أنفاسكان بإمكان احميدة أن يكون الدكتور احميدة لو أنه حقق أمنيته التي أفصح عنها للمدرسة، حين سألته عنها ذات يوم، وهو ما يزال تلميذا في قسم الشهادة الابتدائية.. كان بإمكان احميدة أن يكون الدكتور احميدة لو أنه لم يطرد، عامها، من المدرسة، ولو أنه تابع دراساته، وتخرج من كلية طب العيون، أو كلية طب الأفواه، أو كلية طب البهائم، أو كلية الطب، هكذا، حافية.. وكان بإمكان احميدة لو أنه خرج (أو تخرج) من بطن منتفخة –بفعل مرور تسعة أشهر- لامرأة متزوجة من رجل ذي بطن منتفخة.. على أية حال، كتب لاحميدة أن يكون، هكذا، حافيا، بدون "دكتور"، ولا "سي"، ولا هما معا: "السي الدكتور".. وما دامت القاعدة تقول إن كل الأبناء لا بد وأنهم من والديهم يرثون، فإن كل ما ورث احميدة، بشرة بيضاء من والدته، وجسدا نحيفا وقنينة حريق من والده، ثم كوخا من طوب وقصدير وحصيرا وفانوسا غازيا منهما معا.
***
يدخل احميدة إلى مقهى الدرب، مترنحا كالمعتاد، وفي يده قنينة حريق.. يتوقف، أسفل جهاز التلفاز المعلق على الحائط، بعد طول مقاومة لأجل إعادة التوازن إلى جسده المتمايل.. يقول بصوته المخمور، المتقطع، المدندن، والمتثاقل:
ـ أنا العالم، والعالم كله أنا.. أنا لست أنا، ولست أنا، هو أنا.. من أحبني، فهو أخي، ومن كرهني، فهو (منتظرا إجابة) حبيبي.. في رأيكم، من أكون أنا؟

أنفاسلم تنم الليل كله.. ظلت مسافرة على متن اللظى، تنتقل بين الجحيمين: الخيبة التي قصفتها هذا الصباح، والذكرى التي شبت نيرانها من جديد. اغلقت الباب والنافذة، تجردت من كل دفاعاتها، واستسلمت رافعة الأيدي، وعيناها تهطل غزيرة، تعرت للسياط والسهام، فتحت أبوابها لجنود الألم، فغزوها، وبات الجسد يتلقى الطعنات، والروح تتشظى.
قالت وهي تشهق: "لماذا قصفتني بهذه القنبلة!؟.. وكيف أواجه غدي وقد وأدت آخر أحلامي!؟..الحاضر جحيم، والحلم حرقته، فكيف أواصل المشي في شوارع الحياة!؟". وغطت وجهها بالوسادة المبللة بدمع سقوط آخر ورقة في شجرة أحلامها، ليعم الخريف، ويبسط سيطرته على آفاق السبيل الذي تسير فيه منذ أن أرسلتها نطفة إلى الممشى الوعر، وزرعتها نبتة، نمت واخضرت بين ضلوع الحجر، فانطلقت سفينتها تمخر عباب الحياة، كلما توغلت، كلما تقوت الدهشة في شرايينها، عظم القلق، وأينعت الأسئلة. وفي زحمة الأيام والامتحانات، انتصبت أمامها كبستان يفيض بالاخضرار، ومعرض آمال جميلة، وعود منغمة، فركبت صهوته، واختطفها من عالم إلى عالم كبطل أحد أفلام الوستيرن..، وأخذ يشق بها تضاريس الفصول. هو من نطفة./ وهي من نطفة./ هو من دار./ وهي من دار تقابلها. والتقت دهشتاهما، وأخذ يسيران، يتعثران، يبكيان، يضحكان، ينامان، يستفيقان، ينجحان، يرسبان، يغنيان، ينتحبان، يتعانقان، يتعاركان، يتصالحان، يتخاصمان.. ويكبران في زحمة الوقت والأضداد، ويقولان تحت الزخات حين يجود بها المطر:

انفاستعبره كل يوم فتعمق في شغاف قلبه أخدودا من الوله،يتبع ممشاها فتسيل رغبته ويزداد توتره . تصليه حمم جسده ويفور ..يفور ..يفور بعجلة يبلله طوفان الرغبة،يغرقه في ماء آسن ويذوي قبل أن تغادر عينيه،يذوي ككلب ركض وركض فلم يكن نصيبه إلا نصف ظل ولهاث مديد .
اليوم وقفت على باب مغسلته .
ربما قال كلاما جما ..ربما تدلت من لسانه قطعة السكر فلعق شفتيه،لعق ريقه الدبق وماء خياله المنسكب ..ربما فكر أن يقول كلاما طازجا ..ربما سرق شيئا من مفاتنها الحائرة ليغذي به خياله حين تتيبس الطريق ..وربما انكسر أمام فتنتها الطاغية فلم يقدر أن يقول شيئا إذ هناك عميقا،في داخله تتلجلج الكلمات،وبقي يموج برغبة ظن أنها خرجت من مسام جلده ..يتذكر تماما ارتباكه وحيرته وبعضا من مفاصل كلمات تثير الضحك تفوه بها عندئذ ربما غدا نادما على خروجها.

انفاسأنَّى تذهب كنت تجد أحمد العقلة... نجارا تلقاه. حلاقا تلقاه تاجرا في مخلفات الجيش تلقاه. ثم هو بعد هذا يجيد شغل الآلاتية، وكي الناس للشفاء من الأمراض. وجس البهائم العشر والقيام بأعمال الأبونيه وتعهدات فرق المزيكا والرقص، وإصلاح الكلوبات والبوابير في الأفراح. وحتى في "تلتيم الموتى" تلقاه.
ومع هذا كله فقد كان بساق واحدة.
أو على وجه الدقة بساقين: ساق خلقها الله وساق صنعها بنفسه على هيئة عكاز عظيم الشأن تفتن في مسحه وتنعيمه وتزويقه، وحفر الحمام والعصافير والنساء الممسكات بسيوف عليه.
وإذا كانت ساقه التي خلقها الله وسواها تمشي في أمان الله وبصمت غير مسموع. فساقه التي خلقها هو لها دبيب معروف وفي أي مكان البلد يمكن أن تسمعه..

انفاسعلى الحائط،  مقابل الباب الذي فتحه بقدمه، واجهته صورة كبيرة لأرنست همنغواي، وكومضة تذكر الصورة التي يزين بها غرفته، تحتها تماما كانت ثمة طاولة، وكان ــ ذاك ــ يجلس، يقرأ على ضوء مصباح زيتي، كان يقتعد كرسيا خشبيا،،، أجفل، وحاول أن يتناول مسدسا على طاولته، لكن رجة من بندقية الداخل أوقعته على الأرض.
بعد أن سقط، وعلى الرغم من حرج الموقف، لم يتمالك الداخل نفسه، وأخذ يحدق في صورة الحائط الكبيرة،إنها الصورة نفسها التي يزين بها حائط غرفته، صورة همنغواي يرتدي تلك الكنزة الصوفية ذات الرقبة.
وعلى الرغم  من دقة الموقف مرة أخرى أجال الداخل عينيه على حيطان الغرفة، كانت هناك صور كثيرة لمجموعة أطفال جياع، ومجموعة صور لنساء عرايا، ولوحة شاجال. أهي المصادفة كذالك أن تكون حيطان غرفة الداخل مغطاة كذالك بصور أطفال جياع و نساء عرايا ؟


الأطفال الذين تعودوا على إرسال الكرة نحو زجاج كل  النوافذ دونما حذر، استثنوا شقة واحدة أحدهم يصيح دائما في بداية اللعب :
-احترموا هذه الشقة فهمتم، لا نريد مشاكل مع المخزن
- احترموا هذه الشقة وابتعدوا إلى الخلف، لا نريد مشاكل
تصيح إحدى الأمهات أيضا، ويتحول الأطفال صوب بيت الحارس ، يكتفي الحارس  بالابتسام نافذته الصغيرة
طار زجاجها منذ زمن ربما لهذا لا يجد مبررا للصراخ في وجه الأطفال ، ثم ربما  يفكر أن لا أهمية للزجاج مادام ينام خلف باب العمارة ليلا ويجلس أمامها نهارا، أو ربما يفكر في أشياء أخرى تنسيه صخبهم أو تحببه إليه...يقف في حركة مفاجئة تجعلك تتوقع  انه أخيرا  سيتمرد ويصرخ في الأطفال كي يبتعدوا..لكنه  يلف حول  العمارات  في حركة استكشافية روتينية ويعود إلى كرسيه

في يوم من الأيام، اقتحم رجال الشرطة بيتنا، وبحثوا عنّي وعن زوجتي، ولم يتمكنوا من العثور علينا لأنّي تحوّلت مشجبًا، وتحوّلت زوجتي أريكة يطيب الجلوس عليها. وضحكنا كثيرًا عندما خرجوا من البيت خائبين.وفي يوم من الأيام، كانت السماء زرقاء لا تعبرها أي غيمة، فقصدنا أحد البساتين، فإذا رجال الشرطة يدهمون البستان بعد دقائق طامحين إلى الإمساك بنا، ولكنهم لم يوفقوا لأنّي تحوّلت غرابًا أسود اللون، دائم النعيب، وتحوّلت زوجتي شجرة خضراء، غزيرة الأغصان. وضحكنا كثيرًا من إخفاقهم.
وفي يوم من الأيام، تذمرت زوجتي من عملها في المطبخ، فذهبنا إلى أحد المطاعم، وما إن بدأنا نأكل حتى طوّق رجال الشرطة المطعم، واقتحموه عابسي الوجوه، وفتشوا عنّا تفتيشًا دقيقًا، ولم يجدونا لأنّي تحوّلت سكينًا، وتحوّلت زوجتي كأسًا من زجاج ملأى بالماء. وضحكنا كثيرًا لحظة غادروا المطعم قانطين.

انفاسكان الجنرال رجلاً ذا رئتين ومعدة وأمعاء غليظة وأمعاء دقيقة وكبد وشرايين ملأى بالدم الأحمر، ولا يختلف عن غيره من الرجال إلاّ بكونه جنرالاً في جيش محارب في بلاد ليست بلاده. وكان الجنرال كثير الضجر من مهنته الخالية من الإثارة، ويحلم بأن يعمل يومًا في مزرعة لتربية البقر والغنم أو في مستشفى للمعوقين والمسنين. وكان الجنرال صارمًا كثير الاكتئاب، لا يبتهج إلاّ حين يتخيل عصفورًا صغيرًا يحاول الطيران ويخفق، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل جنوده المطيعين لأوامره يحتلون القرى والمدن متنافسين على هدمها وقتل سكانها، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل أنّه يزود جنوده بأسلحة قادرة على إبادة مئات الألوف في ثوان، فلا يحاولون استخدامها حتى لا يحرموا قتل أعدائهم ببطء وتشف. وابتهج في أحد الأيام ابتهاجًا مختلفًا حين تنبه إلى أن شعرًا جديدًا أسود بدأ ينبت في رأسه ويحل محلّ الشعر القليل الأشيب، وتباهى به دليلاً على الرجولة وعودة الشباب. وتزايد نمو شعر جسمه مغطيا الجلد بطبقة كثيفة خشنة، وتبدل شكل وجهه تدريجيا.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة