من مقعدي الذي جلست عليه خارج المقهى، رحت أرشف بعضًا من الشاي الساخن الذي تصاعدت أبخرته وفاحت منها رائحة النعناع الأخضر المنعش، كان الجو وقتها تشوبه غيوم متقطعة والطقس ما بين برد لاسع ودفئ الشمس حين تتخلل أشعتها فتدمع من أثرها العين. علي خلفية من اللون الأزرق، رحت أتطلع إلى سحابتين كانتا تسيران خلف بعضهما البعض كأنهما في طابور صباح مدرسي، كانت إحداها تأخذ شكل بيضاوي فيما يشبه الخلجان المرسومة بالخرائط المدرسية باهتة اللون وكانت تعلو الأخرى بشئ يسير. بينما كانت السحابة السفلي كثيفة رمادية اللون بشكلها الدائري وقد برزت منها زوائد كأسنان المشط المكسور وكادت أن تسقط علي الأرض كبطن مترهل لرجل قصير القامة. دقِّقتُ النظر حين هبت فجأة نسائم باردة فأوشكت السحابتان أن تصطدما ببعضهما البعض حتى كادتا أن تلتصقا.
النادل و القهوة - قصة: غزلان شرعي
وقف النادل مستقيما ومشرقا كالبدر
..ماذا تطلبين سيدتي ؟
هذا السؤال جعلني اسرح عميقا وليس طويلا...لان الوقت لا يسمح بذلك طبعا
الجواب الذي أحسسته وأحببته كثيرا...هو أن أعود بضع سنوات للخلف...أو بالتحديد عشر سنوات...أريد أن أعود في العشرين من العمر...هذا السن لطالما أحببته وأحسسته كثيرا
اشتقت إلى جمالي ونضارتي إلى فرحي البسيط وأحلامي الرقيقة العفوية ...إلى مشاكلي الصغيرة الخبيثة
اشتقت إلى مقاس خصري النحيل ..النحيل جدا
زيمة – قصة : العياشي ثابت
تعانقنا وتبادلنا الأمكنة بين منصة اللقاء الشعري وكراسيه... ستون من الحاضرات والحاضرين بين شاعر وشاعرة، ونفر قليل لم يقو على الوقوف بالمنصة تهيبا أو خجلا، وربما كان منهم من يتأبط ما يشبه القصيدة. متعة تبادل الأدوار بين إنصات وإلقاء، بين إبداع وانتقاد، بين محاسبة ومعاتبة، كانت تضفي على اللقاء مسحة تشويق لدى البعض أو إحساسا بالفتور لدى البعض الآخر...
الزجال البويهيمي الذي أرخى سدول لحيته الدكناء المخللة ببياض السنين، كان دقيق المعاينة في كل بداية، قبل أن يشحن بطارية دماغة بكهرباء خمرة، على هامش اللقاء. كان يعد الحاضرين عدا، ويهمس في أذني بأسرار الحضور، بين متيمين بجمال الحرف، ومولعين بالسمر الليلي، وعاشقين للنزهة والسفر، وأصحاب المواعيد التي لا تبقي ولا تذر...ولا يفوته في كل مرة أن يردد عبارته المألوفة: " حتى الثقافة لم تسلم من المحسوبية والزبونية"...
الثلوج تذوب في غرفة التدخين – نص: جودت هوشيار
كنا في عصر " ذوبان الثلوج " حيث فتحت نوافذ في الستار الحديدي لتهب منها رياح التغيير والتجديد في المجتمع السوفيتي . التغيير والتجديد كنت تحس بهما في مكتبة الأدب الأجنبي في موسكو تحديدا ، أكثر من أي مكان آخر في الإمبراطورية السوفيتية ، حيث تجد فيها آخر إصدارات الكتب والمجلات الأجنبية ب(140) لغة أجنبية ، وأرشيف ضخم للأدب العالمي والمعرفة الإنسانية .
كنت أزور هذه المكتبة كلما سمح لي الوقت بذلك . وكنت أنتهز يوم التأهيل العسكري للطلاب السوفيت - وهو يوم واحد في الأسبوع كان يخصص بأكمله للمحاضرات النظرية والتدريبات الحربية لزملائنا السوفيت ، ولم يكن يشمل الطالبات السوفيتيات والطلبة الأجانب ، وكنا نعتبره يوم عطلة لنا - لزيارة المكتبة ، واقضي فيها ما لا يقل عن ثلاث أو أربع ساعات في كل مرة ، طوال فترة إقامتي في عاصمة الثلج والأدب والفن والحب.
ميلاد فيلسوف الفراغ – قصة : كمال يحيى بربوش
شب حريق في الحقل المقابل لحينا ذات يوم من ايام الصيف القائظ .كان حقل الشعير عاريا إلا من بقايا تبن يابس ينتظر أن تلتهمه غنم صاحب الحقل و حبات شعير متناثرة كنا نلتقطها من الارض لنطعم بها حمام البيت و صغاره. وكان حقل الشعير ملاذنا من قسوة الحياة التي لم تمنحنا سبل العيش و وسائل اللهو، فكنا نستغل فضاء الحقل لنرتع و نلعب و لنصنع لعبنا بخشاش الأرض و قصب وادي كيس القريب من حينا.
الشجرة الصعلوك – قصة : العياشي ثابت
مفتولة الأغصان مثل عضلات مصارع السومو، تعددت فروعها وتشابكت تشابك عراك خانق، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، حتى بدت للصغيرة نانا في صورة صعلوك يتوسط الحديقة، ويمعن فيها فتكا وتخريبا وإتلافا... أو هكذا تخيلته. فقد كانت تمقت العابثين بنباتات الحديقة وأغراسها، وتعتبر أفعالهم المقيتة من وسوسة ذلك الصعلوك الغريب.
تناسلت بمخيلتها عشرات الأسئلة المحيرة، تحرج بها والدها الحكيم، الذي ما فتئ يجتهد في الردود كي يشبع فضولها...
الغرفة السوداء – نص : أسماء العسري
من داخل كل شخص هناك غرفة سوداء، قبو حُكِمَ عليه بتخزين ما خلفه الزمن فينا من لعب و مستلزمات الأثاث، ورسائل عِشقنا المنسية، وصور أحبائنا، و أقداحنا المكسورة.
ليس العيب فينا و لا في زماننا، و لكن أواننا لم يحن بعد لذلك الحب، لذلك صنعنا غرفة سوداء داخل قلوبنا أو في أحد أركان بيتنا، الأهم أنها غرفة سوداء ليست لوناً، بل طِلاءاً، طلاؤها وردي أو أحمر أو أصفر... كل الألوان مسموح بها في عوالمنا، المهم أنها تختلف في نظر عشاقها، فلكل عاشق لونه المفضل ليس الأحمر بالضرورة، نظراً لما يُسبغه عليهم من جو رومانسي يهز تحجُر قلوبهم، سوادها اللاوعي الذي سكن فينا و يخرج في زلات لساننا أو في أحلامنا، يطلب مكانا للعيش ولو بمقياس خُرم إبرة، فهل من مُجيب، لنواجه انكساراتنا وخيباتنا، أم سنرضى بالعيش باللاوعي على أساس أنه الوعي، وعينا هذا صفاء لدموعنا من مرارة الاستسلام و البكاء على الأطلال.
الوجه الآخر ـ قصة : العياشي ثابت
في صدر الخيمة الفسيحة ذاتَ عزاء، اقتعد "باعزوز" ذو السبعين عاما أو يزيد كرسيا، في جلسة تحيل على نخوة الزمن الجميل، وهو يجيل بصره بين الداخلين والخارجين، ويتفرس وجوه شبان مختلفين عما عهده من أبناء جيله: كانوا حليقي الرؤوس بأشكال غريبة ودهون وطلاءات تغطي وجوههم ورؤوسهم، وتلمع في أصابعهم الخواتم وفي أعناقهم السلاسل...
تحدث إلينا وهو يغمز من قناة الشبان قائلا: لقد كان من عادة القبائل في زماننا، كلما حلت أيام التشريق والأضاحي، أن يلاعبوا بعضهم البعض لعبة " الجلود" حيث يعمد شباب قبيلة ما، للهجوم المباغث على قبيلة أخرى، فيخطفون منهم جلود الأضاحي. وعادة ما يتم الهجوم على متن خيل أو بغال. ومتى تمكن المهاجمون من الفرار، أقاموا لذلك حفلات رقص وغناء، يتباهون بها إزاء القبيلة المنكوبة. فإن سقط أحد المهاجمين بيد الأهالي، فإن قواعد اللعبة تقتضي أن يجعلوا منه مثار نكبة واستهزاء للقبيلة الغائرة، إذ كانوا يلبسونه لباس النساء، ويغدقون عليه المساحيق من كحل وسواك وحناء، ويزفونه للقبيلة مثل عروس على ظهر بغلة عرجاء... وعادة ما تلاحقه تلك الشتيمة طول حياته...