بعض الأسرار تستحق الموت من أجلها، وكتمانها يتطلب قلبا جامدا كالصخر وروحا لا تعرف التردد والخوف. وأن تدرك أنك تخلصت من الجاذبية فذلك إحساس ممتع ، لكنه يصير أكثر إمتاعا عندما تجد نفسك معلقا بين السماء والأرض، لا أنت مشدود بحبال تجنبك السقوط، ولا أنت تستند إلى أعمدة تساعدك على الوقوف، أن تشق الضباب وأن تصير أقرب إلى الشمس، وأن ترى كتل السحاب تمر حذوك وتخترقها، وتنظر إليها من أعلى...حينها تحس أنك صرت بعيدا بعيدا، لا تدري كم يبلغ ارتفاعك، ولا تدري كم تبلغ درجات الحرارة التي لا يفصلك عنها سوى زجاج نافذة صغيرة تطل منها على الخارج.
طائرة تعاند الطيور وتحلق عاليا لتنقلك من وطن إلى وطن، وبين إقلاعها وهبوطها تغتالك الخيالات وتفزعك الهواجس وتتناهشك الذكريات. فهناك على تلك الأرض تركت خلفك كل الذين تحبهم، الوالدة والأبناء والزوجة والأخوة والأحبة. هناك على أبعد من مرمى البصر، وتحت هذه الغيوم التي تموج تحتك تركت من سكنوا شغاف القلب وأناخوا رواحلهم بين جوانح الروح.
أجج هاتفها الصباحي ما خمد من نيران في القلب، عندما جاءني صوتها عذبا منسابا مشرقا كابتسامة رضيع، رقراقا صافيا كدمعة عذراء:
- صباحك ورد.
أجبتها:
- صباحك مسك.
هكذا ترحلين معي أيتها الرائعة، وتقطعين معي كل هذه المسافات، يرافقني حلمك ويؤنسني طيفك، وألمحنا ونحن نبحث بين دروب الحياة عن درب لم تطأه أقدام غيرنا، نرحل بعيدا إلى كون أتوّجك فيه أميرة، نبحث عن زاوية في الحياة نرى منها البشر ولا يروننا.
هكذا تقاطع دربانا في لحظة توقف فيها الزمن عن الحركة، وفي نقطة الالتقاء كنتُ وكنتِ، وكان ميلادا جديدا. وبعض التقاطعات التي تحدث في حياتنا تحتاج منّا كمّا لا حدود له من الصدق والصراحة والإيمان العميق بأن الذي حدث ذات خفقان للقلب لم يكن سوى محطة من محطات القدر العجيبة التي نصل إليها أثناء سيرنا، وعندما نروم عبورها تأسرنا إليها وتشدنا إلى ربقها، فنركن إلى إحدى زواياها، ونألف عبير ورودها، وفيها نعرف كيف نحيا خارج قانون الحياة والكون.
هناك من وراء هذه المسافات التي تفصلني عنك أراك قادمة إلى دنياي، فأي قدر جميل ساقك إليّ لتصيري أنت قدري، وأي فرح بذرتِ بذوره في حدائقي لتنبت زهورا في غير زمن الإنبات، وتورق فرحا بعد أن ذبلت ورود ربيعي. وأرانا ونحن نرسم لوحة فيها كل ألوان الحياة والحب والشوق.
" أنت لم تُخلقي لتُحَبّي، أنت- يا سيدتي- خُلقت لتُعْشَقي". وظل صدى تلك الكلمات يتردد، كلمات لم تُقَل إلا إليك، ولم تهنأ بها أنثى إلاّك.
أخرجتني المضيفة من بين ثنايا هذا الحلم الجميل، وهي تبتسم لي ابتسامة جامدة محايدة بلا طعم، لتتأكد أن حزام الأمان مشدود. هي لا تعلم أن كل أحزمتي قد قطعتها منذ التقيتك.
كان المقعد المحاذي لي شاغرا، وكنت أود أن يبقى كذلك طوال الرحلة، وكلما صعد مسافر إلى الطائرة، كنت أتوسل سرا إلى الله الآّ يكون هو حامل رقم ذلك المكان. وأخيرا أُغلق باب الطائرة وظل المقعد المجاور على حاله ، كأن الله قد استجاب لدعائي. وكان المكان على يساري بجانب القلب تماما، ورأيت طيفك يخترق الحجب والحواجز ويدنو، فهيأت لك مكانا للجلوس بجانبي، وجلستِ.
سافرت معي طوال الرحلة التي امتدت بين شدتيْ حزام الأمان، بين إقلاع وهبوط، بين أزة عجلة وأزة أخرى، وظللت أحدق فيك دون أن أكلمك، حدقت في عينيك، في شفتيك، في خديك، في شعرك المبعثر على كتفيك، في ثورة أنثى، وفي سحر أنثى، وفي أنوثة طاغية ومربكة... يكفيني قربك يا فرح الروح، فما عاد للكلمات معنى، فالصمت في محرابك أحلى كلام وأروع نغم.
غاب العالم من حولنا و ظللنا وحيدين، وكم تمنيت الآّ ينتهي تحليقنا فنظل ننتقل من حلم إلى حلم. لكن حنيننا للتراب سرعان ما يعيدنا إليه، أليس حب الأرض متأصلا في نفوسنا منذ خُلِق أبونا آدم، ألم يهزه الحنين إلى أصل عنصره، ألم يرْمِ بنا بعده كي تلتهمنا تلك الفلوات والوهاد، ألم يرسم لنا على هذه الأرض دروبا وتركنا نتخبط في البحث عن نقطة البدابة، فخططنا لأنفسنا معابر غير معلومة.
ظل المقعد شاغرا، وظللتُ سعيدا بشغوره، ومنه ضاع عطرك وسرى بين ثنايا الروح، فأحياها.
يا أنت يا سحر الحياة وشدوها، يا عطر الروح وبهجة العمر، أي رياح طيبة أدارت شراعك نحو شواطئي، وألقتك إليّ بعد كل هذا العمر، فكم يلزمني من العمر كي أعشقك، وكم يلزمني من العمر كي أستمتع بعشقك...
وأسأل نفسي ساعات الصفاء والوحدة حين يسكنني طيفك: " أفي الكون أنثى بهذه الروعة وهذا الضياء؟؟؟". وأضمك عبر رسائلك وأسرح وراء خيالي، فكيف لعشق أن يعشق عشقا؟ وكيف لقلب أن يسكن قلبا؟ وكيف لروح أن تؤوي روحا؟؟ وصار البوح إليك إدمانا، وصار انتظار رسائلك المضمخة بعطر روحك إدمانا أشد. وصارت الريح هي من يحملني إليك، فأنا ما قلت للريح إني أعشقها، لكنها نابتني في حمل أشواقي، فمرحى بالريح رسولا مني إليها، ومرحى بالريح رسولا بين عشاق.
كل الأوقات تحملني إليك، وكل الدروب تقودني إليك، ولا تذكّرني أنثى بك إلا أنت، لأنك يا سيدتي لست ككل النساء.
تمر الدقائق مسرعة، وعقارب الساعة كالقلب لا تني تحث الخطو نحو النهايات، وساعتان من التحليق مضتا.
عادت المضيفة تخترق عليّ خلوتي وتعيدني إلى واقعي، واهتزازات الطائرة عند اختراق السحاب تنزع القلب من موضعه ثم تعيده إليه، وأنتِ يا أنتِ كما أنتِ بابتسامة الصباح الندية، بصوتك العذب المنهمر دفقا تتشبثين بذراعي وتنصهرين فيّ، وانحناءة رأسك على كتفي تمنحني عمرا جديدا أحياه لأجلكِ.
صوت قائد الرحلة من قمرة القيادة يرحب بالمسافرين من جديد، وبلغات متعددة يدعو الجميع إلى شد أحزمة الأمان ويرجو السلامة خلال عملية الهبوط.
أحسست أنه بكلماته تلك ينزع روحي ويفصلها عن جسدي، فكم رغبت في أن تظل الطائرة بعيدة عن الأرض وعن صخب المطارات وعن ضوضاء المدن.
شُدَّت جميع الأحزمة عدا الحزام الملقى على المقعد الذي على يساري فقد ظل على حاله من غير شد، وإمعانا في البلوغ بالحلم إلى منتهاه مددت إليه يدي وشددته في الخواء. وفي الجهة المقابلة، كانت سيدة خمسينية تراقب المشهد، وعندما التقت أعيننا تبسمت، فأدركت أنها اكتشفت تفاصيل حلمي، أو ربما كانت تود أن تفعل مثل ما فعلتُ، إلا أن المقعد الذي يجاورها كان قد شغله عجوز ظل طوال الرحلة يتلهى بحل الكلمات المتقاطعة بين صفحات جريدة احتوت خوفه من التحليق بين السماء والأرض.