يحتفظ أحمد بذكريات قديمة عن شارع فرنسا الذي أصبح يحمل اسم شارع محمد السادس ...زار المكان في فترات متقطعة تفصل بينها سنوات ..
جلس خلف الزجاج في الركن الأيسر يتلهى بما يجري أمامه في انتظار صديق ضرب له موعدا في هذا المقهى .. الشمس غربت منذ حوالي ساعتين .. الشارع بدأ يضيق بزوار ليلة السبت الأحد بسبب تواجد العديد من الفنادق  والحانات والمراقص الليلية خلف المقاهي بالحي الشتوي  .. فتيات في سن الزهور ينظرن في هواتف نقالة .. يتحدثن ويبتسمن ببلاهة مقصودة ويلتقطن السيلفيات  وهن يتسكعن بالجوار أو يجلسن في المقاهي طمعا في اصطياد زبون يرغب في قضاء أمسية حمراء .. أغلبهن جميلات .. كأنهن مسكوبات من قالب في مصنع لإنتاج الدمى البشرية  .. فروق طفيفة في النحافة والبدانة والطول والقصر .. حرارة المدينة في فصل الصيف تدفع إلى الاقتصاد في اللباس و المبالغة في تعرية أطراف الجسد الأكثر فتنة مثل شعر الرأس و الذراعين والكشف عن حمالة النهدين والصرة  وارتداء شورطات قصيرة ترتفع إلى أعلى الفخذين ..

.....
 - فمن هى؟!.. ومن هو؟!.. ولم اجتمعا فى هذا الليل يا شهرزاد؟.
-  إنهما أنا وأنتَ.
-  أنا وأنتِ.. كيف؟!.
-  لقد عبرنا باب الحكايات فصرت أنا هى وأنتَ هو.. هل تذكر  يا مولاى حديث الليل.
-  ماذا به يا شهرزاد؟!.
-  يومها دخلت حكاياتى.. صرت جزءا منها، تُحْدث ويَحْدُث لك، لكنك لم تر يا مولاى بسبب هذه الأسوار، لذلك حين دخلت السرداب وعبرت وجدتنى يا مولاى على صورتى تلك، ووجدتك يا مولاى كما فى صورتى هذه.

(الحلم الحقيقي هو أن تفتح عينيك في العتمة، وتتحول الهواجس إلى كائنات، تدهس رؤوس الأفكار).
(هـ. ن)
العاشرة صباحا، يبدو أن السيد مارشينا بلاتيس لم يبارح فراشه كما جرت العادة؛  (العادة هنا، كلمة مبهمة بالنسبة للسيد مارشينا بلاتيس)، سيتفطن بعد سنين  إلى أن ينسج اسما مركبا من تصور ذهني ملائم، بالرغم من عفوية العلاقة المنسجمة بين المخ والحركة، فخلص إلى  ما يسميه : "لحظة البراءة المذنبة"؛  اللحظة التي تضمنها الآفاق الممتدة عبر النافذة الزرقاء. النافذة التي صممها العم  مانيش؛ ماهن البلدة؛ لا تفوته أي حرفة، بدءا من تسييس أحصنة البوتيوك، إلى صناعة الأبواب والنوافذ من غابة "إيراطي"، مرورا بصنع لوحات "التشالابرطا"، والنقر عليها، من أجل تفعيل الخبر اليقين إلى الآخرالمرابط في الجبال المقابلة، بدعوى الحرص الشديد من العدو.

تملكني حنين إلى هناك، إلى جانب تلك الأشجار الباسقة، والأدواح السامقة، وخرير المياه الجارية، وزقزقة العصافير حين تختلط بطنين النحل ورفارف الفراشات، فتصدر همسات تهدهد وجهي وتقذفني إلى أفياء الأمل المفقود.
وثبت وثبتي الأولى على أرضها منذ سنوات، اجتاح فؤادي سيل جارف من المشاعر المتضاربة، انتقلت بجوارحي إلى ذلك المقام وخالجني إحساس غريب، ارتحل جسدي إلى منحدر النهر. فتجسدت أمامي بدلالها، وغنجها، وابتسامتها الحالمة.. هي نفسها كما تركتني هازئة، ورمتني بنظرة أخيرة ساخرة.
حاولت قدح زناد الماضي، فغمرني موج التذكر، هممت بالتقدم، فتسمرت قدماي، تراجعت في حركة لا إرادية، فانتابني شعور بالوحدة والغربة، هتف صوت خافت بداخلي:

"يُمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلّم اللّغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلّم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكلّ معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة ولا يعتدّ بها لدى القضاء أو غيره."
من قانون الملك فيليب 2 ضدّ الموريسكيين.


في حيّ البائسين  في غرناطة قرب ربوة المدينة، كانوا يحملون هويّتين.

 كان الموريسكي في المظهر مسيحيّاً اسمه فرناندو، وفي السرّ مسلماً يدعى محمد. وشم اسمه السرّي على بطن ذراعه الأيمن ثم ذرّ عليه دخان الشحم كي لا ينسى هويّته الأولى. وكان قد استعدّ لهذا اليوم كما يستعدّ كلّ محارب. لبس بذلته الخضراء سوّى عمامته ووشّح عنقه بما تبقّى من القلادة الحمراء، وجمع كتبه وأدّى صلاة الخوف. أخفى الوشم بخرقة بالية، تحسّس مفتاحه في جيبه، وردّد القسم أنّه سيبقى وفيّاً لدينه ولغته، وسار وجهة حارة البائسين.

قبيْل الفجر بقليل، غالبا ما  يتناهي إلى سمعي على استحياء صرير الباب الرئيس للعمارة  الصدئ وهو يُفتح، ثم  لهاث يتسارع وقعه صعودا، يقاطعه مرات تأفف شبه مكتوم؛ لعل الجسد المجهد المترنّح على السلالم يفرغ فيه قلة حيّله وزلة أقدامه السكرى؛ ولما يصير مَراحُ الطابق الرابع ركْحا للأحداث تُهاجمي عبر فجوات الباب والإطار كوكتيلُ روائح، أميز منها عطرا نسويّا نافذا وعبير خمر طريح أنفاس ظمأى لنوم هادئ وطويل..
هكذا تعلن  "مدام آسية " عن أوْبتها  سالمة كل يوم.
إنها جارتي مذ ما شاء الله من الشهور، ورغم ذلك حبل الوصال بيننا معدوم حتى.. التحايا ميتة، لا أعرف عنها شيئا إلا  ما يلوّك هنا وهناك.

( نداءُ الرّيح الأوّل )
النساء بهاءٌ من الحياة القاتل ، إكسيرُ الدُّنيا المعتَّق بالزّهر والمطر والرّياح !!
المرأة ككلّ كائن سحريّ ....لا تنحتُه سوى الذكريات ...لا ترسمه إلا التفاصيلْ ....
تلك التفاصيل الصغيرة التي تنفذ إليك كبداية الموت أو بقايا الحريقْ !  
تلك التفاصيل العذبة : رقصةُ الأهداب....ارتعاشُ الأصابع ...حركة امتعاضٍ على الشفتيْن ...التفاتةٌ عجْلى على الرصيف ....يدٌ أتلفها الصقيع فمضت تبحث عن قبلةٍ في ثنايا المعاطفْ .....خاتمٌ شامخٌ يحيط إصبعا من كبرياء .....أناملٌ من عاج تُسوِّي خصلة شعْرٍ تُهرول في خِفّة لتعانق نسائم الصباح ......نظرةٌ مبتلَّة كالشتاء ، مُعلَّقةٌ بشبّاك قِطارٍ  ،  سيَرْحل ويحْملُ صخَب أحزانه بعيدا   ، بعيدا .....كعبٌ صينيٌّ شامخٌ  يحْتسي جراح طريقٍ أنهكه انتظارُ العاشقينْ ...!!!!!!!!

ـ 1 ـ
  تأخُذنا الرَّجفة من حيث لا ندري ، فترتعد فرائصُنا عندما نسمع اسم " مولانيي " ؛ القائد و الجنرال الفرنسي ، الذي تمَّ تعيينه مباشرة بعد الحماية الفرنسيَّة على المغرب . كانت شرارة الحرب العالميَّة الأولى السببَ المباشرَ في تعيين هذا الجنرال قائدا جهويّا على قبائل زمور. تعلـّم دروسَ الاستبسال من جبالها الوعرة و من قبائلها المتفرقة و المشتتة على طول الخط الناظم و الرفيع الذي يربط مدينة خنيفرة بمدينة الخميسات إلى حدود قبائل آيت يدين  ومصَّغرة و آيت عبو . منطقة تدور رحاها على يد القوات الفرنسيَّة .