(..مدينة الدشيرة تغيرت كثيرا ، و لم تعد كما كانت في سنوات خلت ..صامتة .. هادئة و خضراء ..).هذا ما فكر فيه ، و هو في طريقه إلى "المارشي" ..ثم تدارك .. (هذا أمر طبيعي ..التطور و التغير سنة الحياة) . .لكن رغم هذا التغير السريع ، الذي عرفته مدينته ، فهي لم تفقد جماليتها المنبعثة من رائحة الدكاكين الصغيرة ، الموجودة على جانبي الطريق الرئيسي ..و السنوات الطويلة و الصعبة ، في كثير من الأحيان ، لم تنل من شوارعها .. و جدرانها .. و كذلك من بعض أشخاصها ..، إلا بصورة أقل مما كان يتصور ، قبل أن يجمع لوازمه في حقيبته ، في بلاد الأنوار كما يسميها : بلاد الغربة و العجب ، و يعود متلهفا حتى النخاع ، إلى وطنه و بلدته ..، لكن كما سافر منها ، من مدينته ، في ذلك اليوم المشؤوم ، يعود إليها خاوي الوفاض ..هذه المدينة التي كانت في ذلك الزمن الغابر، عبارة عن قرية غارقة في بدويتها ،تتخللها حقول فلاحية ، تخترقها السواقي الجارية و الباردة ..، حيث تعلم الدروس الأولى للسباحة ، مع ثلة من رفاقه المشاغبين أنذاك..، قبل أن يكتشف أمواج البحر الواسعة .. بعملية الأوتوستوب ..
لحسن حظه يملك اليوم دراجة هوائية ، لا يوجد في حيه أصلب منها ..رحم الله أبوه الحاج الحسن التاجر ، الذي زار الديار المقدسة مشيا على الأقدام ، و عندما رجع من بلاد الحج ..، لم يرجع خاوي الوفاض ، كما رجع الآن ابنه البكر السيد عمر ، و بعد "مضي سنتين بالتمام و الكمال – يحكي لحجام الحومة – (استطاع المرحوم أبي أن يجمع ثروة كبيرة ، وأن يبدأ حياة تجارية نشيطة نال منها أرباحا لا تحصى .. لكن أين هو العقل ؟؟، لو فكر جيدا في ذلك الزمن ..لاشترى الدشيرة بترابها و حقولها و بنواعرها وأشجارها و طيورها ، هذه التي لم يعد لها وجود اليوم ، في حياة هذه المدينة المليئة بالضجيج و الثرثرة ..).
نزل من دراجته ،بحذر شديد ، ثم أسندها بلطف إلى قضيب فولاذي مشدود إلى الأرض في الجانبين ..الحركة في السوق ككل يوم تكاد لاتتوقف ..، ازدحام الأجساد عند مدخل الباب الوحيد لهذا السوق في المنطقة .العربات هنا و هناك تبحث عن القوت بأية وسيلة .
وضع السيد عمر- هذا هو الإسم الذي عرف به في حيه منذ عودته غير المتوقعة - القفل الأول حول العجلة الأمامية ، بحيث أحكم ربطها بالقضيب الحديدي ، في حين وضع القفل الثاني حول العجلة الخلفية ، التي يعتبرها صاحبنا أهم جزء في الدراجة " لأنه هو الذي يتحمل ثقل الجسد كله " .
إذا بدأ يحدثك عن عالم الدراجات و السباقات التي فاز فيها ، قبل أن يسافر ، أو خلال السنوات الأولى التي قضاها هناك ، في ديار الروم – كما يسميها - و كذلك الأخرى التي فشل في كسبها أيام عنفوان الشباب – كما يقول – فاعلم أنه لن يسكت إلا بعد سماعه للآذان الموالي ..و كثيرا ما كان يجمع حوله الراغب في تحليق الشعر ، و القاطن بالقرب من الحجام الحسين ، خاصة منهم المسنين الذين يكونون ، في وقت من الأوقات ،قد ملوا من لعبة "الضاما" ، و عندما يسمعون لصوت السيد عمر يتدفق ، كشلال ضائع يخترق أجواء فضاء "الدكان" ، ينهض أحدهم فيقول للمتحلقين حول رقعة "الضاما": (توقفوا عن اللعب ، لقد حان وقت الاستماع لمذياع الدشيرة ..). فيبدأ الصبي الذي يساعد الحجام في جمع "بيادق الضاما" ، ليضعها داخل علبة من خشب الأركان ، فيخرج الجميع منشرحا من الغرفة الضيقة ، المخصصة أصلا للعب و تدخين "الشقوفا" .. ، و شرب كؤوس الشاي "المشحر" ..، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في يوم عادي و قديم . .الجميع يعرف نهايته كيف ستكون ...حديث و حكي ، ثم حكايات .. و ضحك فتعليق ،و أحيان نقاش فجدل حول موضوع أقل من تافه .. ثم ضحك فضحك ..فسخرية ثم إغراق في الضحك ..، و أحيان يسمع التصفيق ..فيعود صاحبنا في نهاية المساء ،على متن دراجته ذات الإطار المعدني الصلب ، هذه الدراجة التي لا يعرف إلا بها في دروب حيه ..و "قفة" أغراض "المارشي" خلفه ، في ما يشبه صندوق خشبي عميق ، ربما لن تجد نسخة منه في جميع الأسواق ، و لدى كل الحرفيين مهما صلت و جلت ....صندوق مصمم خصيصا لدراجته و حمل أغراضه ..هو دون غيره ..
و حين يصل صاحبنا إلى رأس "الدريبة" ، ينزل من دراجته ، التي لا لون لها سوى لونه هو ، على بعد العشرات من الأمتار من حيث يقيم . يمشي واثقا من نفسه كالجمل ، ليقول مؤكدا للجميع أنه ما يزال قويا ..و سيعيش أكثر من هذا الشباب الطائش ، و الذي لم يذق طعم الحياة الحقيقية ...لسوء حظه ..غش .. ، و مسخ .. و تزوير..و هلما جرا ..يجد نفسه مارا وسط حشد من أطفال الحي ، الذين يلعبون بكرة صغيرة ، و عندما يشعرون به قادما ، يكفون عن اللعب ، و يتقدمهم الأشطر منهم ، فيحاول استفزاز حفيظة السيد عمر ..الذي هو في الأصل لا يحتك بالأطفال ، و لم يسبق له أن فكر في أن يتزوج ، رغم أنه تجاوز الستين في عمره ..
إه .. مسيو عمر ..كيف حالك.. أعطني دراجتك أجربها ، وأعطيك هذه الكرة ..
و قبل أن يجيب صاحبنا الصبي المشاكس ، يتابع صبي آخر ما قال رفيقه بنوع من السخرية الواضحة .
واهلي ..اطلب من مسيو عمر أن يعطيك عينه الثانية ، و لا تحدثه عن دراجته ، التي ورثها عن أبيه ..إنها قرة عينه ..
و قبل أن ينهي الصبي كلامه ، يدع صاحبنا دراجته تسقط على قارعة الطريق المزفت ، دون شعور منه ، و يجري كالحصان و بشكل طفولي ، مطاردا الأطفال الذين أغضبوه باستفزازهم لمشاعره ...و كثيرا ما تكرر مشهد سقوطه على الرصيف كلما هم بالجري وراء صبيان الحي ، للقبض و لو على الواحد منهم لمعاقبته ..لكن يكون جريه دائما بدون جدوى ..ليعود إلى مكان وقوع الدراجة مزمجرا و غاضبا ، لكن رأسه مرفوعة إلى فوق . فيحمل برفق دراجته و هو يشتمهم و يسب "طاسلتهم" محملا مسئولية ما وقع لآبائهم قائلا :"ينجبون كالأرانب دون السهر على تربيتهم".
يمضي السيد عمر إلى سبيله ، و يده اليمنى ممسكة بمقود الدراجة الغريب في شكله ، و الذي يسبب له الكثير من المتاعب مع الناس ، و خاصة الصبيان .."لأنه مقود مثير للسخرية و الضحك في نفس الوقت " ، كما قال أحد جلساءه ذات يوم (..مقود شبيه بقرني كبش مسن ..).
هذه الدراجة في الحقيقة تمثل الإرث الوحيد – و يسميه السيد عمر الكنز الثمين – الذي انتقل إليه من أبيه ، الحاج الحسين، الذي أفلست تجارته في آخر أيامه . أما ابنه الوحيد عمر فقد كان حينئذ كالنحلة ..، يستمتع بزهرات زينة الحياة ، و كان مولعا أكثر بالنساء الشقراوات و الأنواع الغالية من النبيذ الأحمر ..و لعبة اللوطو، التي أنهت مع ما تبقى من أجنحته الطويلة و قوة فحولته الشبابية .. حتى في موت أبيه لم يمهله الزمن لمصافحته و توديعه ..و لا حتى حضور جنازته .أزيد من أربعين سنة قضاها متسكعا و مستمتعا بسحر و جمال و بهاء و عبقرية العالم الغربي ..عالم الدهشة و الأنوار..حسب تعبيره ، إلا أنه بقي أمام هذا العالم ، منذ وصوله في أول يوم إلى باريس ، و حتى اليوم الذي لفظته حروف أهرامها الزجاجية .. عاريا حتى من اسمه و هويته ..، بقي مشدودا و مستغربا و مندهشا ..أمام ما رأت عيناه ، و ما سمعت أذناه ، و ما ذاق لسانه ، و ما لمست يداه من أجساد و أشياء ..و هلم جرا.
و عندما عاد .. ..عاد منكسرا و منهارا. و كأنه طعنته يد الزمن من خلف ظهره ..عمر كامل مر مرور البرق دون أن يحافظ له و لو على ماء وجهه و لا احترام أطفال حيه و مدينته .. كمن كان ميتا و عادت إليه الحياة فجأة .. ، لكنها حياة بذوق مر ..أو كمن كان حيا داخل قبر حلم ، استيقظ منه بلا توقع ، لكن يقظتة تلك كانت متأخرة جدا ، إنها أشبه بحياة ديدان التراب ..
محمد بقــوح
وضع السيد عمر- هذا هو الإسم الذي عرف به في حيه منذ عودته غير المتوقعة - القفل الأول حول العجلة الأمامية ، بحيث أحكم ربطها بالقضيب الحديدي ، في حين وضع القفل الثاني حول العجلة الخلفية ، التي يعتبرها صاحبنا أهم جزء في الدراجة " لأنه هو الذي يتحمل ثقل الجسد كله " .
إذا بدأ يحدثك عن عالم الدراجات و السباقات التي فاز فيها ، قبل أن يسافر ، أو خلال السنوات الأولى التي قضاها هناك ، في ديار الروم – كما يسميها - و كذلك الأخرى التي فشل في كسبها أيام عنفوان الشباب – كما يقول – فاعلم أنه لن يسكت إلا بعد سماعه للآذان الموالي ..و كثيرا ما كان يجمع حوله الراغب في تحليق الشعر ، و القاطن بالقرب من الحجام الحسين ، خاصة منهم المسنين الذين يكونون ، في وقت من الأوقات ،قد ملوا من لعبة "الضاما" ، و عندما يسمعون لصوت السيد عمر يتدفق ، كشلال ضائع يخترق أجواء فضاء "الدكان" ، ينهض أحدهم فيقول للمتحلقين حول رقعة "الضاما": (توقفوا عن اللعب ، لقد حان وقت الاستماع لمذياع الدشيرة ..). فيبدأ الصبي الذي يساعد الحجام في جمع "بيادق الضاما" ، ليضعها داخل علبة من خشب الأركان ، فيخرج الجميع منشرحا من الغرفة الضيقة ، المخصصة أصلا للعب و تدخين "الشقوفا" .. ، و شرب كؤوس الشاي "المشحر" ..، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في يوم عادي و قديم . .الجميع يعرف نهايته كيف ستكون ...حديث و حكي ، ثم حكايات .. و ضحك فتعليق ،و أحيان نقاش فجدل حول موضوع أقل من تافه .. ثم ضحك فضحك ..فسخرية ثم إغراق في الضحك ..، و أحيان يسمع التصفيق ..فيعود صاحبنا في نهاية المساء ،على متن دراجته ذات الإطار المعدني الصلب ، هذه الدراجة التي لا يعرف إلا بها في دروب حيه ..و "قفة" أغراض "المارشي" خلفه ، في ما يشبه صندوق خشبي عميق ، ربما لن تجد نسخة منه في جميع الأسواق ، و لدى كل الحرفيين مهما صلت و جلت ....صندوق مصمم خصيصا لدراجته و حمل أغراضه ..هو دون غيره ..
