عزيزي يوسف
لا أعرف تماما لماذا أكتب لك هذه الرسالة، ولا أدري لماذا اخترتك دون غيرك من بين جميع أصدقائي لأوجه لك هذا الخطاب. ولكني على يقين تام بأنك كنت تربك هواجس نفسي لا شعوريا، حين كانت تحلق أفكاري على مساحات الوحدة والانطواء، التي لفعتني بظلالها القاتمة وأنا أنتظر دخول غرفة العمليات، ليتمدد جسدي فوق سرير السلخ، وتحت كشاف حاد النظرات، وقح العينين.
 لا بد وانك تعلم مدى شجاعتي ورباطة جأشي فيما يتعلق بموضوع غرفة العمليات. إلا أنني هذه المرة عانيت معاناة شديدة. أوصلتني إلى حد الرعب من إجراء مثل هذه العملية. ولا اعلم حتى الآن سبب هذا الرعب. إلا أن فكرة الموت سيطرت على عقلي سيطرة كاملة، حتى وصلت إلى درجة الإيمان العميق بأن يوم وفاتي متعلق تماما بيوم دخولي غرفة الجراحة. وبدأت هذه الفكرة تتسلط على نفسي وتتناوشها من شتى الجهات، حتى اعتصرت حمرة أناملي وتوردت وجنتاي. وقذفتني بكل سوداويتها إلى إحساس مجهول أمام تصور الموت، ومفارقة الحياة. الحياة الزاخرة بتدفق الروح والنشاط في كل شيء.
 

تقاسيم عذبة تتنازع ُرناتِها عود، وناي، وكمان؛ وجمت لها الحساسين المقفوصة، واستكانت فوق غصن يابس لشجوها الحمامة البيضاء ، أما هو فكان يتمايل على إيقاع النغمات ويده الدربة تشج الجص إزميلا؛ غارقا بين الشدو وهائما بين ثنايا الزخارف!.
أنهى عمله، مقرنصة(1) ثُمانيّة تتعاشق أضلعها وأشعةَ شموس، ورؤوس نُجيمات ؛ في وسطها كان قد زرع - سلفا - حلقةً فولاذيةً، وفي الحلقة تبّث حبلا أزرق مائيا مُنتهٍ بأنشوطة على هيئة رأس أفعى.. طرفُها ؛ ترجّل عبره متأرجحا كبندول، ثم أزاح الكرسي جانبا. ومال على الحاكي (2) ورفع الشوكة، فتوقفت الموسيقى الحزينة، وارتفع شدو الحساسين، في حين صفّقت البيضاء بجناحيها وانطلقت عبر النافذة المشرعة تشق الفضاء، تروم استرواحا...

ما إن أنتهيت من توقيع الإضبارة التي قدّمها لي ضابط ثلاثيني، يجلس خلف مكتب عريض لم يصنع لأجله، دون أن يكلف نفسه رفع رأسه للتحديق في عينيّ، حتى ضغط بيمناه على زر، فصلصل جرس في الخارج. حينها دخل رجلان يرتديان زيين عسكريين. كان أحدهما بدينا، يكاد بطنه يفجر إبزيم زناره، وجهه مدور، و حاجباه غليظان، حليق الشاربين. و كان الثاني نحيفا بشكل مفزع، بدا في ثيابه الفضفاضة كالذي يرتدي ملابس مضحكة. لم أُدم التحديق إليهما، و فجأة استند الضابط بيديه على المكتب، ويستوي واقفا: "خذا هذين الجرذين إلى الزنزانة حتى..." لم أتبين بقية الكلمات، إذ سرعان ما هجم عليّ الشرطيان وسحباني بعنف، ثم انصفق الباب بعنف اهتز له الرواق  الطويل الممتد.

يحتفظ أحمد بذكريات قديمة عن شارع فرنسا الذي أصبح يحمل اسم شارع محمد السادس ...زار المكان في فترات متقطعة تفصل بينها سنوات ..
جلس خلف الزجاج في الركن الأيسر يتلهى بما يجري أمامه في انتظار صديق ضرب له موعدا في هذا المقهى .. الشمس غربت منذ حوالي ساعتين .. الشارع بدأ يضيق بزوار ليلة السبت الأحد بسبب تواجد العديد من الفنادق  والحانات والمراقص الليلية خلف المقاهي بالحي الشتوي  .. فتيات في سن الزهور ينظرن في هواتف نقالة .. يتحدثن ويبتسمن ببلاهة مقصودة ويلتقطن السيلفيات  وهن يتسكعن بالجوار أو يجلسن في المقاهي طمعا في اصطياد زبون يرغب في قضاء أمسية حمراء .. أغلبهن جميلات .. كأنهن مسكوبات من قالب في مصنع لإنتاج الدمى البشرية  .. فروق طفيفة في النحافة والبدانة والطول والقصر .. حرارة المدينة في فصل الصيف تدفع إلى الاقتصاد في اللباس و المبالغة في تعرية أطراف الجسد الأكثر فتنة مثل شعر الرأس و الذراعين والكشف عن حمالة النهدين والصرة  وارتداء شورطات قصيرة ترتفع إلى أعلى الفخذين ..

