبر ، قرأ الفقيه ما تيسر من القرآن ، ترحُّما على الجسد الطاهر المغسول بالثلج  والبرد .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة