ارتسم في كينونته على حين غرة وهو في طريقه الغائم معنى لطالما وفد عليه فجأة دون استعداد وتقدير، والواقع أن هذا المعنى منه يُعرف صاحبه بشكل دقيق، وهو حكم منطقي يجري على ألسن الناس؛ مفاده: "كل شيء يدخل في نطاق الوجود فهو متغير"، "وحال الإنسان داخلٌ في هذا النطاق"؛ "فحال الإنسان في تغير دائم".
لم أجد مثل هذا الوصف والتحديد الذي قاله صديقي "عبد الله" يصدق عن صديقنا "حميد"، الذي أعرفه شخصيا معرفة تحقيق، وقد كان آخر مرة التقيت به الإثنين الماضي، وبدا لي من خلال تبادل أطراف الحديث أن نفسه قد نزعت إلى تغيير موضعه الذي لبث فيه زمنا ليس بالقليل، وطال مكوته فيه، وسعى فيه سعيا، كما كابد من أجله مكابدة، حتى إن من يراه في وضعه ذاك لن يخطر على باله في يوم ما أن يفكر في الانتقال منه، وقد كان قبل ذلك يحمد الله على تلك النعمة، ويجد فيها نفسه، ويرنو البقاء فيه طويلا طويلا. لا أدري ما الذي حدا به إلى الرغبة العارمة في التحرك من مكانه.. لا أدري، لا أدري. غير أن المحقق عندي أن هناك شيئا ما، وليس بالتأكيد شيئا عاديا مما يمكن أن يقبله المرء دون مواربة، فأنا أعرف الرجل، فليس من عادته أن يقع في هذا المأزق الذي يحرضه على الانصراف عن المقام الذي لطالما حدثني بكل فرح بحبه له وأنه لا يجد راحته إلا فيه، ولم يقع على فؤاده في وقت من الأوقات –وأنا أعي ما أقول- أنه سيأتي تاريخ يسمح فيه عن تلك الجلسة الملائكية أمام بستانه العقلي الحالم.
وصحيح أنه لا يكاد يخلو طريق شخص من أمور تظهر أحيانا على شكل أطياف من التيه والضلال، وبمقدورها في زمن غير محدد أن تتحول إلى أزهار تضفي على الأيام رونقا بهيا ينسي المارّ من الحجيم ما قاسى من ألم وما لحقه من تعب، ولكنها تظل بالقياس إلى غيرها من الأيام كاوية للخواطر التي لا يتوقف سيلان حركات الذهن من إنتاجها؛ ذلك أنه عادة ما يبلغ به الأمر أن يستسلم لتلك الأطياف بالنزوع إلى أي رصيف يتمطاه، دون أن يسأل إلى أين سوف يصل به، ومع ذلك ينازعها ويتولى استشفاف كل ما هو جدير باستمداد ما يمكن أن يجعله مفعما بالذوق المحرك للمياه الراكدة في مخيلته.
ولقد كان لي مجلس مع "حميد" في فضاء اجتماعي نناقش فيه بعضا من الأفكار المتنوعة في شتى مجالات المعرفة، وهذا المجلس يحضره رفقاء لنا -بما فيهم صديقنا المشترك عبد الله- يشاركوننا بما أوتوه من فكر، وجميعنا من أولئك الذين تجتمع فيهم خصال السذاجة والمثالية والطوباوية، ولسنا كلنا متشابهين تمام المشابهة، فأحيانا تجعلنا المشاهد فاقدين لنسيم الشباب، حتى أن فردا منا قال ذات يوم: "ويحك؛ إن أحلامنا سوف نعيشها في الشيخوخة"، وهذه العبارة هي التي التقطها "حميد"، فكان يرددها كثيرا: "إنها أحلام الشيوخ يا صاح". هكذا كانت تدور المواضيع بيننا، أشياء مثالية، أمور طوباوية، لا شيء من اليقينيات موجود.
فكان أن اختار كما أخبرني وجهة لم أكن ساعتها أتوقعها، ولا أدري لماذا هي بالضبط. أجل؛ إنه قد فاجأني بشكل لم أكن على استعداد لتصديق حالة التغيير التي انتابته، وعلى الرغم من ذلك؛ في كثير من الأحيان تجدني غير راغب في سؤاله عنها، لكونه من أولئك الناس الذين لا يودّ أحد معرفة أي سبب لما يقوم به، إنه يظن أن الأسرار المعروفة لا ينبغي أن تُعرف، وهل هذا يا ترى يعتبر سرا؟ كلا؛ إذ يمكنه أن يُعرب عن بعض من الأمور التي يقال عنها إنها أمور عادية بين الأصدقاء، ولكني، أبيت إلا افتتاح الكلام معه بوسيلة تمنحني طريقة الوصول إلى غايتي دون احراج مباشر.
وإذ ذاك قلت له:
- قد بت تتخلف عن مجلسنا في هذه الأيام الأخيرة، إن من نظر إلى التغيير الذي طالك، لينتهي إلى أنك قد وجدت مكانا أفضل من مكاننا، وجوا أحسن من جوّنا الروحي، ورِفاقا أنفع منا، نحن لا ندري ماذا بك، ولا الأسباب التي حوّرت جوانب كثيرة من ذاتك، ولو علمنا ذلك ما سألنا عنك، والحال أن الذي يسأل لا يسأل إلا لأهمية المسؤول عنه.
قلت هذا ولم يتضح من محياه أي شيء يمكن أن تتبدى فيه جوانب من الحقائق التي تستطيع أن تؤديها نسمات الوجه إلى المحاور.
فأجابني قائلا:
- كلا يا صديقي، ولكني في حقيقة الأمر طرأت بعض الأمور، وانجلت بعض الحقائق، وفسدت بعض الخطرات، كما بطلت بعض الحجج، فلم أعد أستطيع الاجتماع مع بقية الرهط، وليس كما قلت، ولا كما يهيأ لك ولباقي الرفاق.
- من الواضح أن هذا الصياغة المقولية لا تجانب كينونتك المعتادة، وإن الإغراق في هذا الخفاء، واقحام العبارات المغلقة؛ لدليل على أن هناك شيئا ما، كيف يمكن إدراكه؟ هذا ما لا أجد له سببا أترصده.
- مهلا، وتريث قليلا، واسمع مني: إن المرء ليظن أنه يفقد النباهة والوعي في أمور، ولا يدرك أنه يملكها في غيرها، ولكنه لا يعلم أن تلك التي فقدها ترتد إلى الجهد الذي يبدله في التي يملكها، بحيث تمتص كل طاقته، وإذا رآهما في أي شخص -من التي فقد- يظن أنه أبله وسادر، قد تكون ساذجا في أشياء ولكنك في أشياء أخرى تكتشف أنك على وعي تام، ومع ذلك لا جرم أن في أي شخص ثغرة، وهي في حقيقة الأمر ثغرة تدور بالقياس مع السن أكثر مما تدور مع غيره، في الطفولة ثغرة، وفي الشباب ثغرة، في الكهولة ثغرة، والكمال لله تعالى.
يا إلهي، ما هذا الذي يتلقاه سمعي. غير أن كلامه لم يحرك في نفسي أي شيء نحوه، مما يمكن أن يؤدي إلى خسارة صداقته، فأنا إنسان هادئ قانع أحب السكون. على كل حال تركته، ولم أعاود الاتصال به مرة أخرى، ولكني في عشية الإثنين الماضي كما أشرت، وأنا على مقربة من محطة الحافلات، وجدته قد فرغ من شراء تذكرة الحافلة وسالته في حينه:
- إلى أين يا صاح؟
- إلى وجهة، الحق سبحانه وحده يعلمها.
- إنها إجابة تائه.
- نعم تائه.
- إن المسلم لا يتيه أبدا.
- يجوز ذلك، ولكنه منطق اللحظة.
- كيف؟
- وهل التأئه إلا من يحلم أحلام الشيوخ؟ !
- ولئن كنت صديقك فإني أعرف أنك عندما تتحدث فلك منطق يدور مع اللحظة، لكل لحظة منطق فما هو منطق هذه اللحظة؟
- قلت إنها أحلام الشيوخ، أولم تسمع بها من قبل؟
- سمعت فقط بأحلام الشباب، أما تلك فلن تجدها حتى في شروحات القواميس المتنوعة.
- إنه منطق الواقع.
- وما هو؟
- قد يهجس في الخاطر ونحن لا ندري عماذا نتسأل، نريد أن نسأل عن أي شيء، فلا نجود إلا ببعض الأسئلة الغريبة. وعبتا، أوليس من تنصرف أسئلته نحو التافه من الأمر إلا من غمرته أكوام من الأسئلة، فلما لم يجد لها إجابات ادعى أنه لم يجد ما يسأل؟ ! فعلى هذا النحو من العبارة نتسأل: هل للشيوخ يا سيدي أحلام كما للشباب أحلام؟
- هل تطرح علي أنا مثل هذه الأسئلة وأنت تعلم يقينا قدراتي المثالية التي لا تخرج عن الذهن؟
- كلا؛ إنما هي أسئلة ترتبط بشكل مباشر بالواقع وبالعلاقة بين أحلام الشباب وأحلام الشيوخ.
- من المؤكد أن الجنس البشري لا شيء ينفك عنه حتى تخرج منه الروح مثل الأحلام.
- أجل، ولكنها تختلف بحسب المكان والزمان والوضع.
- ما معنى ذلك بالتحديد؟
- سنجد يا صديقي -ونحن ماضون في طريقنا دون وعي بالمكان الذي نوّد التأدي إليه- من يريد استعادة أحلام الشباب بعد أن تمكن من حيازة ما كان محتاجا إليه في شبابه من الوسائل والآليات، والحق أن في طريقه ذاك قمين بأن يصل إليها، وقد تفرّغ في شبابه لكي يصل إليها، وهو كمن يبيّت في نفسه خبيئة، ولكن لمن؟ لنفسه بالتأكيد، ومن أجل ذلك يترصد كل السبل، ولئن وصل إلى مراده -ويا ليته لم يصل- صار فرعون قومه.
- ولكن هذا حال الناس، ومن جبلتهم، حتى أنه جار على الألسنة حكمة بالعامية تدخل في هذا المعنى وهي: "اخدم أصغري على كبري".
- نعم، ولكن يا رفيقي إن أحلام الشباب لا تتجاوز ما يتصل بالقوة الجسمانية وما يتفرع عنها، وهذه القوة إنما تأتي من التمكين الذي يضفيه المنصب والثروة والأسرة، وربما كانت أحلام الشيوخ هي نفسها إذا انبرى الشيخ في متاهات الهوى، ولم تتملكه القوة العقلية والرؤية الدينية، والتجربة تقول بأنه كلما تعارضت المصالح والأخلاق، فإن المصالح عادة ما تنتصر.
أوقفته لبرهة كي أعي ما يلوح أولا منه، ومن ثمة أفكر فيه، فقلت له:
- وما دخل الأخلاق والقيم في هذا الشأن؟
قال:
- إننا نتحدث عن الأخلاق والأخلاق ليست موجودة سوى في الكراسات، إن نفوسنا تستجيشها عبارات الأخلاق، فتستطيع قوة الكتابة عندما يزورها طيف روحاني رصف المعلقات والدواوين وتاريخ دمشق أو يزيد؛ ولكنها أشد انصرافا عن التنزيل مثل قدرتها على التنظير والقول. نعم، تستجيشنا الأخلاق عندما تذكر أمامنا، أو أمام واعظ يذكرنا، ذلك أن الأخلاق في هذا الزمن ليست هي التربية، فكم من الناس يظهر دينهم في تربيتهم وليس في تخلقهم، فالتربية شيء والأخلاق شيء، الأخلاق يمكن أن تلحقها المصالح، فتصيّر المصالح الأخلاق كما تريد، لكن التربية غير ذلك، بل عكس ذلك.
- إن الشيء الذي يمكنني أن أستخلصه من كل هذا الذي قلته لي هو أن أحلام الشباب لا يتحصل عليها إلا بعد أن يبلغ منه الشيب مبلغا، وليست ثمة فائدة إذا لم نحض بهذه الأحلام ونحن في أشد رغبة لها والقوى الإنسانية آنذاك في أوجها والذوق الجمالي إنما ينبعث في تلك المرحلة.
- قد وصلت إلى جزء لا يستهان به مما رمت إيصاله إليك، وتبقى أجزاء أخرى في قلبي دفينة من المحال قولها يا صديقي. إنها حلم كحلم إبليس دخول الجنة.