.....
 - فمن هى؟!.. ومن هو؟!.. ولم اجتمعا فى هذا الليل يا شهرزاد؟.
-  إنهما أنا وأنتَ.
-  أنا وأنتِ.. كيف؟!.
-  لقد عبرنا باب الحكايات فصرت أنا هى وأنتَ هو.. هل تذكر  يا مولاى حديث الليل.
-  ماذا به يا شهرزاد؟!.
-  يومها دخلت حكاياتى.. صرت جزءا منها، تُحْدث ويَحْدُث لك، لكنك لم تر يا مولاى بسبب هذه الأسوار، لذلك حين دخلت السرداب وعبرت وجدتنى يا مولاى على صورتى تلك، ووجدتك يا مولاى كما فى صورتى هذه.

(الحلم الحقيقي هو أن تفتح عينيك في العتمة، وتتحول الهواجس إلى كائنات، تدهس رؤوس الأفكار).
(هـ. ن)
العاشرة صباحا، يبدو أن السيد مارشينا بلاتيس لم يبارح فراشه كما جرت العادة؛  (العادة هنا، كلمة مبهمة بالنسبة للسيد مارشينا بلاتيس)، سيتفطن بعد سنين  إلى أن ينسج اسما مركبا من تصور ذهني ملائم، بالرغم من عفوية العلاقة المنسجمة بين المخ والحركة، فخلص إلى  ما يسميه : "لحظة البراءة المذنبة"؛  اللحظة التي تضمنها الآفاق الممتدة عبر النافذة الزرقاء. النافذة التي صممها العم  مانيش؛ ماهن البلدة؛ لا تفوته أي حرفة، بدءا من تسييس أحصنة البوتيوك، إلى صناعة الأبواب والنوافذ من غابة "إيراطي"، مرورا بصنع لوحات "التشالابرطا"، والنقر عليها، من أجل تفعيل الخبر اليقين إلى الآخرالمرابط في الجبال المقابلة، بدعوى الحرص الشديد من العدو.

تملكني حنين إلى هناك، إلى جانب تلك الأشجار الباسقة، والأدواح السامقة، وخرير المياه الجارية، وزقزقة العصافير حين تختلط بطنين النحل ورفارف الفراشات، فتصدر همسات تهدهد وجهي وتقذفني إلى أفياء الأمل المفقود.
وثبت وثبتي الأولى على أرضها منذ سنوات، اجتاح فؤادي سيل جارف من المشاعر المتضاربة، انتقلت بجوارحي إلى ذلك المقام وخالجني إحساس غريب، ارتحل جسدي إلى منحدر النهر. فتجسدت أمامي بدلالها، وغنجها، وابتسامتها الحالمة.. هي نفسها كما تركتني هازئة، ورمتني بنظرة أخيرة ساخرة.
حاولت قدح زناد الماضي، فغمرني موج التذكر، هممت بالتقدم، فتسمرت قدماي، تراجعت في حركة لا إرادية، فانتابني شعور بالوحدة والغربة، هتف صوت خافت بداخلي:

"يُمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلّم اللّغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلّم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكلّ معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة ولا يعتدّ بها لدى القضاء أو غيره."
من قانون الملك فيليب 2 ضدّ الموريسكيين.


في حيّ البائسين  في غرناطة قرب ربوة المدينة، كانوا يحملون هويّتين.

 كان الموريسكي في المظهر مسيحيّاً اسمه فرناندو، وفي السرّ مسلماً يدعى محمد. وشم اسمه السرّي على بطن ذراعه الأيمن ثم ذرّ عليه دخان الشحم كي لا ينسى هويّته الأولى. وكان قد استعدّ لهذا اليوم كما يستعدّ كلّ محارب. لبس بذلته الخضراء سوّى عمامته ووشّح عنقه بما تبقّى من القلادة الحمراء، وجمع كتبه وأدّى صلاة الخوف. أخفى الوشم بخرقة بالية، تحسّس مفتاحه في جيبه، وردّد القسم أنّه سيبقى وفيّاً لدينه ولغته، وسار وجهة حارة البائسين.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة