توقفت مرتين على الجسر متثاقلة، قبل الوقوف الأخير في وسطه.. وبذا تكون هذه النقطة هي الأبعد عن مياه النهر فتسهل مهمتها القاسية.. والأبعد في الوقت نفسه عن الشاطئين لتضاف سهولة أخرى.. ولكن!. كيف سيواجه أشقائها عامة الناس؟.. ويواجهوا الأصدقاء؟ لا سيما أن أعداداً من سكان الديوانية قد نزحت إليها من القرى والأرياف.. ولو ـ لعنت الشيطان ـ وعادت بخفي حنين إلى المدينة، كيف ستواجه الأم التي طالما حذرتها منه؟ إذ هي على دراية أن السفر هاجسه بقصد الدراسة أو الإقامة أو ما يبرر له هذا.. عدا أن الكثير من شباب الحي يمني النفس بها، وهي لن تمني النفس إلا به، لذا لقبتها أمها ـ إكحيلة ـ عن استحقاق.
فبعد مضيها لبعض الوقت في غرفته تنهض لتضع لمساتها على جميع مقتنيات الدار ولوازمه، لم تدع صحناً أو قطعة ملابس إلا وغسلتها وتحديداً ملابس أمه.. التي أحبتها بصدق.. والحق، إنها كانت كحمامة بيضاء هادئة ووديعة.. كغزال بري في لفتاته. كثيراً ما أضافت إلى المنزل هالة رائعة بتشكيلات ملابسها وتسريحات شعرها. كان الشريط الأسود بعرض اصبعين يطوق جيدها ويضفي عليها الكثير.. كانت واثقة الخطى في المنزل.. وواثقة منه تماماً، فعما قريب ستأتي رسمياً إلى الدار، وبذا تلقم الأفواه الممطوطة الشفاه هزءاً بحجر.. فأمها حين امتثلت لإرادتها، قالت ذات صباح:ـ إنها كفيلة بإسكات أشقائها.