هناك أنا آخر بداخله، أنا هذا يشده حتى كأنَّهُ لا يستطيعُ التنفس، يجرُّهُ إليه، يسحبه إلى الداخلِ، إلى أعماقه بقوة وبلا هوادة، صرخ بكل قواه، فردَّ عليه الصَّدى القابعُ وراءه...
تغوص أناه، تسحب أظافرها التي كانت قد غرَسَتْها حول رقبتهِ حتى كادت تزهق روحه...صارت تنظر إليه شزرى من داخلِ عينيهِ الجاحظتين، ولم يكنْ ليرَى وهو داخل في أعماقه...!! وبكثيرٍ من الريبةِ والهذَيان يتساءلُ: لم هذا البناء الشامخ بدون باب أو فتحة؟ وكيف وجدت هنا؟ كأنَّه عالمٌ بلا منفذ، احتجز فيه وأحاطه من كل جانب، استرجع ما شهدته جدرانُ زِنزانَتِه من خربشات وخطوط ظل يرسمها دهراً طويلا، يُفْرِغُ فيها ضَمارَهُ الداخلي، وينفثُ فيها آهاتِه المحمومة، أما نوره الباهرُ الذي يمحو ويبدِّدُ الظَّلامَ فكان من الأعلى....

يلاطفها ويهمس لها بكلمات، تهرب منه ويركض نحوها، يناديه أحدهم؛ فيمتنع. يصعدان منحدرات الحديقة سويا ثم يتزحلقان سويا، يتبادلان الكرة والنظرات، يزعجهما أحد الشباب بدعوى مشاركتهم اللعب؛ فينصرفان عنه ويتركان له الكرة وأشياء أخرى.
من بعيد أتأمل حركاتهما وأراقب تصرفاتهما وأتساءل كيف لهما أن ينجذبا إلى بعضهما في أول لقاء، في محطة الاستراحة هذه، في مدينة أعلم أنها أول مرة تمر حولها؟
لعلها الأوهام يا سيدي ليس إلا؟ ابنتك ما زالت صغيرة، وما تلك الحرارة المنبثقة من جسديهما سوى هلوسة رشحت من ماضيك البعيد، هما يلعبان فقط لم تنفرد به وهو لم يفعل.. فقط هي الذكرى لم تنفك تتجسد أمامك في كل لحظة سعادة لتحولها إلى بؤس وشقاء...

يفتح باب سيارتي، يجلس إلى جانبي بكبرياء شهي، أَنطلقُ بسرعة، تمر لحظات دون كلام، أنسى أنّ أحداً معي ،أنظر في مرآة سيارتي،ورائي سيارة مُحاذية،لستُ أدري لماذا بدت لي بدون سائق(تهيؤاتي التي لا تنتهي حين أتعب في عملي)،هو ينشغل بالبحث عن موسيقاه المفضلة من هاتفه، يستقر على أغنية أمازيغية لـِ خالد "إيزري"، تكسر الصمت المخيم ،تنداح من حولنا "رالابويا"، راح يدندن معها؛أغنية جميلة،لكن صوته نشاز..عكرها تَماماً.
تكلمتُ أخيراً : "ماهي أخبار ميمونت "
يصحح لي " ثميمونت .. كم مرة أنبهك..."
(قال أنبهك، وليس أصحح لك.)

على ضوء ضئيل منبعث من فانوس متشبث بالجدار لم يفارقه منذ عُلِّق عليه، انكبت سارة على الرسالة التي وصلتها هذا المساء تقرؤها وتعيد قراءتها، تتوه بين حروفها وكلماتها، تتنكب المعاني وتلهث وراء الرموز المبثوثة فيها، تحاول جاهدة فك الطلسم الذي خطه المداد على بياض الورقة. لم تجد صعوبة في القراءة والفهم، فقد تعلمت أن تقرأ الرسائل منذ زمن رغم أنها لم تذهب يوما إلى المدرسة ولم تتلق تعليما، لكنها تعلمت، وهذا القدر من التعلم يكفيها ويحقق لها متعة الاطلاع على الرسائل التي تصلها.

وأنا بين الألحاد، أتنقل بين واحد وعشرين ميتا، ربما ازدادوا أكثر أو لم يعد منهم أحد.. أشكو لهم قلة حيلتي وهموما أثقلتني وأخرى كادت تقتلني...
من تحت التراب، صوت يجرح سكون الليل ويقتل نور القمر:
أخرجوني من عتمة البئر...
نظرت حولي وتفقدت كل الثقوب وجميع الجحور؛ فوجدتها خالية إلا من نسمات ليلية تنثر أوراق الخريف فوق الأحجار وعلى رؤوس أهل القبور.
عدت إلى تأملاتي وفكرت بحال المدافن:
لعلها تستجدي التفاتة. حدثت نفسي.

كورس كرنفاليٌّ ...
هذا الذي عنَّ لي من طاقة البيت الصغير ، الممتد بين الأشـُنـَّة و الغياض على طول العريش الضليل . عُبَابٌ من غبار يشق العنان ، ويحفر في الذاكرة تاريخا مليئا بحفر لا تكف عن ... الامتلاء . صاحت أمي نانا المجدليّة بصوت أجش ، رفرفت له أسراب القطا من وُكناتها فوق أشجار الصنوبر المنتشرة على حوافي الوادي ...
قائلة :
ـ " آيت عبو عزيزة ، هي ، برجالاتها !
ـ آيت عبو عزيزة ، وفي مأمن من لسعات العقرب ! "

(1)
"الإنسانية تشعر ببعضها هذه الأيام". هكذا فكرت وأنا أتابع أخبار وتطورات الفيروس (اللعين) منذ ظهوره في الصين أول مرة. تابعت، ويدي على قلبي، تغير ردود الفعل التي أظهرها المغاربة تجاه الأخبار المتواترة عن تفشي هذا الوباء في البلدان التي اجتاحها الفيروس في وقت مبكر. كنت أتابع، بقليل من الخوف وكثير من الأمل، كيف تتحرك الإنسانية في كل أقطار المعمور من أجل مواجهة هذا الوباء الذي حير العلماء والأطباء من حيث أعراضه وطرق انتقاله والكيفية التي يهاجم بها ضحاياه، الذين يجدون أنفسهم أمام عدو خفي وغير مرئي، يهددهم بالموت والغياب، وهم الذين يتشبثون بالحياة بكل ما أوتوا من رغبة ومن لهفة.

دراكولا !؟
من أين أتت هذه الملعونة؟ لا مقابرَ قربي، ولا أطلالَ قصور حولي، هل صعدت مع مواسير المياه العادمة؟ أم دخلت من النافذة قادمة من أعماق الفضاء، حيث ترقد الأحاجي و غرائب الأخبار؟.
وجها لوجه معي تحدجني بعينيها  الحمراوين، مبتسمة ابتسامة عريضة تنحسر عند نابين أبيضين طويلين مدببين كمسامير.
تخطو قدما نحوي، اخطو وراءً القهقرى هروبا، تقترب فالف حول المائدة، تتبعني، أنزلق وأحبو، فأجدها قاعية ككلبة أمامي .
"آه ! ليت داري قصر، أو فيلا واسعة تحميني منها، أو... أو  كنت في الشارع حرا مطلقا رجليّ للريح أخاتلها.