و حين يصل صاحبنا إلى رأس "الدريبة" ، ينزل من دراجته ، التي لا لون لها سوى لونه هو ، على بعد العشرات من الأمتار من حيث يقيم . يمشي واثقا من نفسه كالجمل ، ليقول مؤكدا للجميع أنه ما يزال قويا ..و سيعيش أكثر من هذا الشباب الطائش ، و الذي لم يذق طعم الحياة الحقيقية ...لسوء حظه ..غش .. ، و مسخ .. و تزوير..و هلما جرا ..يجد نفسه مارا وسط حشد من أطفال الحي ، الذين يلعبون بكرة صغيرة ، و عندما يشعرون به قادما ، يكفون عن اللعب ، و يتقدمهم الأشطر منهم ، فيحاول استفزاز حفيظة السيد عمر ..الذي هو في الأصل لا يحتك بالأطفال ، و لم يسبق له أن فكر في أن يتزوج ، رغم أنه تجاوز الستين في عمره ..
إه .. مسيو عمر ..كيف حالك.. أعطني دراجتك أجربها ، وأعطيك هذه الكرة ..
و قبل أن يجيب صاحبنا الصبي المشاكس ، يتابع صبي آخر ما قال رفيقه بنوع من السخرية الواضحة .
واهلي ..اطلب من مسيو عمر أن يعطيك عينه الثانية ، و لا تحدثه عن دراجته ، التي ورثها عن أبيه ..إنها قرة عينه ..
و قبل أن ينهي الصبي كلامه ، يدع صاحبنا دراجته تسقط على قارعة الطريق المزفت ، دون شعور منه ، و يجري كالحصان و بشكل طفولي ، مطاردا الأطفال الذين أغضبوه باستفزازهم لمشاعره ...و كثيرا ما تكرر مشهد سقوطه على الرصيف كلما هم بالجري وراء صبيان الحي ، للقبض و لو على الواحد منهم لمعاقبته ..لكن يكون جريه دائما بدون جدوى ..ليعود إلى مكان وقوع الدراجة مزمجرا و غاضبا ، لكن رأسه مرفوعة إلى فوق . فيحمل برفق دراجته و هو يشتمهم و يسب "طاسلتهم" محملا مسئولية ما وقع لآبائهم قائلا :"ينجبون كالأرانب دون السهر على تربيتهم".
يمضي السيد عمر إلى سبيله ، و يده اليمنى ممسكة بمقود الدراجة الغريب في شكله ، و الذي يسبب له الكثير من المتاعب مع الناس ، و خاصة الصبيان .."لأنه مقود مثير للسخرية و الضحك في نفس الوقت " ، كما قال أحد جلساءه ذات يوم (..مقود شبيه بقرني كبش مسن ..).
هذه الدراجة في الحقيقة تمثل الإرث الوحيد – و يسميه السيد عمر الكنز الثمين – الذي انتقل إليه من أبيه ، الحاج الحسين، الذي أفلست تجارته في آخر أيامه . أما ابنه الوحيد عمر فقد كان حينئذ كالنحلة ..، يستمتع بزهرات زينة الحياة ، و كان مولعا أكثر بالنساء الشقراوات و الأنواع الغالية من النبيذ الأحمر ..و لعبة اللوطو، التي أنهت مع ما تبقى من أجنحته الطويلة و قوة فحولته الشبابية .. حتى في موت أبيه لم يمهله الزمن لمصافحته و توديعه ..و لا حتى حضور جنازته .أزيد من أربعين سنة قضاها متسكعا و مستمتعا بسحر و جمال و بهاء و عبقرية العالم الغربي ..عالم الدهشة و الأنوار..حسب تعبيره ، إلا أنه بقي أمام هذا العالم ، منذ وصوله في أول يوم إلى باريس ، و حتى اليوم الذي لفظته حروف أهرامها الزجاجية .. عاريا حتى من اسمه و هويته ..، بقي مشدودا و مستغربا و مندهشا ..أمام ما رأت عيناه ، و ما سمعت أذناه ، و ما ذاق لسانه ، و ما لمست يداه من أجساد و أشياء ..و هلم جرا.
و عندما عاد .. ..عاد منكسرا و منهارا. و كأنه طعنته يد الزمن من خلف ظهره ..عمر كامل مر مرور البرق دون أن يحافظ له و لو على ماء وجهه و لا احترام أطفال حيه و مدينته .. كمن كان ميتا و عادت إليه الحياة فجأة .. ، لكنها حياة بذوق مر ..أو كمن كان حيا داخل قبر حلم ، استيقظ منه بلا توقع ، لكن يقظتة تلك كانت متأخرة جدا ، إنها أشبه بحياة ديدان التراب ..
محمد بقــوح