كورس كرنفاليٌّ ...
هذا الذي عنَّ لي من طاقة البيت الصغير ، الممتد بين الأشـُنـَّة و الغياض على طول العريش الضليل . عُبَابٌ من غبار يشق العنان ، ويحفر في الذاكرة تاريخا مليئا بحفر لا تكف عن ... الامتلاء . صاحت أمي نانا المجدليّة بصوت أجش ، رفرفت له أسراب القطا من وُكناتها فوق أشجار الصنوبر المنتشرة على حوافي الوادي ...
قائلة :
ـ " آيت عبو عزيزة ، هي ، برجالاتها !
ـ آيت عبو عزيزة ، وفي مأمن من لسعات العقرب ! "

(1)
"الإنسانية تشعر ببعضها هذه الأيام". هكذا فكرت وأنا أتابع أخبار وتطورات الفيروس (اللعين) منذ ظهوره في الصين أول مرة. تابعت، ويدي على قلبي، تغير ردود الفعل التي أظهرها المغاربة تجاه الأخبار المتواترة عن تفشي هذا الوباء في البلدان التي اجتاحها الفيروس في وقت مبكر. كنت أتابع، بقليل من الخوف وكثير من الأمل، كيف تتحرك الإنسانية في كل أقطار المعمور من أجل مواجهة هذا الوباء الذي حير العلماء والأطباء من حيث أعراضه وطرق انتقاله والكيفية التي يهاجم بها ضحاياه، الذين يجدون أنفسهم أمام عدو خفي وغير مرئي، يهددهم بالموت والغياب، وهم الذين يتشبثون بالحياة بكل ما أوتوا من رغبة ومن لهفة.

دراكولا !؟
من أين أتت هذه الملعونة؟ لا مقابرَ قربي، ولا أطلالَ قصور حولي، هل صعدت مع مواسير المياه العادمة؟ أم دخلت من النافذة قادمة من أعماق الفضاء، حيث ترقد الأحاجي و غرائب الأخبار؟.
وجها لوجه معي تحدجني بعينيها  الحمراوين، مبتسمة ابتسامة عريضة تنحسر عند نابين أبيضين طويلين مدببين كمسامير.
تخطو قدما نحوي، اخطو وراءً القهقرى هروبا، تقترب فالف حول المائدة، تتبعني، أنزلق وأحبو، فأجدها قاعية ككلبة أمامي .
"آه ! ليت داري قصر، أو فيلا واسعة تحميني منها، أو... أو  كنت في الشارع حرا مطلقا رجليّ للريح أخاتلها.

يتأمل الفنان التشكيلي لوحاته...يمسحها بنظرات صامتة وغارقة في التأمل...يطفئ النور يغلق الباب وينصرف... الفارس العربي راكبا حصانه العربي الأصيل بكل زهو، مأخوذا باحساس نصر زائف وكأنه يعيد أمجاد عروبة بائدة... الأمير الوسيم يطل من شرفة القصر على منظر الغروب، يستمتع بآخر شعاعات المساء الذهبية، التي ترسلها الشمس قبل ذهابها للنوم في مهدها الكبير. و الفلاح الكادح في حقله ماسكا محراثه كريشة فنان يخط بها أزهى الخطوط على لوحته الأرض. الصياد العجوز تجاعيد وجهه التي رسمها الزمان، توحي بسنوات عجاف مرت و استقرت على هذا الوجه. يلقي صنارته ينتظر ما سيجود به البحر بأعصاب باردة لم تعد تتأثر بأحداث الزمان.

الوصايا المدهشة:
– لا تكتبْ ما لا يُروى، ولا تَرو ما يُكتب. ارفعْ رأسكَ واكتُبْ سِرّك ودُقَّ الأوتاد. اكتُبْ بدون أن تكتب. وإنْ كتبتَ فلا تجعل وعاءَكَ من ذهنك فتتعب. اجْرَعْ دائما، من ماء وَجْدِكَ وغبار الزمن. لا تكتُب إلا ما جاء في صُحفنا وما قلناه في خاطرنا. إذا نَفَد منك وَحْيُنا فاصمتْ ولا تجادل. أوصيك بالنهر لا البحر. باللحظة التي أنتَ فيها.. لا التي تنتظر. ها قد غفوتَ فنسيتَ، ودنوتَ فبعُدتَ وكتبتَ فمحوتَ. ها هو التراب، إنّ بين ظني ويقينهم لسراب. ها هو الطوفان، سيخرج من زمننا  آخر العجب. فلا تغْفُ ولا تدْنُ واكتُبْ ما لا يُكتبْ. وإذا فقدتَ أمك فاغتربْ.
مولانا نسعى رضاك.. على بابك واقفين.. لا من يرحمنا سواك.. يا أرحم الراحمين.

أحس بنفسه أنه يشبه، إلى حد ما ... ليوناردوديكابريو ...
يقولها لنجوى المتمردة، وهي تتطلع إليه في المرآة بمآق كبيرة، وواسعة كعيون المَها،  وقال في خلده :
ـ لا بد أن أتسلل إلى ... إلى تلك الخشبة...
من قلب الحشد الغفير، كجمهور متيم بالفرجة و العروض المسرحية، يبدو الرُّكـْحُ كمقصلة الممثلين، ملفوفة في دثار أزرق كمزار سيدي بوغالب.
ـ إنها الخشبة الإيطالية.

من خلف جلمود يفصل بحرين يتصاعد دخان سيجارته الكثيف ليختلط مع ضباب المساء الناعم وتذوب رائحته في عطر البحر العابق. تفقد قيثارته بثبات ووضعها بين ذراعَيه ثم استند إلى الأرض في حركة الكهول، تسلق صعودا حتى استقر فوق قمة الصخرة وداعب الأوثار لتصدر ألحانًا حزينة تدمي لها قلوب النسور وتدمع لها عيون الأسود. يستمع بتأثر إلى تقاسيمه وهي تتردد في الأفق ويراقصها النسيم على إيقاعات تياراته الباردة…
تتلاعب به الذاكرة وتأخذه إلى كل مكان مظلم يأبى النور، وتتزاحم في مخيلته الأفكار كلما ارتطم الموج على صخور الشاطئ وتتوارى كالأشباح كلما خمدت في أعماق البحر. يغيب عن الوعي للحظات ويستفيق عندما تحط فوق وجهه قطرات الماء البارد ويتذوق لسانه ملوحتها. يتألم في صمت ويبكي في سكون. يضيق صدره ويكاد قلبه يرفض الخفقان. يترجل بجانب الشاطئ ويسافر عبر الزمن، يسترجع أولى البدايات حين لامست قدماه هذه الأرض العابثة، ويمر شريط أسود أمام عينيه في ومضات. ينحني ويلتقط حصى ويرمي به إلى البحر معاتبًا إياه على تلك الخطيئة التي ارتكبها في حقه.

ينحرف اليوم عن جادّة اليوميّ المطوَّق بحزام أمنيّ محشوّ رصاصا ومطارق وعيونا ناريّة مبثوثة، ويروح يتسكّع متمرّدا مشوّشا عرض الضّحى المتوتّر.
أصابعي التي كانت تخلّل شعث القلق العالق بكفّيَّ، اشتبكت عند الذّقن تسند رأسي المثقلة مشاغل وبقايا نوم مأزوم، بيد أنّها لا تفلح في ترويض ارتعاشات القلب الذي هرول إليه في ملابس الحبّ الخفيفة، صبيحة يوم صقيع.
سحب متوجّسة السّواد تتكتّم على بشائر غامضة وقريبة. السّماء على مسافة حياديّة منّا ومن حافّة رصيف يصحو من كوابيسه ممتقعا منفعلا، يغرغر تحت طبقة الهدوء الاسفلتيّ، ويتدبّر أمرا غير معلن. حدث ما هائل ومريع يتخلّق في رحم الهدأة من حولنا، وريبة متأنّقة تدير الحوار بيننا.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة