(1)
سرّحت شعرها وعقدته بمشبك مذهب تاركة خصلات نافرة فوق الجبين..نظرة أخيرة إلى الدمع الوردي المبتهج فوق الشفتين , الجاكيت الجلدية السوداء والكولون, ثم وقع قدميها: تيك تيك تيك, باتجاه الخارج.. الصباح ينتظر فاردا ذراعيه, وهي : تيك تيك تيك, لا تبالي بالنظرات المتقافزة نحوها كالفراش , بكراسي المقاهي والواجهات .تبلغ مقصدها , فيكف الكعبان عن التكتكة..تلم كل الفراشات التي لاحقتها, تضعها في حقيبة اليد, وتصعد الأدراج.
ويبقى السؤال الذي ينوشني على الدوام: ما الذي يشدني إليها, أ جمالها أم وقع قدميها؟ تلك التكتكة الموزونة..الموزونة بدقة متناهية كأجراس القيامة, وتلك الموسيقى:
نغمات ناي وأنا عائد من المدرسة , صغيرا ونحيلا , تتقاذفني الريح إذا اشتدت , فوق البيادر والأسطح, أعشاش السقساق واليمام..صغيرا ونحيلا وعائدا من أول حصة دراسية , ثم سمعت الموسيقى..رأيتها أمامي في هيأة شاب مقرفص فوق العشب , وحبات تين تتساقط من ثقوب الناي , حبات عنق حمام حزينة جدا وشفافة..وحين سألتني أمي عن المدرسة, حدثتها عن الشاب المقرفص على العشب والموسيقى الحزينة, التي سكبت في دمي نهرا من البكاء..فهل هو جمالها أم الموسيقى التي توقعها القدمان؟
(2)
تقع المدرسة بجوار الكوميسارية وقبالة مقهى .تفتح بابها في الثامنة والنصف , بعد أن يكون رجال الشرطة قد أخذوا مواقعهم, تحدثوا في أحوال الطقس وبدأوا في زجر المواطنين الراغبين في الحصول على البطاقة الوطنية ..ويكون الحسين قد فكر – مرة واحدة على الأقل- في ترك حرفته (الجاحدة) , إذ يكون أحدهم (والصباح في بدايته ما يزال) قد تملص من أداء القهوة.
تستقبل شبانا من الذين لفظهم نظام التعليم..فتيانا يافعين وكواعب. ولفظ المدرسة يطلق عليها تجاوزا, فهي أقرب إلى النادي منها إلى المدرسة, أقرب إلى تلك المحافل التي يرتبط أعضاؤها بمذهب عقدي صارم..تحتوي على طاولتي غولفازور ورقع شطرنج, وسبورة مسندة إلى أحد الجدران إزاء طاولة بيضاوية تحف بها الكراسي في حجرة معتمة ودون نوافذ.
تعرف الكوميسارية أن المدرسة لا تقدم تعليما لروادها , لذلك تساءلت كثيرا عن سر الطاولة البيضاوية والسبورة .. ولفترة غير قصيرة, ظلت ترتاب فيما يتداول ويكتب هناك على أنه إشارات وترميزات مبسطة لوقائع بالغة الخطورة .في هذه الأثناء, ظلت المدرسة مكبة على أنشطتها , غير آبهة بصخب الكوميسارية وتحرياتها..تتدحرج الكرة البيضاء التي تلقت وكزة من القضيب فوق العشب الزاهي, ترطم إحدى الكرات الحمراء وتدفعها إلى الحفرة ..وقريبا من هناك, يفكر أحد الوزراء في كيفية الإنفلات من نسيج العنكبوت الذي يحيكه العدو..يعلو الصخب حوالي الطاولتين, وتركض جياد إلى حتفها..وفي الخارج, يستعجل الحسين أن تفرغ المقهى كي يلتحق بإحدى الطاولتين ويلعب الغولفازور.. لكن المقهى لم تفرغ : هناك أستاذ يصحح فرضا , مجموعة من الشبان يثرثرون , بائع السجائر بالتقسيط على مقعده المعتاد, وعلى مقعد آخر , قبالة المدرسة, أحمد الزاوي يقارع جرذان الأعماق.
لقد وجد نفسه مشدودا إلى المدرسة بألف رباط موشى بالسنابل , منذ أن رأى الفتاة التي تلاحقها الفراشات..تلك الموسيقى الدامغة , الإنتظام القاسي لوقع الكعب على الإسفلت: تيك تيك تيك..وقع لا يعتريه خدش , وليس به انفلات أو زوغان, و..
- قل لي آ الحسين , قل لي, قل لي ماذا يفعلون هناك؟
والحسين الذي يعرف أن "الهناك" صادرة عن أحمد الزاوي لا تعني إلا مكانا واحدا: المدرسة, يجيب في شيئ من الخبث:
- يلعبون الغولفازور والشطرنج, آ السي أحمد.
- ذكرت لي هذا مرارا, إنما أسألك عن الحجرة الداخلية.
- لم أدخلها قط ..أحمل إليهم ما يحتاجونه من مشروبات, وألعب الغولفازور..أما تلك الحجرة, ف...
- أعرف, لم تدخلها قط..لكنك , بالتأكيد, تسمع ما يروج عنها؟
- يقولون..إنها مخصصة لقراءة كتاب..كتاب واحد يقرأونه طول الوقت , دون أن ينتهي أو يستهلك..كتاب كالموت, أو هو كتاب الموت نفسه.
(3)
يقف أمام الكوميسارية , ويفكر في أنه على عتبة التقاعد ..على الرصيف المقابل بجانب المقهى, جماعة من القرويين ينتظرون ذويهم الذين دخلوا برؤوس مشجوجة, كي يأخذ المخزن حقهم..ستكون مسألة حدود, في الغالب, أو مصاهرة انتهت بهذا الشكل الدامي, ثم يحشرون في تلك الدوامة التي ليس لها مخرج: محاضر وشواهد طبية وشهود ومحاكم وسيرواجي...و..
- هل الجنة بحق أجمل ألف ألف ألف مرة من القرية؟
- هي أجمل مما تتصور, وإليها سيسكن أبوك لأنه كان رجلا خيّرا.
كان صغيرا ونحيلا , يخشى الريح والمرتفعات ..وقيل له إن أباه صعد إلى السماء , وإذن فالموت هي التي يحملونها على الأكتاف مدثرة بثوبها الأبيض, ثم رأى الموسيقى..حبات عنق حمام معسلة وشهية, تنثال من الثقوب وتستقر على العشب..حزينة جدا وشفافة كقطعة كتان أبيض محمول على الأكتاف.
منذئذ اقترنت لديه الموسيقى بالحزن , فداخل كل موسيقى ريش الحزن الفاحم .. داخل كل موسيقى صورة للموت..تيك تيك تيك...
(4)
يحيط بالطاولة أربعة وعشرون كرسيا ..قاعة معتمة ..صمت ووجوم ..وحدها موانئ الساعات حقول مضيئة, مستوطنات من ضوء وبذخ لعقارب سوداء تلف على أذنابها في حركة لا تكل , وصوت المحركات الدقيقة : تيك تاك تيك تاك..بين الفينة والأخرى يرتد أحد الكراسي إلى الوراء إثر رجة مباغتة ويسقط, فالطاولة مثبتة إلى ترس دوّار يجعلها تدور حول نفسها مثل لعبة الروليت الروسية..
غرفة معتمة, ولا شيئ ..غير دوران لا ينتهي, وكراسي مآلها السقوط, ساعات بموانئ مضيئة ومحركات: تيك تاك تيك تاك..
ثم يد تكتب على السبورة:
"هو ذا كتاب الموت : حكاية طاغية اسمه كرونوس يتلهى بأكل أبنائه.
أليس الزمن , بحراكه وتغييره الأشياء , هو الوجه الآخر لتلك الأيقونة الجامدة: الموت؟"
(5)
تخرج الفتاة, وتطلق المحاجر فراشاتها..
يودع أحمد الزاوي الحسين, ويمضي..
"مسكين السي أحمد" يغمغم الحسين.." ينكر على الفتاة أن ترتاد قاعة للألعاب , يقتل فيها الوقت بالغولفازور والحشيش.. يدعوها مدرسة, ويتصور أن هناك حجرة داخلية, بطاولة بيضاوية وسبورة .. حجرة معتمة لتقليم أظافر الموت, وإضفاء نبل على الفتاة..إيه, الحب وما يدير , يحمق اللي ما يحماق".
أوائل التسعينيات
-----
*عنق حمام (بتسكين الحاء) اسم لأحد أنواع التين المغربي الشهي
تقع المدرسة بجوار الكوميسارية وقبالة مقهى .تفتح بابها في الثامنة والنصف , بعد أن يكون رجال الشرطة قد أخذوا مواقعهم, تحدثوا في أحوال الطقس وبدأوا في زجر المواطنين الراغبين في الحصول على البطاقة الوطنية ..ويكون الحسين قد فكر – مرة واحدة على الأقل- في ترك حرفته (الجاحدة) , إذ يكون أحدهم (والصباح في بدايته ما يزال) قد تملص من أداء القهوة.
تستقبل شبانا من الذين لفظهم نظام التعليم..فتيانا يافعين وكواعب. ولفظ المدرسة يطلق عليها تجاوزا, فهي أقرب إلى النادي منها إلى المدرسة, أقرب إلى تلك المحافل التي يرتبط أعضاؤها بمذهب عقدي صارم..تحتوي على طاولتي غولفازور ورقع شطرنج, وسبورة مسندة إلى أحد الجدران إزاء طاولة بيضاوية تحف بها الكراسي في حجرة معتمة ودون نوافذ.
تعرف الكوميسارية أن المدرسة لا تقدم تعليما لروادها , لذلك تساءلت كثيرا عن سر الطاولة البيضاوية والسبورة .. ولفترة غير قصيرة, ظلت ترتاب فيما يتداول ويكتب هناك على أنه إشارات وترميزات مبسطة لوقائع بالغة الخطورة .في هذه الأثناء, ظلت المدرسة مكبة على أنشطتها , غير آبهة بصخب الكوميسارية وتحرياتها..تتدحرج الكرة البيضاء التي تلقت وكزة من القضيب فوق العشب الزاهي, ترطم إحدى الكرات الحمراء وتدفعها إلى الحفرة ..وقريبا من هناك, يفكر أحد الوزراء في كيفية الإنفلات من نسيج العنكبوت الذي يحيكه العدو..يعلو الصخب حوالي الطاولتين, وتركض جياد إلى حتفها..وفي الخارج, يستعجل الحسين أن تفرغ المقهى كي يلتحق بإحدى الطاولتين ويلعب الغولفازور.. لكن المقهى لم تفرغ : هناك أستاذ يصحح فرضا , مجموعة من الشبان يثرثرون , بائع السجائر بالتقسيط على مقعده المعتاد, وعلى مقعد آخر , قبالة المدرسة, أحمد الزاوي يقارع جرذان الأعماق.
لقد وجد نفسه مشدودا إلى المدرسة بألف رباط موشى بالسنابل , منذ أن رأى الفتاة التي تلاحقها الفراشات..تلك الموسيقى الدامغة , الإنتظام القاسي لوقع الكعب على الإسفلت: تيك تيك تيك..وقع لا يعتريه خدش , وليس به انفلات أو زوغان, و..
- قل لي آ الحسين , قل لي, قل لي ماذا يفعلون هناك؟
والحسين الذي يعرف أن "الهناك" صادرة عن أحمد الزاوي لا تعني إلا مكانا واحدا: المدرسة, يجيب في شيئ من الخبث:
- يلعبون الغولفازور والشطرنج, آ السي أحمد.
- ذكرت لي هذا مرارا, إنما أسألك عن الحجرة الداخلية.
- لم أدخلها قط ..أحمل إليهم ما يحتاجونه من مشروبات, وألعب الغولفازور..أما تلك الحجرة, ف...
- أعرف, لم تدخلها قط..لكنك , بالتأكيد, تسمع ما يروج عنها؟
- يقولون..إنها مخصصة لقراءة كتاب..كتاب واحد يقرأونه طول الوقت , دون أن ينتهي أو يستهلك..كتاب كالموت, أو هو كتاب الموت نفسه.
(3)
يقف أمام الكوميسارية , ويفكر في أنه على عتبة التقاعد ..على الرصيف المقابل بجانب المقهى, جماعة من القرويين ينتظرون ذويهم الذين دخلوا برؤوس مشجوجة, كي يأخذ المخزن حقهم..ستكون مسألة حدود, في الغالب, أو مصاهرة انتهت بهذا الشكل الدامي, ثم يحشرون في تلك الدوامة التي ليس لها مخرج: محاضر وشواهد طبية وشهود ومحاكم وسيرواجي...و..
- هل الجنة بحق أجمل ألف ألف ألف مرة من القرية؟
- هي أجمل مما تتصور, وإليها سيسكن أبوك لأنه كان رجلا خيّرا.
كان صغيرا ونحيلا , يخشى الريح والمرتفعات ..وقيل له إن أباه صعد إلى السماء , وإذن فالموت هي التي يحملونها على الأكتاف مدثرة بثوبها الأبيض, ثم رأى الموسيقى..حبات عنق حمام معسلة وشهية, تنثال من الثقوب وتستقر على العشب..حزينة جدا وشفافة كقطعة كتان أبيض محمول على الأكتاف.
منذئذ اقترنت لديه الموسيقى بالحزن , فداخل كل موسيقى ريش الحزن الفاحم .. داخل كل موسيقى صورة للموت..تيك تيك تيك...
(4)
يحيط بالطاولة أربعة وعشرون كرسيا ..قاعة معتمة ..صمت ووجوم ..وحدها موانئ الساعات حقول مضيئة, مستوطنات من ضوء وبذخ لعقارب سوداء تلف على أذنابها في حركة لا تكل , وصوت المحركات الدقيقة : تيك تاك تيك تاك..بين الفينة والأخرى يرتد أحد الكراسي إلى الوراء إثر رجة مباغتة ويسقط, فالطاولة مثبتة إلى ترس دوّار يجعلها تدور حول نفسها مثل لعبة الروليت الروسية..
غرفة معتمة, ولا شيئ ..غير دوران لا ينتهي, وكراسي مآلها السقوط, ساعات بموانئ مضيئة ومحركات: تيك تاك تيك تاك..
ثم يد تكتب على السبورة:
"هو ذا كتاب الموت : حكاية طاغية اسمه كرونوس يتلهى بأكل أبنائه.
أليس الزمن , بحراكه وتغييره الأشياء , هو الوجه الآخر لتلك الأيقونة الجامدة: الموت؟"
(5)
تخرج الفتاة, وتطلق المحاجر فراشاتها..
يودع أحمد الزاوي الحسين, ويمضي..
"مسكين السي أحمد" يغمغم الحسين.." ينكر على الفتاة أن ترتاد قاعة للألعاب , يقتل فيها الوقت بالغولفازور والحشيش.. يدعوها مدرسة, ويتصور أن هناك حجرة داخلية, بطاولة بيضاوية وسبورة .. حجرة معتمة لتقليم أظافر الموت, وإضفاء نبل على الفتاة..إيه, الحب وما يدير , يحمق اللي ما يحماق".
أوائل التسعينيات
-----
*عنق حمام (بتسكين الحاء) اسم لأحد أنواع التين المغربي الشهي